نجلاء العبروقي: مجلس الهيئة سيعلن عن رزنامة الانتخابات الرئاسية اثر اجتماع يعقده قريبا    صفاقس: اضطراب وانقطاع في توزيع الماء بهذه المناطق    الليلة: أمطار غزيرة ورعدية بهذه المناطق    قفصة: تواصل فعاليات الاحتفال بشهر التراث بالسند    بنزرت: حجز أكثر من طنين من اللحوم    تحذير من برمجية ''خبيثة'' في الحسابات البنكية ...مالقصة ؟    الترجي الرياضي: نسق ماراطوني للمباريات في شهر ماي    عاجل : وزارة التربية تدعو إلى ضرورة التهدئة ونبذ الأنانية في التعامل    وزيرة النقل في زيارة لميناء حلق الوادي وتسدي هذه التعليمات..    سفيرتونس بطهران يشارك في أشغال ااجتماع لجنة المشتركة التونسية-الإيرانية    %23 من نفقات الأسر للكهرباء.. جهود مكثّفة للانتقال الطاقي    عاجل : عمل بطولي ''لطاقم التونيسار'' ينقذ حياة أحد الركاب    عاجل/ "أسترازينيكا" تعترف..وفيات وأمراض خطيرة بعد لقاح كورونا..وتعويضات قد تصل للملايين..!    مختص في الأمراض الجلدية: تونس تقدّمت جدّا في علاج مرض ''أطفال القمر''    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    خبراء من الصحة العالمية يزورون تونس لتقييم الفرص المتاحة لضمان إنتاج محلي مستدام للقاحات فيها    تأخير محاكمة فتحي دمق    اتصالات تونس تفوز بجائزة "Brands" للإشهار الرمضاني الأكثر التزاما..    عاجل/ تلميذ يعتدي على أستاذته بكرسي واصابتها بليغة..    طبرقة: اصابتان في انزلاق شاحنة توزيع أسماك    إحداث مخبر المترولوجيا لوزارة الدفاع الوطني    بطولة مدريد: أنس جابر تواجه اليوم المصفة 20 عالميا    فرنسا تشدد الإجراءات الأمنية قرب الكنائس بسبب "خطر إرهابي"..#خبر_عاجل    زيادة ب 14,9 بالمائة في قيمة الاستثمارات المصرح بها الثلاثي الأول من سنة 2024    حادث مرور قاتل بالطريق السريعة الجنوبية..وهذه التفاصيل..    الحماية المدنية: 18 حالة وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    مدنين: ''سمسار'' يتحيّل على مواطن بعقود مدلّسة ويسلبه 3 مليارات    تونس: تفاصيل الزيادة في أسعار 300 دواء    تفاقم عدد الأفارقة في تونس ليصل أكثر من 100 ألف ..التفاصيل    هدنة غزة.. "عدة عوامل" تجعل إدارة بايدن متفائلة    بطولة إيطاليا: جنوى يفوز على كلياري ويضمن بقاءه في الدرجة الأولى    مفاوضات الهدنة بين اسرائيل وحماس..هذه آخر المستجدات..#خبر_عاجل    هام/ هذا موعد اعادة فتح معبر رأس جدير..    الخليدية .. أيام ثقافية بالمدارس الريفية    توزر...الملتقى الجهوي للمسرح بالمدارس الاعدادية والمعاهد    مسابقة تحدي القراءة العربي بجندوبة ...32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية    صدر حديثا للأستاذ فخري الصميطي ...ليبيا التيارات السياسية والفكرية    «شروق» على الجهات رابطة الهواة 1 (الجولة العاشرة إيابا) ..مقرين ومنزل بورقيبة يتعادلان والقصرين تضرب بقوة    بدعم من البنك الألماني للتنمية...تجهيز كلية العلوم بقفصة بالطاقة الشمسية    التوقعات الجوية اليوم الثلاثاء..أمطار منتظرة..    في «الباك سبور» بمعهد أوتيك: أجواء احتفالية بحضور وجوه تربوية وإعلامية    بالمدرسة الابتدائية سيدي أحمد زروق: تنظيم الدور النهائي للانتاج الكتابي لسنوات الخامسة والسادسة ابتدائي    محاكمة ممثل فرنسي مشهور بتهمة الاعتداء الجنسي خلال تصوير فيلم    الاحتفاظ بالمهاجرة غير النظامية كلارا فووي    النادي الافريقي: 25 ألف مشجّع في الكلاسيكو ضد النادي الصفاقسي    خالد بن ساسي مدربا جديدا للنجم الساحلي؟    درة زروق تهيمن بأناقتها على فندق ''ديزني لاند باريس''    بطولة الرابطة المحترفة الاولة (مرحلة تفادي النزول): برنامج مباريات الجولة التاسعة    نقطة ساخنة لاستقبال المهاجرين في تونس ؟ : إيطاليا توضح    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب التونسي أبوبكر العيادي: الكتابة صرخة في وجه الظلم والطغيان
نشر في الحوار نت يوم 04 - 06 - 2011

الكاتب التونسي أبوبكر العيادي: الكتابة صرخة في وجه الظلم والطغيان

تونس- العرب أونلاين- عبد المجيد دقنيش
هو اختار المنفى الاختياري والاقامة في باريس منذ سنة 1988، ولكنه بقي وفيا لأرض أجداده وقريته الصغيرة بمدينة جندوبة التونسية التي رأى فيها النور ذات خريف من سنة 1949.ولعه بالأدب وحبه للكتابة جعلاه يندمج في الساحة الثقافية بسرعة ويكون فاعلا فيها بتجاربه المتنوعة واصداراته الكثيرة.هذا هو الكاتب التونسي المقيم بالمهجر أبو بكر العيادي الذي عرفناه أول الأمر في الصحافة الثقافية والانتاج الاذاعي والكتابة للأطفال،ثم فرض مكانته ونحت اسمه بتميز في عالم الكتابة من خلال عدة أعمال قصصية مثل "حقائب الترحال" و"الضفة الأخرى" و"حكاية شعلة" و"حكايات آخر الليل" و"دهاليز الزمن الممتد"، وعدة أعمال روائية نذكر منها "آخر الرعية" و"مسارب التيه" و"لابس الليل" وعمله الروائي "الرجل العاري" الصادر عن دار الجنوب للنشر سنة 2009 والذي تحصل به على الجائزة الثانية للكومار الذهبي.وصدرت له منذ أيام رواية بعنوان "زمن الدنوس".
ويعد أبوبكر العيادي من الكتاب القلائل الذين تميزوا في الكتابة للأطفال بعدة أعمال متميزة تحصلت على عديد الجوائز، وكذلك الشأن بالنسبة للسيناريوهات التلفزيونية والمسلسلات الاذاعية.
ولا ننسى أيضا تجربته الطريفة في محاولة استلهام بعض القصص المستوحاة من التراث العربي القديم والتراث الشعبي التونسي واعادة صياغتها باللغة الفرنسية وتقديمها الى القارىء الفرنسي والأوروبي في شكل أنيق وأسلوب سلس،وهي طريقة ذكية للحوار مع الأخر ابداعيا وثقافيا وازالة الطين عن صورة العرب المشوهة عند الغرب وتعريفه بابداعات الحضارة العربية.
الحديث مع الكاتب أبي بكر العيادي ممتع وشيق وله أكثر من مسرب ويطل على أكثر من ضفة، وقد أخذتنا الدروب في هذا الحوار الى مرحلة الصبى ومراتع الطفولة، والى العالم العجيب وعري الكائن البشري في رواية "الرجل العاري"،وكذلك الى علاقة المبدع العربي بالمنفى،وتحول المشهد الثقافي بعد الثورة التونسية،ورسونا في الأخير على ضفة الترجمة العربية ودورها في الحوار بين الشرق والغرب.. فتعالوا نكتشف كل ذلك في الورقات التالية:
• كيف تفاعلت مع ثورة الشعب التونسي ضد الظلم والطغيان بوصفك كاتبا ومثقفا تونسيا يعيش في الخارج؟
- عشت الثورة كما يعيشها أي مواطن تونسي يحب الخير لهذه البلاد، ولم ينخدع يوما بتضليل النظام البائد، ولا انجذب إلى مغريات كواليسه، ولا عقل قلمه عن فضح ممارساته بالإيحاء حينا وبالتصريح أحيانا أخرى. جسدي وحده كان بعيدا عن الديار، أما الروح والفكر والوجدان فكانت كلها منكبة على مجريات الثورة منذ اندلاعها، أتابع الوقائع لحظة بلحظة، ثم خرجت عن صمتي يوم أن علمت أن ميليشيات النظام تطلق النار على مشيعي الجنائز لدفن موتاهم الذين استشهدوا رميا برصاص الغدر، فصرت أدلي بدلوي مع أصدقائي على الفايس بوك وترجمت وثائق ترصد سرقات عصابة بن علي والطرابلسي وتدميرها اقتصاد البلاد، أرسلتها إلى كل من أعرف، كي يتبينوا بالدليل حقيقة ذلك النظام المافيوزي البشع. وكنت على يقين، وأنا أفعل ذلك دون التخفي وراء اسم مستعار، أني أعرض نفسي للعيش في المنفى بقية عمري، وأعرّض أهلي في تونس إلى الانتقام الذي دأب عليه ذلك النظام البوليسي حيث يؤخذ البريء بجريرة "المذنب". وما كنت أحسب أن يتوصل شعب أعزل إلى الإطاحة بواحدة من أعتى الدكتاتوريات في المنطقة في أقل من شهر، وأن يفر رئيس العصابة وأفرادها فرار الجرذان من سيل طافح.
ولكم سعدت بأن نبوءة الشابي تجسمت أول ما تجسمت في وطنه، ولكم فخرت بانتمائي إلى تونس، هذا البلد الأصيل ذي المجد الأثيل والتاريخ العريق وأنا أتلقى التهاني، غداة سقوط الطاغية، من الفرنسيين والعرب والأجانب المقيمين بباريس وتحيات الإكبار للشعب التونسي الذي أثبت للعالم أنه مسالم حتى في ثورته على قوى الظلم والاستبداد.
وما زلت حتى الساعة أتابع باهتمام كبير ما يجري في تونس وأتنفس مع إخوتي في الداخل مناخ الحرية.
* هل أنت متفائل بمستقبل الثورة؟
- دون شك، فالشعب تخلص نهائيا من عقدة الخوف التي كبلته سنين، وبات يؤمن بأنه أهل لحياة كريمة قوامها الحرية والعدل والمساواة.. ثم إن في تونس اليوم جيل مستنير من الشباب لم يعرف الشرعية التاريخية التي بسط بموجبها بورقيبة سلطانه، ولا يعترف بزعامة فرد مطلق يصاغ له دستور على مقاسه ليضطهد العباد ونهب البلاد بلا رقيب ولا حسيب، جيل منفتح على الحداثة يتوق إلى إرساء دعائم مجتمع تسوده الديمقراطية كما هو الشأن في المجتمعات المتقدمة، حيث الحاكم ينتخب لمدة معينة لا يتعداها ليكون خادما للشعب لا غاصبا لحقوقه، مصاصا لدمائه، ناهبا لثرواته.
وقد أثبت هذا الشباب منذ قيام الثورة يقظته ضد قوى الردة من أتباع الرئيس المخلوع والسائرين في ركبه التي تحاول عبثا الالتفاف عليها وحتى إجهاضها عبر مناورات بمائة وجه ووجه.
* ما هي في نظرك أهم التحديات المطروحة اليوم على المثقف التونسي في الداخل والخارج؟
- التحديات كثيرة، منها ما هو جوهري ومنها ما هو إجرائي.. فأما الجوهري فيتمثل في ضرورة الدفاع عن هوية تونس ولغتها ودينها مع فصل الدين عن السياسة، وضرورة التمسك بمجلة الأحوال الشخصية، وضرورة المحافظة على الحياد الذي مارسته تونس منذ استقلالها في محيط ينذر بتغيرات جذرية.
وأما الإجرائي، فيتمثل في التنبه إلى ما تتخذه الحكومة المؤقتة من تدابير وقرارات كتعيين الولاة والمعتمدين ورؤساء البلديات واللجان الخاصة بالإصلاح وتقصي الفساد وإسناد تأشيرات الأحزاب حتى نقطع الطريق أمام كل متربص بالثورة...، وكذلك توعية الشعب بالكيفية التي سيتم بها انتخاب مجلس تأسيسي "سابق للدستور أو منبثق عن انتخابات تجري بمقتضاه". والأهم من ذلك كله فضح المندسين والمنقلبين والخونة حتى لا يفضي حل التجمع إلى تفريخ تجمعات، فالفروع مهما تجملت لن تختلف عن الأصل، والأصل كما رأينا فاسد.
* كيف تنظر إلى مستقبل الحياة الثقافية في تونس في ظل هذه التحولات الجذرية التي أوجدتها الثورة؟
- لن يكون المستقبل إلا أفضل مما كان، فتونس تزخر بطاقات متميزة في شتى المجالات، ولكنها ظلت معطلة أو مغيبة أو مقموعة، لإيثار القائمين على الشأن الثقافي منذ الاستقلال المناحي الفرجوية العابرة، وإخضاع المؤسسات الثقافية والإعلامية للولاءات الحزبية الضيقة دون اعتبار للكفاءات، فضلا عن تضييق الخناق على القطاع الخاص والمبادرات الفردية. ويقينا أن الثورة التي جرفت معوقات العهد البائد ستفتح الباب أمام كل مبدع أصيل كي يقترح إنتاجا ثقافيا يستجيب لروح الثورة ويلبي طموحات شعبها وتوقه إلى أعمال فنية جادة لا تنكب عن معالجة شتى المواضيع دونما خوف.
أتوقع ظهور مجلات ثقافية وفكرية متميزة تكون ملتقى للمبدعين العرب كافة، ودور نشر محترمة توصل أصواتنا خارج الحدود، مثلما أتوقع ميلاد جيل من المبدعين في سائر الفنون ينهل من معين الثورة وقيمها أعمالا جليلة. بل إن الثورة نفسها ستخلق مئات وربما آلاف الأعمال الفنية فهي ملحمة بأتم معنى الكلمة، وإني أترحم بالمناسبة على دماء الشهداء فلولاهم لما كان هذا الحوار يدور بيننا بمثل هذه الصراحة.
* صدرت روايتك الأخيرة "زمن الدنّوس" منذ أيام في تونس. لو تعطي القارئ فكرة عن أهم المواضيع والمناخات التي تتحرك فيها هذه الرواية. وما هي أوجه الاختلاف أو الإضافة مقارنة بأعمالك الروائية السابقة؟
- هي الجزء الثاني من ثلاثية بدأتنها برواية "لابس الليل" الصادرة عام 2000، وفيها تتبع لمصائر فئة تعاني الخصاصة والتهميش في حي بائس بحزام المدينة، تستن قوانينها الخاصة في مواجهة مجتمع مديني رافض، من أجل إيجاد فسحة عيش ولو بالعنف وخرق المحظور، وفيها أيضا رصد للتحولات المجتمعية في خلفية سياسة ليبرالية عقيمة أدت إلى مظاهرات صاخبة شملت البلاد كلها، وقابلها النظام بالقمع والأسر والقتل. وما أشبه اليوم بالبارحة، فأحداث الرواية تدور في أواسط السبعينات !
إذا كانت رواياتي الثلاث الأخرى تفضح واقع الاستبداد "آخر الرعية، المصادرة منذ نشرها عام 2002" وتعري المآسي التي كانت سببا فيها، سواء في الداخل " الرجل العاري، 2009"، أو في الخارج " مسارب التيه، 2001"، فإن "زمن الدنوس" ترتد إلى الوراء، وتغوص في حقبة من تاريخ تونس الحديث لفهم مشكلات الحاضر. تلتقي في ذلك مع "لابس الليل" في لغتها وبنيتها الدرامية وسرعة إيقاعها وانتماء شخصياتها إلى شريحة مجتمعية مهمشة لا يربط أفرادها بعضهم ببعض غير الفقر والجيرة والعناد في مطاولة رموز السلطة.
• هل كان لظروف النشأة الأولى ومراتع الصبا والطفولة دور في اختيارك طريق الأدب والكتابة؟
- كلاّ، بل أنا مثل نبتة عزلاء في واد صخريّ. نشأتُ في بيئة قروية فلاحية لا يرسل أهلها من أطفالهم إلى المدرسة أو إلى الكتّاب إلا ما فاض عن الحاجة، حاجتهم إلى سواعد للرعي وخدمة الأرض. أنا من قلة قليلة جدا نالت حظوة التعلم عند فجر الاستقلال، حيث أمضيت ثلاث سنوات في الكتّاب قبل أن ألتحق بالتعليم النظامي، بل كنت أول صبيّ من أبناء العشيرة يسجَّل في مدرسة بالمدينة، مدينة سوق الأربعاء، جندوبة حاليا. قد يكون للخرافات المدهشة التي كانت جدتي لأمي تؤثث بها سهراتنا وأسمارنا دور في شحذ خيال الطفل الذي كنت، وقد يكون لمطالعاتي الأولى "قصص كامل الكيلاني ومحمد عطية الأبراشي بخاصة" التي كنت أروم تقليدها، وازع دفعني إلى الكتابة. ربما. ما أعرفه أن الاختيار جاء في ما بعد، بعد نزوحنا إلى تونس العاصمة، في سن المراهقة.
* ما هي أبرز التجارب التي نهلت منها وتأثرت بها في بداياتك؟
- نهلت من عيون المدونة التراثية شعرا ونثرا، مثلما نهلت من روائع الأدب العالمي وأمهات الكتب الأدبية والفكرية، واستوقفتني في رحلتي معها ثلاثة آثار كان لها دور في توجيه بداياتي، أولها حكايات ألف ليلة وليلة وعوالمها البديعة والعجيبة وحبكتها التي تشد الأنفاس، وثانيها كليلة ودمنة برمزيتها العميقة ولغتها المتينة وأسلوبها السلس الجذّاب، وثالثها رواية اللّص والكلاب لنجيب محفوظ. صحيح أني اطلعت في الفترة نفسها على بعض ما أنتجه الكتاب الروس كتولستوي ودستويفسكي وغوركي وتورغنييف والكتاب الفرنسيون كبلزالك وستندال وفلوبير والأمريكان مثل دوس باسوس وهمنغواي وفوكنر ولكن تلك الأعمال، على روعة سبكها ومتانة بنيتها وجدة المواضيع التي تعالجها، لم تكن قريبة إلى نفسي بالقدر الذي يجعلني أستهدي بأساليبها ومضامينها، كما هو الشأن مع روايات نجيب محفوظ : بداية ونهاية، الثلاثية، زقاق المدق...
* عادة ما ترتبط بداية كل كاتب بكتابة الخواطر والشعر خاصة، فهل مررت بهذه المرحلة أم اتجهت منذ البداية إلى القصة والرواية؟
- لست استثناء للقاعدة، فقد بدأت أنا أيضا بكتابة ما كنت أنعته جزافا بالشعر، وما هو سوى مجرد خواطر مسجوعة، بالعامية حينا والفصحى حينا آخر، كنت أتغزل فيها ببعض بنات الجيران، اللاتي كن يبادلنني حبا بحب، من مسافات بعيدة، أو أبثها لواعجي وخيباتي، وأستأنس ببعض الأشعار المنشورة هنا وهناك علني أمسك بالخيط الأول الذي يهديني إلى ربات الإلهام، دون جدوى تذكر. ولم يكن أستاذ العربية الذي درّسنا العَروض في ذلك الوقت أحسن حالا مني، فهو لا يتذوق الشعر، قديمه وحديثه، ولا يميز البحر الطويل من البحر المتوسط ولا الرمل من الطين، وكان يكتفي أثناء الحصص بالقراءة من كتاب في علم العروض لا يفقه من أبوابه أي معنى. ثم خلت أني وجدت ضالتي في شعر الطليعة أو ما عرف عندنا ب"غير العمودي والحر" في أواخر الستينات، فكتبت محاولات كان يمكن أن تجد طريقها إلى النشر، ليس لجودتها، وإنما لضعف ما كان ينشر في تلك الفترة باسم "الشعر"، وما هو في معظمه إلا كلام منثور تغلب عليه الشعارات والمباشرة ولا يرقى إلى مستوى الشعر الشعبي "الملحون". والنتيجة أني أتلفت كل ذلك غير آسف ولا نادم، وأرجأت الكتابة لانشغالي بممارسة الرياضة، رياضة كرة القدم.
* في أقاصيصك ورواياتك حضور قويّ للنفس الشعري، فهل لهذا علاقة بالشاعر النائم فيك؟ وإلى أي مدى تستعمله كطريقة فنية للتوسل والتبليغ ومحاولة التأثير في القارئ؟
-غايتي أن أبلغ ما يسميه العرب "السهل الممتنع"، لكن دون أن يكون في ذلك تكلف أو إخلال بعناصر العمل الأخرى، أي أنّ المقصد الجمالي لديّ لا يقل قيمة عن المقصد الفكري. في نصوصي السردية، الروائية منها بخاصة، حضور للشعر، قديمه وحديثه، عاميّه وفصيحه، ليس كاستعراض يراد به التحلية أو الإبهار، بل كعنصر من العناصر المكملة للخطاب السردي، فالأدب الروائي كما يقول جبرا ينبغي أن يكون على صلة بالشعر، بنفس القدر الذي يكون فيه متصلا بالفنون الأخرى، وقد ساعدتني محاولاتي المتواضعة في قرض الشعر على تبين أسلوب يكون فيه النفس الشعري كما تقول حاضرا في نصوصي دون إخلال بالسرد، ولا ببنية العمل الفني.
أنا أكره تلك الكتابات التي تستهدف الترجمة، والأساليب التي تكون فيها اللغة متقشفة، ناشفة، تغرف من الخطاب اليومي العابر بغير جهد، ويكون فيها صاحبها كالبائس يأكل ما حضر ويلبس ما ستر، مثلما أكره مراكمتها التفاصيل بشكل يجعل النص أشبه بدليل سياحي، دون أن ينهض الوصف بدور يساعد على تنامي الأحداث.
أنا أجهد كي يظهر نصي في أجلى صورة من حيث لغته وأسلوبه وبنيته والأفكار التي أبثها في تلافيفه، تماما كالنّحات في مشغله والرسّام في مرسمه، أستهدي بكل وسائل التعبير الممكنة، إشباعا لرغبتي في خلق عمل فني متكامل يحوز رضى القارئ العارف، وتلبية لمطمح مشروع هو التميّز عن أبناء جيلي، من حيث اللغة والأسلوب.
* كثيرا ما نتحدث عن هذه العلاقة الجدلية الأبدية بين المبدع والطفل الذي يسكنه، أفلا يزال ذلك الطفل الحالم الجامح المتمرد يسكنك أم شردته الأيام وزحمة المدن؟
- وجود هذه العلاقة ليس قاعدة عامة، فالأدباء، شعراء وروائيين، يختلفون في الطبع والتكوين والنشأة، والتحول وارد، لأنه من سمات البشر بل هو من سنن الحياة نفسها. منهم من يظل محافظا على روح الطفل فيه، ومنهم من يكتسي بدلا منها روح الصرامة والجدّ، في سلوكه اليومي، وفي نصوصه على حدّ سواء، وينظر إلى العالم الذي يحيط به كما هو، لا كما كان يحلم أن يكون.
يقول فكتور هوغو في تعريفه المبدع: "هو رجل عظيم في طفل كبير".. وفي رأيي أن ذلك قد يصحّ أكثر ما يصحّ على الشاعر، فهو حالم أبدا، يحلم بعالم مثالي خال من الصراع ومن مكابدات المعيش اليومي، لا يني ينظر إلى العالم بعيون بكر، كأنه يكتشفه لأول مرة، لأن الدافع عنده فني بحت، فهو يقترح ما يدرك بالحدس ولا يدرك بالعقل كما يقول رامبو، وما الشاعر في نظر باسترناك سوى شجرة يسمع لأوراقها حفيف في مهبّ الريح، ولا يملك أن يقود أيا كان. وهذا عكس ما يراه دعاة الشعر الملتزم، فبابلو نيرودا مثلا يعتبر الشعر تمردا وثورة، ولا يمكن بالتالي أن ينظر إلى العالم كما كان ينظر إليه مالارمي. أما الروائي "وكذا القاص"، فمن السذاجة أن يرى العالم بعيون الطفل الذي كان، أو لنقل "وبراءة الأطفال في عينيه" بعبارة نزار قباني وهو المدعوإلى فهم الواقع ورصد تحولاته وتفسير صراعاته وتحليل نفسيات أبطاله في حالات انكسارهم وانتصارهم، هجودهم وفورتهم. ثم
• كيف يبقي الكاتب على الطفل فيه وهو يرى القيم تتآكل، والوطن نهبا لرموز السلطة ومقربيها، والوطن الكبير مغزوّا، مسلوب القرار والإرادة؟
- الآن، وقد جاوزت الستين، لم يبق لي من طفولتي غير ذكريات بعيدة، ولم أكسب من الطفل الذي كنت غير التمرد على السائد، لعلي أحفظ نفسي من الوقوع في الامتثالية conformismeأي نزعة التقيّد بالأعراف المقررة، اجتماعية كانت أم ثقافية أم سياسية، لكي أكون قادرا على رؤية العالم بعيون مغايرة، ووضعه دائما موضع تساؤل.
* تقيم منذ أكثر من عقدين في المهجر بباريس، فكيف تقوّم تجربة هذا المنفى الاختياري ؟ وهل كتب على الكاتب العربي الرحيل والمنفى؟
- الرحيل ليس قدرا، ومن ارتحل اضطرارا أو اختيارا من الكتاب العرب نسبة ضئيلة حتى مقارنة بأجناس الأمم الأخرى، فالهجرة إلى بلد غريب والعيش في مجتمع مغاير ليسا بالسهولة التي نتصور، خصوصا في الأعوام الأخيرة التي شهدت احتداد الأزمات الاقتصادية وانحسار فرص الشغل واستفحال العنصرية وتعاظم نبذ المهاجرين، المسلمين منهم بخاصة، عربا وسودا وآسيويين على حدّ سواء. في هذا الجوّ القاتم القابض، وجدت صعوبة في الانخراط في مجتمع رافض، وما زلت حتى الساعة نادما على الرحيل، لأن أموال الدنيا كلها لا تساوي لحظة واحدة بين أهلك وناسك. فأما العقد الأول، فواجهت فيه مشاكل لا تحصى عددا، تجاوزتها بشغف الإبداع والإصرار على تحقيق الذات، حيث أنتجت ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية. وأما العقد الثاني، فقد صرفته في ما يفيدني أدبيا وماديا، حتى لا "أخرج من المولد بلا حمص" كما يقول إخوتنا في مصر، فالحياة مقدّمة على الأدب، خصوصا وأن العمر يمضي بي إلى المرحلة التي ليس بعدها سوى الانحدار. مارست العمل كامل أيام الأسبوع بغير انقطاع، ما عدا العطل الموسمية، وساهمت بإنتاج غزير في الإذاعة الوطنية وإذاعة الشباب بتونس، وبذلت جهدا مضاعفا كي أكسر الطوق الذي ضربه حولي "إخوان الرياء "، أولئك الذين يعطونك من طرف اللسان حلاوة، ثم يطعنونك في الظهر، ويحرصون حرصا محموما ألا يبرز في الساحة المهجرية سواهم، فقمت بإلقاء محاضرات حول الأدب التونسي وأخرى حول تراثنا الشعبي، وأصدرت بالفرنسية سبعة عناوين ضمت حكايات عربية قديمة وحكايات تونسية شفوية، فضلا عن الكتب المدرسية المقررة التي ساهمت في وضعها لتعليم اللغة والحضارة لأبناء الجالية المهاجرة. وبذلك بدأت أسجل حضوري في الساحة الفرنسية، حضورا لا يزال محتشما والحق يقال، ولكني أشعر أني أنقذت في الجملة ما يمكن إنقاذه. ومن نافلة القول إن إقامتي في باريس، بما فيها من معالم ومتاحف ومسارح، وبما تشهده من حركة ثقافية مذهلة، ساعدتني إلى حد بعيد في شحذ أدواتي الفنية وبلورة رؤيتي الفكرية.
* هل الشعور بالغربة الذي يميز كل مبدع هو ما يدفع إلى هذه التجربة الوجودية؟ هل تعتبر أن تجربة المنفى والسفر والرحيل ضرورية لكل كاتب حتى يعانق العمق والنضج؟
- قد يجد الكاتب دافعا من أعماقه يحمله على الهجرة، كالإحساس الحاد بالغربة، ولكن أغلب الدوافع في عصرنا الحاضر خارجة عن إرادته، فهي ناجمة عن الضيق المادي والقمع وكبت الحريات وغياب الديمقراطية والاستهانة بأبسط حقوق الإنسان في هذه المجتمعات العربية ذات الحكم الفردي المطلق المرشح للخلود. صحيح أن الارتحال يساعد الكاتب على إدراك موقعه من العالم، ويفتح أفقه على حضارات الأمم الأخرى، ويعينه على إدراك عوامل تقدّمها وازدهارها، أو أسباب تخلّفها وانحطاطها، وفي ذلك إثراء لحصيلته المعرفيّة العامّة، وعون له على مقاربة ذاته ومجتمعه ومحيطه، بنظر أعمق ورؤية أشمل. وكان العرب يقولون : "لحركة وَلود، والسّكونُ عاقِر" فقد كانوا يرون أن السفر يُسْفر عن أخلاق الرجال، وأن فيه فوائد جمّة، كتحسين المعيشة واكتشاف البلدان والتعرّف إلى أهلها واكتساب علومهم والوقوف على عاداتهم وتقاليدهم. كل ذلك له تأثير كبير في تعميق وعي الكاتب ونضجه، لكن بشرط أن يكون الارتحال باختياره، أما أن يكون ناجما عن نفي وإبعاد، فهو أشد مضاضة على النفس من الغربة داخل الوطن، لأن الكاتب المغترب في تلك الحال سوف يجد نفسه إزاء غربتين: غربة المنفى، وغربة الوطن. في الأولى، يكون كالنبتة الذابلة ولو كانت عروقها في الماء كما يقول مثلنا الشعبي، وفي الثانية، يلازمه الإحساس بأنه مهمّش لا يستطيع أن يحيا حياته كما رسم وقدّر، ولا أن يمارس دوره في مساعدة مجتمعه على النهوض والترقيّ.
* بين شتاء باريس والشمال البارد وشمس الجنوب الحارقة، كيف يتشكل عالمك الإبداعي، وكيف يذوب هذا المزيج من الثقافات والتراكمات في كتاباتك؟
- أعيش بين ضفتين ولغتين وحضارتين: ضفة البلد المضيف بلغته وثقافته وحضارته وتعدد الأعراق والأجناس التي تقيم على أديمه، وأتابع عن كثب كل ما يجري على ساحته، وضفة الوطن الذي ولدت فيه ونشأت على دينه وقيمه وعاداته وخبرت طباع أهله وخصالهم وعيوبهم، ولهوت في بطاحه وحواريه، وتعلقت به حتى صار جزءًا مني. في كتاباتي، أراوح بين هاتين الضفتين، فأستحضر تونس حينما أكتب عن فئة مهاجرة تقيم في فرنسا، وأرتد إلى غربتي في المهجر حينما أتناول شريحة من شرائح مجتمعنا التونسي، ليس من باب المقارنة، وإنما لتمازج أقدار الأبطال ومصائرهم بعضها ببعض. أحاول أن أصهر كل ذلك بعين المثقف المغترب الذي ينظر إلى المهاجرين في حلهم وترحالهم بين الضفتين، وما ينتاب البعض منهم من مصائب وفواجع. أحيانا أستلهم من حياتهم اليومية أحداثا واقعية وأعيد صياغتها فنيا، وأحيانا أخرى أجعلهم ينطقون بما أستخلصه من تجاربي الذاتية.
* تطرق روايتك الأخيرة "الرجل العاري" عدة قضايا فلسفية ووجودية وسياسية واجتماعية، وتحاول الغوص في حالة العري التي أصبحت تميز الحياة البشرية ببعديها الفردي والجماعي، فهل هي صرخة القيم في مواجهة التشيؤ والعدم والمادية؟
- هذه الرواية تضع العالم كله موضع تساؤل، وبطلها، العاري كما خلقه الباري، لا يحاسب نفسه فحسب، وإنما يحاسب الناس أجمعين، لا يستثني قريبا ولا غريبا، فيعرض للقضايا التي ذكرت، ويعرض أيضا لقضايا أخرى مثل هجرة الأدمغة، والعنصرية، والعلاقة مع الآخر، وموقعنا اليوم على الخارطة الكونية، وموقفنا من العولمة، ومكانة الكاتب في مجتمع لا يقرأ، بل يعرض حتى لقضايا الإبداع نفسه : اللغة التي نقارب بها النص، اختيار الجنس الأدبي، الرقابة ودورها في توجيه مسار الإبداع العربي... فإذا العري ليس عري البطل وحده، وإنما هو حالة عامة : عري المثقف يبيع ضميره " وحتى شرفه " من أجل حظوة أو مكرمة، عري المناضل يضع السلاح ويرضى برقعة أرض كالثوب المقدّد، عري الساسة يهرولون إلى سلام زائف، عري الغرب المنافق لا يحترم حقوقا تدعو إليها دساتيره، عري الفرد فيه تسحقه المادة فإذا هو أمام بريقها أقل هيبة من ديك على مزبلة...
هل هي صرخة في مواجهة التشيؤ والعدم والمادية ؟ قد يصدق ذلك في وجه من الوجوه، فمضامينها هي من الزخم بحيث يمكن أن تفتح قراءاتها على مداخل عديدة. ما يوحد بينها أنها تضع الإصبع على الداء في كثير من المواضع الموجعة، وتدين بشدة تدهور القيم وشيوع الأنانية واختلال الثوابت.
* هناك كثير من الأصوات النقدية والإبداعية تنظر اليوم لاضمحلال المفهوم الكلاسيكي للكتابة الأدبية، وتؤمن بتداخل الأجناس وضرورة انفتاحها على بعضها البعض، فما مدى وجاهة هذا الرأي؟ وهل أنت من أنصار تداخل الأجناس الأدبية وتضافرها؟
- هذه المسألة لا تثار في الغرب "أو لنقل في فرنسا التي أتابع ما ينشر فيها بانتظام" بالحدّة التي تثار بها في الساحة الأدبية عندنا، حيث يقع التنظير لإزالة الحواجز بين مختلف الأجناس الأدبية، حتى ليغدو تداخلها في نظر أصحاب ذلك الرأي هو المعيار الذي تقوّم به الأعمال الأدبية، وما ذلك إلا رجع أصداء لأشغال بعض الباحثين والجامعيين الذين لا يمثلون سوى بؤر ضئيلة في الغرب، يرومون القطع مع السائد بأية وسيلة، ولا تتعدى نتائج تلك الأشغال في العادة مدارج الجامعة أو المنشورات الأكاديمية. وما أسرع ما يتلقف بعض من نقادنا تلك النظريات الغربية ليجعلوها المثال والقدوة، والسبيل التي ينبغي ألا يحيد عنها سالك. وقد طغت هذه النظرة على فهمهم للعمل الأدبي حتى صار تداخل الأجناس في الأثر الواحد عندهم ضرورة لا مناص منها. وفي تقديري أنه لا يمكن إلغاء الحواجز في المطلق لأن الأمر موكول لمتطلبات العمل الفني، فالمضمون يفرض شكله وحتى لغته، والحكم الفصل في تقويم أثر ما هو قيمته الفنية.
أنا لا أمنع نفسي من ارتياد كل الآفاق وخوض شتى التجارب، دونما اعتبار لتلك المهاترات لأن الفن اختيار، والأديب مبدع لا يخضع لقيود، وفي رأيي أن من وضع فنه في خانة ضيّق على نفسه. في قصصي ورواياتي تتنوع الأشكال بتنوع المضامين، ففي رواية "الرجل العاري" آنفة الذكر تتداخل الأجناس، وفي رواية "آخر الرعية" تتعدد الأصوات، أما في رواية "لابس الليل" فقد حافظت على بنية كلاسيكية وزمن خطي، وحظيت مع ذلك بقبول حسن من القراء والنقاد، وأذكر أن الأديب العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي كتب في مقال له بجريدة الزمان: "هذه الرواية لا تكتب إلا بهذا الشكل."
أضيف أن الرواية "بوصفها الجنس الأكثر قدرة على استيعاب الأجناس الأخرى" بأشكالها الكلاسيكية المعهودة لا تزال هي السائدة. حسبك أن تلقي نظرة على الروايات المتوّجة بكبرى الجوائز المحلية والعالمية : نوبل، غنكور، بوكر، بوليتزر... وسوف تكتشف أنها خالية من اللعبة الشكلية الأثيرة عندنا نحن الكتّاب العرب، للتغطية على ضحالة المضمون في الغالب.
• القصة القصيرة جدا، هذا النمط المستحدث من الكتابة، أصبح يجد إقبالا من القراء ويعتبره البعض مستقبل الأدب العربي، فما مدى وجاهة هذا القول؟ وهل تغريك هذه التجربة؟
- هذا مولود اختلف النقاد والدارسون في أصله وتسميته، وفي دوافع نشأته ومستقبله. فأما الأصل، فبعضهم يردّه إلى ثلاثينات القرن الماضي مع نتالي ساروت في فرنسا، وبعضهم ينسبه إلى العراق مع محاولات المحامي يؤيل رسام، وإلى بلاد الشام مع جبران وتوفيق يوسف عواد وزكريا تامر، فيما يذهب فريق ثالث إلى أن البداية الحقيقية كنمط من الكتابة له ملامحه الخاصة كانت في تسعينات القرن العشرين، حيث ساهمت الصحف السيارة في ترويجه على نطاق واسع. وأما التسمية فما زالت تتأرجح بين الخاطرة والقصة الومضة والومضة القصصية والقصة البرقية وحتى القصة القصيدة، ولو أن مصطلح القصة القصيرة جدا هو الأكثر شيوعا في الأعوام الأخيرة. وأما الدوافع فيعزوها دعاة هذا اللون إلى البحث عن صيغ جديدة تتلاءم وإيقاع العصر السريع، فالقارئ في نظرهم ما عاد يجد متسعا من الوقت لقراءة أعمال طويلة.
في الواقع أغرت القصة القصيرة جدا خلقا غير قليل في أرجاء الوطن العربي، منهم من يكتب عن وعي وبحرفية عالية، ومنهم من وجد في هذا النمط أقصر السبل للتعريف بنفسه، تماما كأولئك الذين أغرتهم قصيدة النثر وما لهم تجربة ولا موهبة "قرأت من اعترض على هذا الرأي وأنا أكرره وأصر عليه"، والنتيجة أن فيضا من هذه الكتابات التي تغرقنا بها الصحف والفاس بوك ومواقع الإنترنت لا يتوافر في أغلبها الحد الأدبي الأدنى. القصة القصيرة جدا يفترض ألا تختلف عن القصة القصيرة إلا في بعض النقاط : الاقتصاد في العبارة، التكثيف، الإيحاء، الانزياح، مع المحافظة على الحدث والشخوص والعقدة ولحظة التنوير أو الانفراج، فهل نجد ذلك في المثال التالي الذي يطلق عليه صاحبها مصطلح ق ق ج " ربما لأنها أطول ممّا جادت به قريحته " يقول: "فتحت الباب، فإذا لا باب."
في رأيي لا يمكن أن نختزل مستقبل الأدب العربي برمته، بتاريخه ومتونه ومنجزاته، في قصص لا تتعدى مساحتها بضعة أسطر، أيا ما تكن قيمتها، فلم نقرأ في تاريخ الأدب العربي أن الأخبار والشذرات والطرف والنوادر واللطائف التي تحفل بها كتب التراث، ألقت بظلالها على سائر فنون القول وحلّت محلّها. مثَل القصص القصيرة جدا "التي أنتجها كتاب مجيدون" في نظري كمثل المقطوعات الموسيقية التي ألفها محمد القصبجي وعبد الوهاب وفريد الأطرش والرحابنة على هامش أعمالهم الكبرى التي خلد بها ذكرهم. نطرب لها ولكنها لا تنسينا الأصل، تلك الروائع التي بذلوا جهدا لا ينكر في صياغة ألحانها.
ثم إن هذا النمط ليس مستحدثا فهو يستمد جذوره من التراث العربي القديم أخبارا ونوادر وشذرات، وحتى من الهايكو. وأما القول إنه وليد ظروف العولمة وسرعة إيقاع العصر المعروف بالإنتاجية السريعة والتنافس في الإبداع وسرعة نقل المعلومات، فهذا أعجب ما توصل إليه منظرو هذا النمط السردي، في مجتمعات لا تبتكر ولا تقرأ أصلا، لأن المؤلفات التي تصدر في أوروبا وأمريكا واليابان وسائر البلدان الغربية ذات الاختراعات المذهلة والإيقاع اللاهث، لا يحول سمكها البالغ الضخامة أحيانا من إقبال القراء عليها بشغف.
في مجموعتي الأخيرة "حقائب الترحال" ما يشبه هذه التجربة، التي لا أقف منها موقف مناصر ولا مناهض، لأن الفن كما قلت اختيار، فقد حاولت، كسرا للنمطية، المزاوجة بين القصة والخواطر وأدب الرحلات، في فصول مستقلة، تتخللها قصص قصيرة جدا، تؤلف أربعٌ منها أو خمسٌ وأحيانا ستٌّ قصةً قصيرةً واحدة. ولا أحسب أني سأعود إلى كتابتها، لأنها لا تشبع توقي إلى مقاربة الواقع في كلّيته.
* هل تؤمن بالتجريب في الكتابة؟
- لا أومن به فحسب، بل جرّبت بدوري. أقول ذلك حتى لا يحسب رأيي على المناهضين له، لأني أنظر إلى المسألة من زاوية تخالف ما يتردد عندنا في تونس، على ألسنة بعض النقاد وبعض الكتّاب على حدّ سواء، من أن التجريب هو العلامة المميزة للعمل الفني الناجح. من ذلك أن رواية صدرت في الأعوام الأخيرة، لا يعرف القارئ كوعها من بوعها، عدّها أولئك النقاد علامة بارزة في مدونة السرد التونسي برمته، برغم لغتها الرديئة، وأسلوبها المرتبك، وبنائها المتشظّي، وفظاعة الأخطاء التي اعتورتها. والحجة عندهم أنها تجريبية، صيغت على غير مثال.
لا اعتراض لدي على التجريب، ولكن شرط أن يفضي إلى نتيجة ملموسة، أن يقود كاتبه إلى عمل فني مقنع.
• ما هي الأسئلة التي تحركك للكتابة، والهواجس التي تسكنك وتحفزك على الإبداع ؟ وكيف تعرّف الكتابة، وماذا يمثل لك الإبداع؟
- كل ما يحيط بالكاتب قد يتحول إلى موضوع كتابة. في بداياتي، كانت المواضيع التي تثير حفيظتي هي التي تستأثر باهتمامي وتحفزني على الكتابة، ولكن مع تقدم السن وتراكم التجارب، صرت أرصد الواقع المحلي والعربي والمهجري، بتجلياته ومستجداته، خصوصا ما كان منها خارجا عن المألوف، أو مستجيبا لمشروعي العام، وأختزن منها ما يكون خليقا بمادة كتابة، ليس على طريقة مراسل يجمع مادة لإعداد شريط وثائقي، وإنما أحفظها في مكان آمن من مدوناتي أو من ذاكرتي كما يحفظ المرء فصول مسرحية شاهدها أو أبيات شعر قرأها، إلى أن تنقدح شرارة الإبداع في لحظة لا أتوقعها، فأتخير منها ما يصلح للعمل الذي أروم إنجازه، وأضفي عليها من تجاربي وذكرياتي، وأخضعها لرؤيتي الفنية، ثم أترك الخيال يسرح في أرجائها كما يهوى حتى يكتمل النص خلقا سويّا.
الكتابة عندي هي صرخة في وجه الظلم والطغيان، محاولة لصيانة المعالم والبشر من النسيان، إضاءة لجانب الظل المنفلت عن إدراكنا. والشرط فيها أن تعنى بالجوهر وتحلّ الآنيّ في زمن يدوم. الكتابة بالنسبة إليّ مبرر وجود، ولن أستغني عنها حتى آخر نفس.
* يقول إلياس خوري "الكتابة ذاكرة".. إذا اعتبرنا أن التاريخ الأدبي ليس سوى استكشاف واستكناه للذاكرة، فما مساحة عمل الذاكرة في مخيلتك الروائية؟
-ما من شك في أن عمل الذاكرة ضروري لصيانة أحداث الماضي وأبطالها من النسيان وحفظ آثارهم من التلف، وهو ما قام به إلياس خوري مثلا في رواية "باب الشمس"، التي صوّر فيها خلفية النكبة وضياع فلسطين، وبيّن كيف تتحوّل الذاكرة إلى ما يشبه الوطن الدّائم. بهذا المعنى تغدو الكتابة ذاكرة، ولكن ليس في المطلق، فالكتابة استقراء للحاضر أيضا واستشراف للغد، ورؤيا تستبق الراهن لتتكهن بما قد يحمله المستقبل من مستجدات. ذلك أن الاعتماد على الذاكرة وحدها "وهذه ظاهرة عامة في الأدب العربي الحديث، لا أستثني منها تجربتي" سوف يحبسنا في زمن ولى، قد لا يكون خاليا من الذكريات الموجعة، التي تظل تعذب النفس بحضور حادّ. والخير في أن يمتح الكاتب من الذاكرة ما يضيء له الحاضر، ويستقي من الراهن مفرداته، ليطرح تصورا لا يظل مشدودا إلى الماضي على الدوام.
الأدب، وخاصة الأدب الروائي، ينشأ من الجمع بين الذاكرة والخيال، وهو ما أحاول أن أتمثله في كل عمل روائي أقدم عليه. وعلى قدر الموهبة، يتجاوز الأثر زمنه.
* يقول خورخي لويس بورخيس "نحن لا نسكن إلا الأماكن التي نغادرها"، فهل تستحضر قريتك ويحضر الحنين والذاكرة حين تكتب ؟ وكيف تتعامل عموما مع المكان وسلطته؟
- دعيت مؤخرا إلى المساهمة في ملف تعدّه الأديبة المصرية سهير المصادفة حول "المكان الأول للمبدع"، ولم أجد صعوبة تذكر في استحضار مراتع الطفولة والصبا في ريف من أرياف سوق الأربعاء بأدق تفاصيلها، ولولا أن المساحة المقترحة محددة ببضع صفحات، لأضفت المزيد وأسهبت. وبالرغم من أن نزوحي إلى العاصمة رفقة أهلي حدث عام 1958، فإن صور ذلك الماضي البعيد، بلهوه وعبثه وخرافاته وأحداثه وبيوته المتواضعة وبساطة أهلها لا تزال تحضرني بجلاء، فأنهل منها ما أنهل بتلذذ حينا وتحسر حينا آخر، حتى ليخيل لمن يقرأ لي أني مقيم في تلك الجهة لم أبرحها. أحن إلى تلك الفترة وتلك الأرض كما يحن المرء إلى شيء عزيز ضيّعه. وأنا على رأي بورخيس الذي أقام هو أيضا في أماكن عديدة في الأرجنتين وخارجها، فالإنسان يحن إلى المكان الذي غادره، وإن كنت أفضل عليه قول شاعرنا العربي أبي تمّام :
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه دوما لأوّل منزلِ
فالمكان الأول هو الذي يحظى بموقع أثير في الذاكرة.
أما الأماكن الأخرى التي عشت فيها، فليس لها عليّ سلطة، أستحضرها متى أشاء، وأضيف إليها ما أريد مع مراعاة المستوى المعيشي للأبطال، وقد أتخيلها تماما كما هو الشأن في رواية "آخر الرعية" التي تدور أحداثها في قصر حاكم بأمره وقصور تابعيه من البطانة والحاشية، ثم في مدينة دكّها الأعداء دكّا ولم يبق منها غير الأنقاض "كتبت قبل العدوان على العراق وسقوط بغداد ".
* هل تستحضر سيرتك حينما تكتب؟ وإلى أي مدى يمكن للكاتب التنصل من سيرته الذاتية في كتاباته؟
- سيرتي الذاتية مبثوثة في كثير مما أكتب، سواء في شكل أحداث عشتها أو شهدتها، أو في صورة مكان أقمت فيه أو اعتدت ارتياده، أو في ملامح أشخاص عرفتهم أو عاشرتهم، خصوصا مع تقدم العمر وتراكم التجارب، حيث أتولى إعادة ترتيبها أو توزيعها، أو أستلهم من مكوناتها ما يغني النص، وأرجئ الباقي إلى حين، قد يأتي، ثم ينهض الخيال بابتداع ما يكمل تلك المكونات حتى تغدو عملا فنيا له وجود تام. والمسألة لا تخضع لفرز بقدر ما تستجيب لمتطلبات العمل الفني الماثل أمامي، ولسخونة التجربة الحياتية وتميزها بل وتفردها.. فالكاتب يستفيد من سيرته بشرط ألا يكشف عن أوراقه، كأن يأتي على ذكر ما يعرفه عنه الخاص والعام من معارفه وأقربائه، أو أن يعيده بصورة فجة خالية من التخييل الذي لا تتم العملية الإبداعية من دونه، أو أن يجترّ ما سبق أن طرحه في عمل سابق.
ولا يملك الكاتب لسيرته فكاكا إلا متى تناول أحداثا غير التي شهدها وواقعا غير الذي عاش فيه. أما وهو يروي سيرا أخرى لأشخاص متخيلين، فلا يعدم من عرفه أن يلمس آثارا من سيرته الذاتية موظفة في نصه بشكل أو بآخر.
*هل تشبهك شخصياتك أم تشبه الواقع ؟ الكتابة بين استحضار الواقع ولعبة القص والخيال، كيف تراها؟
- قلة منهم تشبهني، والبقية مستوحاة من الواقع أو هي من وحي الخيال.. استحضار الواقع لا يتم لدى الكتّاب بالكيفية نفسها، فالمعروف أن للواقع وجهين: الواقعي le réelوالحقيقي le vrai، فأما الواقعي فهو كل ما يوجد في الكون، ولو أن العقل لا يدركه كما تدركه المعرفة الوضعية. وأما الحقيقي، فهو كل ما يصطفيه العقل من الواقعي ويتصور أنه موجود، أو مطابق لطبيعة الأشياء المحسوسة. وإذا كان الفن انتقاء من الواقعي في رأي البعض، فإن البعض الآخر يرفض أن ينساق وراء هذا الواقعي ويريد النفاذ إلى الحقيقي وما وراءه ليخلق عالما بديلا لا يدركه عامة الناس. فمن كان يؤمن بالواقعي، وجب عليه رسم الفرد وإبراز السمات التي تميزه، مع نبذ النظرة الذاتية والتعميم، ومن كان يؤمن بالحقيقي، جاز له أن يوضّب بعض المظاهر الخارجية للنفاذ إلى الجوهر. ومن ثمّ تباينت المدارس، واختلف الكتاب في رؤاهم وتصورهم للكيفية المثلى التي نقارب بها الواقع. وكل إناء بما فيه يرشح.
أنا أحاول الإفادة من الاتجاهين، فلا أكتفي برسم الظاهر بل أحاول أن النفاذ إلى الجوهر أجلو منه حقيقة أحسب أنها كامنة فيه، كمون النار في الحجر، إذا قدحته أورى.
* هل يحدث أن يستسلم الكاتب ويقع في غرام شخصية من شخصياته فتأسره وتستحوذ على قلمه وتجعله ينساق وراءها ؟ بعبارة أخرى من يكتب الرواية الكاتب أم الأبطال؟
- قد يحدث، كما يذكر عن فلوبير في علاقته ببطلته إمّا بوفاري. أنا لم أعشق شخصياتي، للأسف الشديد، ولكن الكامل كنتولة بطل رواية "لابس الليل" استأثر باهتمامي وجعلني أنساق وراءه، وها أني أواصل رحلتي معه في جزء ثان سوف يظهر عما قريب بعنوان "زمن الدّنّوس". أما الرواية، فأنا كاتبها "لأني لست من أنصار الفكرة القائلة بموت المؤلف"، ولو أن الأبطال يتمردون علي في بعض الحالات، لأني أريد أمرا، وهم يريدون أمرا غيره.
*هل أنت مستبد في علاقتك بأبطالك؟
- كلا. أنا أرسم في ذهني تخطيطا مسبقا لمسار القصة أو الرواية، وعند الكتابة، تظل الفكرة العامة قائمة، والخيط الرابط مشدودا، ولكن الشخوص تتمرد وتوحي لك بوجهة غير التي رسمت. ذلك الانزياح هو في رأيي أجمل ما في العملية الإبداعية.
* هل تستحضر القارئ حينما تكتب؟
- لا، لأني لو فكرت فيه لتوقفت عن الكتابة. فأي قارئ تستحضر؟ المتعلم أم الأمي، المتفتح أم المتزمت، المستقل أم المتحزب، القريب أم الرقيب، القارئ العادي أم الناقد الجامعي، الصديق أم الغريب، الذكور منهم أم الإناث؟ ذلك أن عملية التلقي لا تتم عند جميع من ذكرت بالكيفية نفسها، ومن الخطأ في تقديري وضع حساب للقارئ. السؤال الوحيد الذي يخامرني هو: كيف السبيل إلى كتابة نص جيد يتقبله القراء على اختلاف شرائحهم، فلا يشكو البعض منهم من غموض ولا يتذمر البعض الآخر من سطحية؟
ومن الطرائف في هذا الباب أن صديقا روائيا نشر بعض أعمال لم تحظ بالقبول الذي يأمله كاتب في مثل تكوينه وثقافته وطاقته على الإبداع، فقد كان يكبح أبطاله عن شهواتهم حتى لكأنه مؤدب صبيان يتعقب صبية مشاكسين، ولما لاحظنا له ذلك، قال: "وماذا سيقول عني أبنائي وبناتي وزملائي وتلامذتي وأولياؤهم؟"
• هل تستطيع الكتابةُ والأدبُ المساهمة في تغيير الواقع؟
- إلى حدّ ما.
* كيف ذلك؟
- المقصود بالتغيير ليس التحول الطارئ كما يحدث في التحولات السياسية والانقلابات العسكرية، وإنما هو تغيير يقع على مراحل، وينبني لبنة لبنة، فالأدب قادر أن يؤثر في المرحلة التي يظهر فيها وفي المجتمع الذي يتوجه إليه، إذ هو يستطيع أن يفرض عليه ذائقة جديدة، وأفكارا لم يألفها، وطريقة مغايرة في التعبير عن الذات وعن أمور الحياة، مثلما هو قادر على أن يشيع لديه حساسية لم يعهدها كما هو الشأن مع شعر أبي القاسم الشابي أو السياب، أو يقدم عن المجتمع صورة أجمل من الحقيقة التاريخية، ويعيد إحياء الماضي ويحافظ على العادات والتقاليد، أو يقترح عليه عوالم جديدة.
والأدب هو عامل تكويني حيث يرغبنا في الفضائل، ويمنح الفرد مرآة نقدية تتيح له الغوص داخل ذاته والوعي بأعماقه. يقول مالرو : "إن دور الكاتب محاولة توعية الناس بعظمتهم التي يجهلونها في أنفسهم." وهو أيضا عامل معرفي فالكتب تقدم المعرفة وتدفع إلى التفكير والتساؤل. كما أنه عامل بناء وتشييد، حين يلتحم بتطلعات الجماهير إلى استرداد حقوقها وإعلاء أصواتها المنادية بعيش كريم.
* الأدب بحسب "بيسوا" هو البرهان على أن الحياة لا تكفي. فهل أنت من أنصار هذا الرأي ؟ وهل يمكن للأدب أن يكون بديلا عن الحياة؟
- بروست يذهب أكثر من ذلك حيث يقول: "إن الحياة الحق، الحياة التي اكتشفتها أخيرا بوضوح، أي الحياة المعيشة بحق، هي الأدب، إنها الحياة التي تسكن في كل لحظة لدى سائر البشر، بنفس القدر الذي تسكن فيه لدى الفنان".
تلك أحلام كتاب لا همّ لهم في تحصيل رزقهم، فالحياة عندهم تمضي كما يمضي نهر هادئ. عندنا، أو عندي بأكثر دقة، الحياة مقدمة على الأدب، نحاول أن نجعله شريانا يجري في العروق، وتأبى الظروف والسلطة إلا أن يكون ترف مثقفين.
• ما علاقة رواياتك ببعضها البعض؟ وهل تشعر أنك تشيد صرحا وعالما متكاملا ومترابطا في ما بينه من عمل إلى آخر، أم ترى أن لكل عمل استقلاليته التامة؟ ولغة الكاتب وأسلوبه، هل هما نفسهما أم يتغيران من رواية إلى أخرى؟
- يقول المتنبي :
إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
في البال مشروع عام يتمثل في سبر واقع مجتمعنا العربي بعامة، والتونسي بخاصة، ورصد تحولاته، لم أنجز منه إلا القليل وما ظهر منه لا يلبي طموحي. والأسباب كثيرة، منها الغربة وعدم الاستقرار، ومنها ظروف مهنية واجتماعية قاسية، وأهمها في نظري تشتت جهودي بين الصحافة والتدريس والترجمة والإنتاج الإذاعي.
هذا المشروع يتفرع إلى موضوعين اثنين هما : أولا، رصد التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفضح الظلم في شتى مظاهره، حيثما كان، دفاعا عن إنسانية الإنسان. ثانيا، صيانة الذاكرة والبحث في الوجود المنسي للبشر والمعالم الذين تهملهم في العادة كتب التاريخ. ثم أضفت إليهما، بعد الهجرة إلى فرنسا، موضوعا ثالثا هو صورة العربي في ديار الغربة وعلاقته مع الآخر.
ما ظهر من هذه الأعمال حتى الآن، يكمل بعضه بعضا إلا ما ندر. أما اللغة، فهي ليست متماثلة، لأن كل موضوع يفرض لغته وأسلوبه كما أسلفت، وإن كانت في عمومها تتسم بالصفاء والشاعرية.
• هل أنصف النقد كتاب جيلك؟
- منذ شهر تقريبا، غيب الموت صديقي الأديب رضوان الكون، فانبرت وسائل الإعلام بأنواعها تنعى موته، وتنعته بالكاتب الكبير، وهو ما لم يتكرم به عليه أحد في حياته، ولا أذكر أن ناقدا أو دارسا خصه بدراسة معمقة، تحلّ أدبه في موقعه من خارطة السرد التونسي والعربي. تلك حال جانب كبير من أبناء جيلي الذين لم يحظ منهم بلفتة سوى قلة قليلة، كان لقرابتها من السلطة، وللعلاقات الشخصية دور في اصطفائها دون غيرها.
أمارس الكتابة منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولم يكتب عني سوى دراستين، ومقالات صحافية عابرة. ولو كان أدبي عديم القيمة لما نهض ثلاثة طلبة لإعداد رسائل ماجستير حوله بعض عناوينه، وإنما حالي كحال الفنان الكوميدي كوليش. كان يقول : "يقولون عني الآن إني موهوب. عندما أموت، سيقولون عني إني عبقري." وهو ما عبّر عنه الأديب والزجال التونسي الساخر علي الدوعاجي :
مات يتمنى في عنبة عاش جابو لو عنقود
ما يسعد فنان الغلبة إلا من تحت اللحود
• هل صحيح أن انتشار الوسائط التكنولوجية الحديثة وسيطرة ثقافة الصورة والإنترنت قلصا من نسبة القراءة والمطالعة في مجتمعاتنا العربية؟
- لا أملك معطيات صحيحة عما يجري في المجتمعات العربية، ولكن يبدو، من خلال ما تنشره الصحف بين الحين والحين، أن القراء يتناقصون عاما بعد عام، والسبب لا يعود إلى هذه الوسائط وحدها، فالمجتمعات الغربية التي تنتشر فيها المستحدثات التقنية انتشار الفطر غبّ مطر واكف، لا تزال تقبل على الكتب، عن طريق الاقتناء أو الاشتراك في المكتبات العامة، ولا تفوت لحظة في تلقف مختلف ما ينشر من مطبوعات، فالناس في بلاد الغرب يقرؤون حتى في عربات المترو والحافلات. وإنما السبب في ظني أن منظومتنا التربوية لم توفق في خلق تقاليد مطالعة على الوجه المحمود، فالقراءة بالنسبة إلى الشبيبة لا تزال مقترنة بالمقررات المدرسية، بينما هي لدى من غادر مراحل التعليم خاضعة للقدرة الشرائية ومدى دعم الدولة للكتاب. قد تكون تلك الوسائط قد زادت المسألة حدّة، فالأجيال الجديدة، إلا ما ندر، نصفها شبه أمّيّ والنصف الآخر لا يقرأ إلا أصداء المحاكم وأخبار النجوم والمواضيع المثيرة، بعد أن حولت الأنظمة أنظار الناس إلى ما لا يفسد عليها سياساتها، الكرة والرقص والغناء، حتى أن أتفه لاعب أو "مُطرش" أو راقصة يفوق الكتاب مجتمعين مكانة ورفعة لدى العامة وحتى الخاصة. الاستثناءات قليلة ولكن الفرد العربي في معظمه مشغول عن المطالعة بأشياء أخرى كتأمين لقمة العيش، والترويح عن النفس بالمسكرات والمخدرات، والاستماع إلى الموسيقى الصاخبة، هذا علاوة على الإنترنت التي وجد فيها متنفسا لمكبوتاته عبر إقامة علاقات افتراضية خصوصا مع الجنس الآخر.
• هل غيرت الإنترنت من مفهوم الكتابة وساهمت في بروز أنماط تعبيرية مستحدثة؟
- وجوه الإفادة من الإنترنت لا تنكر، فبفضل الوسائط الحديثة صار من الممكن تخزين مكتبة كاملة في مفتاح بحجم الإصبع، والتراسل مع من نحب في الساعة واللحظة، مثلما صار الوصول إلى الصحف والمعلومات والكتب وحتى المكتبة التراثية بسرعة البرق، ونشر القصص والمقالات والقصائد لعرضها أمام القراء دون وسيط بشري. ولكنها في المقابل، سوّت بين من يعلمون ومن لا يعلمون، فإذا هي مرتع لكتبة لا حس لهم ولا موهبة ينشرون نصوصا تلوث اللغة بغير بيان، فلا تملك وأنت تقرأ الردود المهنئة المبشرة بميلاد عباقرة ما كنا نعلم بوجودهم إلا أن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل!"
وأحمد الله أن ثمة من يجتهد كي يلحق بالركب أو يبتكر فنا جديا، من ذلك مثلا بعض المواقع والمدونات التي تقدم خدمات جليلة. وقد سرني نبأ صدور كتاب ورقي للأديب التونسي المقيم في ألمانيا كمال العيادي صاحب موقع دروب، جمع فيه تعليقات كان يذيل بها نصوصا أدبية للشاعر اللبناني شربل بعيني على الموقع نفسه. وهو وإن سار على هدي القدامى في أدب الحواشي، فإنه كان سبّاقا في هذا المضمار.
• ما مدى مشروعية الرأي الذي يروج اليوم لاضمحلال سلطة النقد وتخلفها عن المنتج الإبداعي العربي؟
- من خلال اطلاعي على ما كتب حول تجربة القصة القصيرة جدا جدا، يبدو لي أن العكس هو الصحيح. فالنصوص النقدية متطورة على المتون السردية، وهو انطباع يلازمني كلما قرأت تقديما لعمل روائي أو قراءة له، في ما ينشر في تونس أو غيرها من البلدان العربية.
ليس من مصلحة المروجين لهذه الفكرة سوى الفاشلين من الكتاب، أولئك الذين يرفضون أن يضع النقد إصبعه على هناتهم الفظيعة وأساليبهم الهشة، فهم يعتبرون أنفسهم فوق النقد، وفوق اللغة، وفوق كل أجناس الكتابة، وحتى فوق الأدب العربي برمته. ثم ما هي هذه العلامات البارزة في المنجز الإبداعي العربي التي عجز النقد عن مقاربتها واللحاق بركبها؟ أرجو أن يدلونا إليها لنطلع عليها أعضاء الأكاديمية السويدية، لعلنا نكسب بفضلهم جائزة نوبل مرة ثانية.
النقاد، كالمبدعين تماما، منهم المجدد والمقلد، ومنهم المجيد والبليد، ومنهم من تنزهت نفسه عن الأهواء، ومنهم من يكتب بمقابل، ولا يمكن أن نزجّ بالجميع في سلة واحدة.
• اليوم تعالت في العالم العربي صيحات الفزع التي تخشى على اللغة العربية من التشويه والاندثار. ولعل ذلك يظهر بوضوح في الدعوات المتكررة من قبل الألكسو إلى ضرورة الاعتناء أكثر باللغة العربية وإصلاح المنظومات التعليمية في كافة الأقطار العربية، فكيف تنظر إلى المسألة؟
- أمام ما نشهده من تردّ لمستوى اللغة في شتى مراحل التعليم، ومختلف فنون الخطاب، يبدو لي أن الألكسو لا تملك إلا الصراخ كمن يرفع عقيرته في الخلاء، أو في مقبرة. فقد سمعنا مثل هذه الدعوات أول عهدها بمدينة تونس، والنتيجة تدهور ما رأت اللغة العربية أدنى منه في ما نعلم، حتى لنكاد نصرخ :"ليت دار لقمان بقيت على حالها!" في السابق كنا نصلح للمخطئ فيستجيب، والآن ننصحه فيستهين. لم تعد المطبوعات، صحفا وكتبا ومجلات، حتى تلك التي تتوجه إلى الأطفال، تخضع لعين المدقق اللغوي لتنقيتها من الشوائب, بل إننا صرنا نشهد في قنوات العرب كلهم، عاربين ومستعربين، إعلانات بلسان غريب لا هو بالعامي ولا هو بالفصيح، وكأنهم اتفقوا "بتوصية أمريكية في ما علمت" أن يفتتوا ما تبقى من وحدة العرب بإحلال اللهجات الدارجة محل الفصحى.
كيف نعالج المسألة؟ بإصلاح المنظومات التعليمية في كافة الأقطار العربية؟ حبّذا، ولكن بشرط أن يتم ذلك بتنسيق بين كافة الأقطار، حتى تكون القرارات موحدة، والتوصيات لا فروق بينها، وهي أمنية عسيرة المنال، لأن الأنظمة العربية لها أوليات أهمّ من تقويم اللسان وإصلاح اللغة. ثم كيف تُقنع المجتمع بأهمية إعادة الاعتبار للغة، وصونها من الأخطاء، وهو يرى حكامه يلحنون قراءة ومشافهة؟
* كيف تنظر أستاذ أبو بكر إلى دور الإعلام في المحافظة على سلامة اللغة العربية، أو على العكس، في ما يتسبب فيه من إضعافها وتشويهها؟ وهذه العلاقة الإشكالية بين الإعلام واللغة العربية، هل هي خاصة بالتلفزيون وتأثيره القوي في النشء؟
- المسألة عامة، لا تخص وسائل الإعلام وحدها، بل تتعداها إلى الكتّاب والمدرسين، حتى الجامعيين منهم أحيانا، وإن كان تأثير المسموع منها والمرئي أشد خطرا، لدخوله البيوت بغير استئذان، وقدرته على شدّ انتباه المستمعين والمشاهدين بمختلف شرائحهم. وما زلت أذكر مثلا كيف استطاع المذيع ومقدم البرامج الراحل نجيب الخطاب أن يدخل إلى قاموس التونسيين، كل التونسيين عن بكرة أبيهم، كبار مسؤولين وخاصةً وعامة، خطأين شائعين هما "التواجد" بمعنى الحضور، و"كبير وكبير جدا، غفير وغفير جدا... إلخ" والحال أن تلاميذ المدارس الابتدائية يميزون بين علامة حسن التي تفوق علامة متوسط، ودرجة حسن جدا التي تتفوق عليها. أما تطعيم الخطاب بعبارات أجنبية، فرنسية في الغالب، فحدّث ولا حرج.
والعلة، كما صرح بها أحد رجال الإعلام في إذاعة الشرق بباريس، ضيق الوقت أمام زخم الأخبار التي ترد إليهم تباعا بغير انقطاع. ذكرني ذلك بأديبة تونسية كانت تقرأ ذات مرة قصة من تأليفها على رؤوس الملأ، وكانت تنصب المضاف وترفع المفعولَ كما قال الشاعر إبراهيم طوقان، فلما لاحظ لها أحد المنصتين كثرة أخطائها تعللت بضعف النظر. وما "العتب على النظر" كما قال يوسف إدريس ولا على ضغط الوقت، وإنما مردّ ذلك إلى تكوين هشّ، واستهتار باللغة وقواعدها وضوابطها.
الحل في نظري يكمن في حسن اختيار المذيعين ومقدمي البرامج كما هو الشأن في سائر البلدان الغربية التي تحترم لغتها، وإخضاعهم إلى دورات تكوين مستمر، وإلى مدقق لغوي يتعقب أخطاءهم بالتصويب، وكذا الشأن بالنسبة إلى وسائل الإعلام المكتوبة، التي لا يقل دورها أهمية عن الوسائل الأخرى.
• كيف تنظر إلى واقع الترجمة اليوم في العالم العربي وإلى مراكز الترجمة الناشئة حديثا ؟ ولكن السؤال الذي يطرح اليوم هو : ماذا يجب علينا أن نترجم في هذا الظرف الراهن ؟ ووفق أي إستراتيجية؟
- ما يترجم إلى اللغة العربية في بلاد العرب قاطبة، حسب إحصائيات اليونسكو، يمثل نسبة ضئيلة جدا مقارنة بما يترجم في إسبانيا أو البرتغال وحتى في إسرائيل. وما يترجم من العربية إلى اللغات العالمية الأخرى يكاد يكون معدوما، لولا جهود بعض الجهات الأجنبية. والأسباب عديدة، منها غياب قاعدة قراء كما أسلفنا، ارتفاع التكلفة "شراء الحقوق وأجرة المترجم"، صعوبة ترويج الكتاب في البلاد العربية، عدم إقبال المغاربيين على الكتب المترجمة، لإيثارهم قراءتها في لغتها الأصلية، والأدهى من كل ذلك غياب إستراتيجية واضحة إلا ما ندر، حتى أن الأمر لا يزال في معظمه موكولا للجهود الفردية.
ثم ماذا نترجم في الوقت الراهن؟ هل نقبل على الكتب العلمية والتقنية وأغلب طلبة العلوم والمشتغلين بحقولها المختلفة يستعملون اللغات الأجنبية؟ أم نكتفي بترجمة العلوم الإنسانية والآداب؟
لقد ظهرت في الأعوام الأخيرة مؤسسات في كثير من الأقطار العربية في الخليج والمغرب العربي ترفد ما بدأه إخواننا في بلاد الشام، وتحاول سدّ الفجوة، ولكن ما صدر منها حتى الآن، في حدود علمي، لم يتخط الكتب الفكرية وبعض عيون المؤلفات في الآداب والعلوم الإنسانية. وفي اعتقادي أن وضع إستراتيجية لضبط خطة متكاملة ينهض فيها كل قطر بنصيب، أمر ضروري، لا للوقوف على مستحدثات هذه الثورة التكنولوجية المذهلة فحسب، وإنما أيضا للتعرف ما ينتجه الفكر الإنساني في المجتمعات المتقدمة. وكما أقبل الغرب على ترجمة مؤلفاتنا في الهندسة والرياضيات والطب والفلك والفلسفة والأدب لتحقيق نهضته، لا بد أن نقوم بالشيء نفسه لبلوغ نهضتنا المنشودة.
• إذا كانت علاقة الدراما التونسية بالرواية مازالت محتشمة فإن علاقة السينما بالأدب التونسي منفصلة ومنقطعة تماما، فهل هو استعلاء من المخرجين التونسيين عن التعامل مع نظرائهم من الكتاب، أم أن الكتابة للسينما تتطلب مواصفات مخصوصة غير متوافرة في الرواية والأدب التونسي؟ عموما كيف تحلل هذه الظاهرة خاصة ونحن نعيش هذه السنة في تونس سنة السينما؟
- لا أذكر رواية تونسية واحدة تحولت إلى مسلسل تلفزيوني أو مسرحية، أما تلك التي وقع تحويلها إلى السينما فلا يتجاوز عددها أصابع اليد "يوم من أيام زمرا، وليلة السنوات العشر لمحمد صالح الجابري، وبروموسبور لحسن بن عثمان" أما رواية "ونصيبي من الأفق" لعبد القادر بن الشيخ فقد شهدت مسارا عكسيا، حيث أعدت كسيناريو شريط سينمائي بنفس العنوان، قبل أن يصوغها الكاتب في شكل روائيّ، ولولا العلاقات الشخصية لما التفت أي مخرج إلى تلك الآثار الأدبية. ومردّ ذلك إلى ثلاثة أسباب
- أولها: تكوين أغلب مخرجينا فرنسي، فهم لا يقرؤون الأدب العربي إلا لماما، وإن فعلوا فبسطحية لا تقودهم إلى اكتشاف جوهر الأثر ومراميه.
- ثانيا: إيثار المخرج نفسَه في المقام الأول والمقربين في المقام الثاني بما ترصده وزارة الثقافة من دعم مالي لإنجاز الشريط، من كتابة سيناريو وديكور وإخراج وموسيقى تصويرية...، ورجال السينما يلتقون في هذه النقطة مع زملائهم في التلفزيون، وحتى في المسرح، ولا يقع اللجوء إلى الكاتب في أي مرحلة من المراحل.
- ثالثا: قليلة هي الروايات التونسية التي تصلح أن تتحول إلى السينما، لانغماسها في التجريب، وضعف حبكتها، وركود أحداثها، وهشاشة بناء شخوصها، فبعض الأعمال غامض لا يُفهم، وبعضها الآخر رديء لا يُقرأ، وما تبقى يرفضه المخرجون.
والسبب الأساس في نظري أن الفنانين في تونس بسائر أصنافهم، يعيشون في عزلة عن بعضهم البعض، فلا الأدباء يخالطون الرسامين، ولا الرسامون يجالسون المسرحيين، ولا السينمائيون يعاشرون أيّا منهم. والنتيجة أن الجميع ينتمون إلى الساحة الثقافية دون أن يعرف بعضهم بعضا، وقديما قيل من جهل شيئا عاداه.
• في هذا العصر المعولم الذي تحكمه الصراعات والحروب، كيف يستطيع الإبداع، والأدب عموما، أن يساهم في الحوار بين الثقافات والحضارات ونزع فتيل التوتر بين الشعوب؟
- الأدب إنساني المنزع، يعلي الفضائل ويشيد بقيم الخير ويساند الإنسان في صراعه ضد الظلم والقهر والاستبداد، وهو بذلك يقرب الإنسان من أخيه الإنسان، دون اعتبار لجنس أو عرق أو ملة، فنحس ونحن نقرأ لكبار الكتاب، أولئك الذين يتجاوزن في إبداعاتهم المحلي والآني ليلامسوا الكوني والسرمدي، أننا قريبون منهم، ولو كانوا من بلدان غير بلداننا وثقافات غير ثقافتنا، ومن الأبطال الذين يستعرضون سيرهم، فنحبهم كما نحب أبطالهم ونشعر بوحدة المصير على هذه الدار الفانية. ونشعر، وهذا هو الأهم، أنهم لا يختلفون عنا في همومهم ومشاغلهم ومطامحهم، وأنهم بشر مثلنا يفرحون ويحزنون، ويصيبون ويخطئون.
يقول ديكارت: إن قراءة الكتب الجيدة هي أشبه بحوار مع شرفاء العصور المتقدمة الذين وضعوا تلك الكتب، بل هو حوار مدروس، لأنهم لا يطلعوننا إلا على خير أفكارهم."
فالأدب هو خير وسيلة للحوار بين الشرق والغرب كي يعرف أحدنا الآخر. وفي رأيي أن الترجمة، ترجمة آثارنا المتميزة، عامل أساس في إرساء دعائم هذا الحوار والنهوض به.
• وهل تندرج تجربتك في وضع مؤلفات باللغة الفرنسية مستوحاة من التراث العربي القديم والتراث الشعبي التونسي في هذا الإطار؟
- هي فعلا محاولة لتقديم وجه آخر عن حضارتنا وثقافتنا، في وقت لم تعد فيه وسائل الإعلام في الغرب تذكر العرب والمسلمين إلا بسوء، وتصورهم إرهابيين بالفعل أو بالقوة، يحلمون بنسف الغرب وتدمير نمط عيشه. وقد فوجئت المذيعة التي استضافتني مرة بإذاعة فرنسا الثقافية بمكانة المرأة في تلك الحكايات العربية والتونسية، ووقوفها من الرجل موقف نديد، وهي التي اعتادت على صورة المرأة الأفغانية المضطهدة، المدفونة بالحياة وراء برقع لا صلة له بالدين ولا بالتقاليد العربية.
هي محاولة متواضعة لإيصال الثقافة العربية إلى الآخر ومحاورته في ما يعتقد أنه الحق الذي لا يعلى عليه.
• برزت في الآونة الأخيرة قضية أسالت الكثير من الحبر تتعلق بترجمة الأدب العبري، فهل تعتبر الترجمة من وإلى اللغة العبرية تطبيعا أم أن هذا يدخل في إطار الحوار الثقافي من باب "اعرف عدوك"؟
-"اعرف عدوك " هي قولة حق يراد بها باطل، والباطل هنا ابتكار طريقة يكسر بها دعاة هذا الرأي الحصار الوحيد الذي لا يزال مضروبا على الصهاينة المغتصبين، ونعني به الثقافة، لاستكمال التطبيع مع عدو استولى على كل شيء، فالتطبيع السياسي والاقتصادي وحتى الفني جار على قدم وساق في الكواليس، وإن حاول البعض التستر عليه، فمواقع الإنترنت والصحافة الدولية تفضح المسكوت عنه أولا بأول. إذا كانت التعلة معرفة العدو فنحن نعرفه كما يعرفنا، وإذا كان هو راغبا في ترجمة أعمالنا إلى لغته العبرية فذلك شأنه دون إذن منّا، فمن استولى على أرض فلسطين وسمائها وفلكلورها وتراثها وموسيقاها لا تعوزه الحيلة في الاستيلاء على آداب العرب أجمعين. إذا كان هؤلاء الدعاة صادقين فليكتفوا بأعمال الكتاب اليهود المترجمة إلى لغات العالم وكفى المؤمنين القتال.
إذا كانوا فعلا يريدون معرفة العدو، وليس التطبيع معه، فليقبلوا على ترجمة الكتب التي تفضح منطلقاته الاستعمارية، أو تلك التي تزيل القناع عن دعاواه التلمودية المضللة، وأغلب تلك المؤلفات من وضع مؤرخين ومفكرين يهود. حسبهم مثلا أن يترجموا كتاب "متى وكيف وقع ابتداع الشعب اليهودي؟" للمؤرخ الإسرائيلي شلومو صاند، الذي يبين فيه بالقرائن والأدلة التاريخية أن نفي الشعب اليهودي أسطورة، وأن الشتات اليهودي الناتج عن استبعاد الروم البيزنطيين لهم بعد هدم الهيكل كذبة بارحة، فهو يؤكد بالحجة الدامغة أن اليهود في الشمال الإفريقي واليمن وأوروبا الشرقية وسائر أصقاع المعمورة لا علاقة لهم بيهود فلسطين، فما هم سوى بشر من أجناس مختلفة اعتنقوا الديانة اليهودية أول ظهورها، وبالتالي فأرض الميعاد ليست أرضهم.
• إلى أي مدى يستطيع الكاتب العربي التنصل من البعد الأيديولوجي في كتاباته خاصة وهو وليد بيئة عربية كل ما فيها ينبض بالايدولوجيا والسياسة؟
- كل النصوص مؤدلجة بشكل أو بآخر، فلا وجود لكتابة بريئة، حتى تلك التي تعرض لعلاقات الوجد والغرام، لأنها في جوهرها متماهية مع السائد، ترى الواقع جميلا بما فيه الكفاية، ولا لزوم لتغييره. ولما كانت الحال كذلك، فالشرط في الإبداع أن يعمد فيه صاحبه إلى التلميح، أن تكون أفكاره مبثوثة في تلافيف نصه بذكاء ومهارة، فيستدل إليها القارئ والناقد بعد استقراء وتمحيص، لأن التصريح يخل بالعمل الفني, ويثقله، فيغدو النص أشبه بخطاب إيديولوجي فج، يضرّ النص أكثر مما يخدمه، ويجرده من بعده الفني ورسالته الإبداعية التي قد تخلده في الزمن.
* ما هي مشاريعك الإبداعية القادمة؟
- المشاريع كثيرة والوقت ضيق والجهد يتضاءل. فكرت بالتعاون مع الصديق الأديب الناشر وليد سليمان في بعث سلسلة روايات لليافعين، وينتظر أن تصدر لي رواية بعنوان "متاهات الزمن"، وهي أول كتاب في السلسلة في انتظار البقية. سلّمت دار سوي الباريسية مجموعة جديدة من الخرافات الشعبية التونسية وعنوانها "ريس البحار"، كما سلمت دار فلاماريون الباريسية ثلاثة كتب للأطفال مستوحاة من التراث العربي. أعكف على إتمام الجزء الثاني من رواية "لابس الليل" وعنوانه "زمن الدنّوس" وقد وعدت به الصديق سمير بن علي صاحب دار ورقة للنشر. هناك مشاريع في الترجمة، أفضل السكوت عنها قبل إتمامها.. والله الموفق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.