الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    استشهاد 20 شخصا في قصف إسرائيلي على مخيم النصيرات    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    لم يُشهد لها مثيل منذ قرن: غرب ألمانيا يغرق في الفيضانات    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كُنْ خالدا وأُوَيْسًا في الآن ذاته . . .
نشر في الحوار نت يوم 14 - 06 - 2011


كُنْ خالدا وأُوَيْسًا في الآن ذاته
لِمَ أقال الفاروق خالدا من بعد توليه إمامة المسلمين؟
لم تختلف الروايات في صحة إقالة الفاروق عمر سيف الله المسلول خالدا من قيادة الجيش من بعد توليه الخلافة في إثر موت الصديق أبي بكر عليهم الرضوان جميعا. حاولت بعض الروايات البحث عن أسباب أخرى للإقالة غير السبب التاريخي المعروف أي : خشية الإفتتان بالأداء العسكري الكبير المتعاظم لمن خلع عليه الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام : سيف الله المسلول. بعض الأسباب لا تتفق و حرمة الرجل من مثل أنه كان يأخذ من الغنائم دون الرجوع إلى أبي بكر الذي قلده ذلك المنصب العسكري الكبير عليه الرضوان. أي أنه كان غالا. وأسباب أخرى لا تصمد إلا كما تصمد أوراق الخريف عندما تهجم عليها رياح تذروها ذروا.هل يمكن أن ينعم رجل بنيشان إسمه : سيف الله المسلول وهو غال للمال العام! ولكنها الإسرائيليات والمرويات الواهية تفعل فعلها في تراثنا.
إنما هو فقه الفاروق للحياة.
قام فقه الفاروق للحياة على أساس قيمتين :
1 قيمة الخشية على المرء من نفسه بسبب أن ألد أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه وماذا يضير الحقائق العظمى إذا تعامت عنها البصائر أو أهملتها المناظر؟ هل يضير الله سبحانه شيئ أن أكثر من يزحم أرضه وينعم برغده ويتقلب في ستره هو به مشرك أو كافر أو له جاحد ينسب له الولد أو يغفل عنه غفلة لا أثر فيها للحياة والطمأنينة والهدوء؟ أم هل يضير الحقيقة شيئا إذا إنشغل المرء عن نفسه بغيره إنشغالا ينسيه عيب نفسه التي بين جنبيه؟ هذا هو تصوري : الحياة حلقات من المعارك وأول معركة هي معركة النفس فمن إنتصر في المعركة الأم ( معركة النفس ) ترشح لخوض غمار المعارك الأخرى ومن أخفق في المعركة الأم كان في المعارك الأخرى أشد إخفاقا. ليس يعني ذلك أن الإنتصار على النفس يكون على الطريقة الباطنية القديمة الموغلة في التشدد مع النفس إلى حد حرمانها حقها في الإستمتاع بالطيبات. إنما يعني الإنتصار على النفس كبح جماحها أن يتخذها الكبر والعجب والهوى المتبع مرفأ دافئا لا يجد دونه في الدنيا مرفأ آخر. تلك هي الأدواء السرطانية القاتلة : الكبر والعجب والظن بأن ما حبيت به من عندي كما قال قارون رمز الكبر والعجب أو أنه بأثر من قربي من الرحمان سبحانه كما يظن بعض متطرفة الصوفية. وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ).
2 قيمة الخشية على الناس من بريق الأبطال. ألست تلفى أن عددا غير يسير من الناس اليوم يسحره بريق الأبطال في مختلف الحقول والمجالات بأكثر مما يسحره الساحرون؟ عندما يحدثك محدثك عن إمرئ ما بإعجاب يفوق المستويات المعقولة فلا تقصر موقفك منه على عدم تصديقه ولكن إقطع خطوة أخرى مهمة إسمها : إخش على محدثك أن يقع أسيرا في حبائل بريق الأبطال. إذا وقع له ذلك فقد قاد نفسه بنفسه إلى السجن. هو سجن يقوم فيه السجين بدور السجان. لا يسجن السجين نفسه بنفسه إلا عندما يقع أسيرا في حبائل بريق الأبطال فينبهر بهم إلى حد يقترب من تقديسهم أو حد غير بعيد من تأليههم. وسطية الإسلام تريد من الإنسان ألا يحتقر غيره بحسبانه لا يساوي قلامة ظفر من جهة و ألا يعظم غيره تعظيما يعشيه عن إبصار سيئاته وهي كثيرة لو فتح عينيه من جهة أخرى. كم عدد أولئك في الناس؟ قليل ما هم. أليست تقوم حضارتنا اليوم وأزيز الإعلام المصور يؤزها أزا عجيبا على ثقافة ( الستار ) باللغة الأجنبية أي : النجم. نجم في كرة القدم ونجم في التمثيل ونجم في الغناء ونجم في الدعوة ونجم في الفصاحة والبلاغة والإبانة ونجم هنا ونجم هناك وآخر هنالك. تمتلئ حياتك بالنجوم ضمن خطة إستراتيجية محكمة مقصدها : أنت لا تساوي قلامة ظفر لأنك لست نجما وإنما الجدير بالعبادة النجم. نجم لو أحجمت عن التصفيق له بكفيك أو أقلعت عن دعم حفلاته ومواعظه بمالك أو خلا صدرك من ذكره .. لأفل أفولا عجيبا وسريعا. نجم يعيش بك أنت وأنت أسيره الذي يأسر نفسه بنفسه.
ذلك ما أراده الفاروق عندما عزل خالدا عن قيادة الجيش بعدما أثبت أنه الفارس المغوار الذي لا يشق له غبار عندما يحمى الوطيس.
أراد الفاروق حماية خالد من نفس خالد.
كما أراد الفاروق حماية الناس من إنبهارهم بخالد.
أراد الفاروق إعادة الإعتبار في صدر كل واحد منا لنفسه.
أراد أن يقول لنا جميعا : كل واحد منكم يمكن أن يكون نجما مثل خالد أو أقل من خالد أو أكثر منه بكثير ولكن بشرط واحد هو : أن يريد ذلك إذ لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله كما قالت العرب. بشرط واحد هو : أن يعيد كل واحد منكم الإعتبار لنفسه دون غرور بنفسه ليقع فريسة العجب والبطر والكبر. وهل يصح أن يفر المرء من شعور الوضاعة في نفسه ليقع أسير سجن آخر إسمه : شعور العظمة؟ لا وضاعة ولا عظمة. بل منهاج وسط.
أراد الفاروق أن يعلمنا أن النجومية في الساحات العسكرية أمر كبير ومقدر ولكن ساحات أخرى كثيرة في الحياة تحتاج إلى نجومية وهي مفتوحة لكل نجم ولا يكون النجم نجما حتى يتعلم ويتدرب ويتعثر ويسقط مرات ومرات.
هو الإعلام الأعور دوما في كل عصر وفي كل مصر : إعلام أعور ولكنه عور مقصود يركز على حقول من النجومية دون حقول أخرى ليحصر الحياة والأداء والإحسان في حقل محدد يصرف إليه الأبصار ثم لتموت الحقول الأخرى وتموت نجومها معها في الدنيا.
إذا كنت اليوم خالدا فأقِلْ نفسك قبل أن تُقال.
لكم صدق الإمام الغزالي ( 505 ) عندما قال : في صدر كل واحد منا فرعون يقول بملء فيه لولا أن الناس من دوننا لا يسمعونه : „ أنا ربكم الأعلى “. ذلك يعني أن حجم الفجور في النفس كل نفس مخلوقة من طين وماء هو بقدر التقوى فيها. ذلك يعني أن النجاح في المعركة الأم الأولى يقتضي بالضرورة : حبس مشاعر الفجور أن ترد على اللسان أو أي جارحة أخرى من جوارح الإنسان فضلا عن أن تكون تلك المشاعر واقعا ملموسا يتلظى به الناس من حولك وأنت تحسب أنك تحسن صنعا. ( أنا ربكم الأعلى ) نداء لا تخلو منه نفس ولكن لا يطلب منك غير حبسه ثم تصريفه طاقة إيجابية صالحة تنفع بها نفسك والناس من حولك فإن لم تفعل ذلك تسلل ذلك السجين ( أنا ربكم الأعلى ) خلسة من سجنه وفي غفلة منك تلفاه ثعبانا يتقلب بين شدقيك ويقول للناس بأي لسان كان : لسان حال أو لسان مقال : „ أنا الجدير بكذا وأنا العليم بكذا وأنا الأولى بكذا لأني الأكبر والأرسخ والأسبق والأعلم والأشهر والأقبل عند الناس ..“.
أنت خالد في حقلك. بل قد تكون أكثر من خالد واحد وفي أكثر من حقل واحد.
قد لا تجد من يقيلك ولا من يعزلك. لأنه لا سلطان للناس عليك.
فهلا أقلت نفسك بنفسك لتحمي نفسك من نفسك وتحمي الناس من نفسك.
إما أن تفعل ذلك وإما أن ترقب هذا المصير. هذا المصير شهدت به تجارب التاريخ إذا كنت ممن يعير لتجارب التاريخ وسننه ميزانا. مصيرك إذا لم تقل نفسك بنفسك هو : أن يفتتن بك الناس أياما وأسابيع وشهورا وسنوات وعقودا ثم يبلى ذكرك عندهم ويسلط عليك ربك جزاء عاجلا على سرطان العجب الذي إستبد بك .. يسلط عليك عثرات من بعدها عثرات. عثرات لا يتفهمها الناس ولا يتقبلونها بل يلفظونك في أشد ساعات حياتك حاجة إلى الإهتمام بك : أي عندما تشيخ وتكبر. تظن أنك شخت لتكون شيخا عليهم فتفاجأ بأنك شخت لتكون عبء عليهم. عبء يلفظ بيسر لا يلوي على شيء.
كيف تقيل نفسك بنفسك.
1 قيد نفسك بخلق التواضع وشمائل التقوى. لا يكن ذلك منك تصنعا لأن الناس لا يخدعهم متصنع طول الوقت حتى لو خدعهم وقتا طويلا. إنما يكون ذلك بحسب مناسيب الإخلاص لله سبحانه وحده في صدرك. لا تظنن أن الإخلاص خصلة قلبية ليس لها من أثر في الحياة. لا تظنن أن الإخلاص خلة لا يطلع عليها الناس. لا يطلعون اليوم عليها ولكنهم سيطلعون عليها غدا. غدا عندما تشيخ تبدأ مخبوءات الصدور في الظهور عليك ويطلع الناس عليك. أليست تلك هي عاجل نذير المؤمن؟ كيف يكون للمؤمن عاجل بشرى ولا تكون له عاجلة نذير؟ تلك قسمة في الإسلام ضيزى.
2 قيد نفسك بخلق الإعتراف بالتعدد و التنوع والإختلاف. الساحة في كل حقل من حقول الحياة تشكو الفراغ وليست تشكو التخمة .. الفراغ من النجوم مثلك .. ليست تلك فكرة تشنف بها آذان الناس في المواعظ والدروس والمحاضرات والمكتوبات فإذا نزلت إلى ميدان العمل تبخر كل شيء وظللت تقول في نفسك : ليس لي في هذه الساحة نظير ولا نديد ولا مثيل. أنا فارسها الأوحد. يكفيك أن تكون أحد فرسانها. حتى لو أثنى عليك الناس بمثل ذلك فلا تصدقهم ولتكن القالة القديمة راسخة في صدرك حتى لو لم يلهج بها لسانك بل إني لا أريد أن يلهج بها لسانك سيما في الملإ : اللهم إجعلني خيرا مما يظنون وإغفر لي ما لا يعلمون.
3 قيد نفسك بخلق الحلم والأناة. جرعة واحدة في الحياة كلها لا يقوى على تجرعها غير مصطفى مستأمن ينعم اليوم بيننا بنعيم جنة الدنيا لينعم غدا بنعيم جنة الآخرة. هي جرعة الحلم عندما تغضب لجرح ثخين أصابك في نفسك وعرضك سيما بحضرة الناس من سفيه لئيم حقير. إذا إجتمعت مناظر ذلك المشهد : أنت النجم + الملأ من حولك + سفيه ينفث سفاهته فيك نفث الثعبان لسمه في الطريدة.. إذا إجتمعت مناظر ذلك المشهد فتوفقت وما توفيقك إلا بالله إلى أن تكون الضلع الآخر والأخير للمشهد : ضلع النجم الحليم المتأني لا ينبس ببنت شفة بل يقول في صدره ولا حاجة لذلك باللسان : „ سلام عليكم لا نتبغي الجاهلين “.. إذا إكتمل المشهد بحلمك وأناتك فأنت النجم وإلا فإنك الوضاعة الوضيعة. لا يعني ذلك ألا يتمعر وجهك أو ألا يوغر صدرك. لا. أنت بشر ممن خلق سبحانه. المشهد لتكون نجما لا يتطلب منك سوى كظم الغيظ. كظم الغيظ ليس مخافة تدحرج نجوميتك بين الناس. تلك سياسة يحسن حبكها أهل الدنيا. أهل الآخرة يكظمون الغيظ حتى لو كانوا في خلاء لا يرقبهم فيه أحد. الأولون يكظمون الغيظ لكسب نجومية إضافية زائدة فإذا خلوا بالسفيه سحقوه أما الآخرون فشأنهم شأن آخر.
من فقه الشاطبي وبعض الواصلين.
يقول الواصلون قديما أنه ينبغي للمتصدر كتم بعض المستحبات والرغائب والسنن من حين لآخر خشية أن يستتب الأمر عند الناس أنها عبادات مفروضة لا يحسن سوى إتيانها. ذلك مسلك أصولي معروف عند طلبة العلم. هو سد الذريعة ولكن في إتجاه معاكس للسد المعروف في الفقه. هناك تسد الذريعة عندما يخشى من قربان الإثم وقوعه ( الجلوس على مائدة تدار فوقها خمرة ) وهنا تسد الذريعة عندما يخشى على الناس إضطراب فهم تختل فيه مرتبة المطلوبات والممنوعات ليقدم صغير ويؤخر كبير. سد الذريعة ليس في الفقه العملي فحسب بل هو في الفقه القلبي كذلك. قد ينكر الناس ممن أريد تعليمهم بطريقة سد الذريعة وممن يخشى عليهم تشوش فقه مراتب الأعمال فيهم .. قد ينكر الناس ذلك من المربي المتصدر ولكن المربي المتصدر يثبت على ذلك الإحجام عن إتيان بعض المستحبات والسنن ولا يستخف من لدن الذين لا يوقنون.
ما معنى ذلك عندك اليوم.
معناه ذلك اليوم عندك هو أن تكسر نبض الظهور الدائم المنتظم في صدر الناس لئلا يعتقد الناس ممن لا يوقنون أنك أشبه شيء بالنبي المعصوم أو الفارس الذي لا يشق له غبار أو النجم الذي لا يعرف الأفول والحصان الذي لا يعرف كبوة ولا عثورا. موقفك ذاك لا يربيهم هم فحسب بل يربيك أنت كذلك. حتى المؤيد بالوحي المعصوم محمد عليه الصلاة والسلام قدرت له أقدار الرحمان سبحانه أن يغفل عن صلاة الفجر يوما فلا يستيقظ لها حتى أوجعته الشمس بحرها بما ضرب الله عليه وعلى أصحابه ومنهم مؤذنه بلال. لم كان ذلك؟ لئلا يعتقد الناس أنه ملك كريم أو معصوم عصمة كونية تخرج عن دائرة العصمة البشرية. لئلا يظن الناس بكلمة واحدة أرادها الشارع أنه مسيح جديد بعث في أمة الإسلام. لا. هو نبي جديد خاتم ولد كما يولد الناس ويموت كما يموتون ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولكنه معصوم عصمة دينية ليبلغ عن ربه الحق الذي ليس وراءه إلا الضلال وهي ليست عصمة دنيوية إلا عصمة له من القتل ( والله يعصمك من الناس ).
ونعم المُقال سيف الله المسلول.
هل تظن أن سيف الله المسلول المقال خالدا أحال نفسه على التقاعد المبكر من بعد تنحيه عن قيادة الجيش أم أنه إعتزل الناس وإنكفأ على خويصة نفسه.. لو كان شيء من ذلك لما إستحق نيشان : سيف الله المسلول. هو سيف الله المسلول على نفسه بدء. فلما نجح في سل سيف الله على نفسه يؤدبها أن يفترسها العجب والكبر والبطر كان سيفه المسلول على أعدائه. أم هل تظن أن الساحات من بعد عزل خالد لم تجد نجما يرغم أنوفا بطرت في التراب؟ لا أبدا. ما توقفت سفينة الحياة ولكنه الفقه الفاروقي العمري الكبير عندما ينتبه إلى ما لا ينتبه له الآخرون. إنه الفقه الفاروقي العمري العظيم عندما يفكر في خير خالد فيقيل خالدا لئلا يكون خالد عدوا لخالد نفسه. إنه الفقه الفاروقي العمري العميق عندما يفكر في خير الأمة فيواري فيها خالدا لئلا تفتن الأمة بنجومية خالد فيهلك من إفتتن فيه.
ميزان لا يخطئ أبدا.
في الدنيا ميزان واحد لا يخطئ أبدا. ميزان ينصف كل من صعد عليه ليزن نفسه أو رضي بأن يزنه الناس به. هو ميزان الناس. أولئك الذين يحيطون بك. أولئك الذين يسمعون عنك. أولئك الذين تشنف آذانهم بالكلمات والمواقف. أولئك الذين علمتهم وحشدتهم. أولئك جميعا هم ميزانك في الدنيا. لا مناص لك من ركوب ذلك الميزان إذا أردت معرفة سعرك في السوق أو معرفة الإخلاص الذي هو في صدرك هل هو حقيقي خالص أم هو مزيف مغشوش. إذا قال لك أولئك نعم أي أغلبهم وليس كلهم طبعا فأنت على خير كثير : خير في الدارين إن شاء الله تعالى وليس هو خير مقصور على الدنيا. أما إذا قالو لك : لا. فأقل نفسك قبل أن تقال. بل هم أقالوك بميزانهم الذي لا يخطئ أبدا. ألا ترى أن العالمانيين اليوم في تونس مثلا وفي أكثر بلاد عربية وإسلامية يتجنبون الصعود على الميزان؟ لم يا ترى؟ لأنهم يدركون أن الميزان سينصفهم وسيقول لهم :لا. عندها يكونون قد عرضوا أنفسهم لفضيحة الميزان الذي يمسك الشعب دفتيه عن يمين وشمال فهو معتدل لا طغيان فيه ولا إخسار. لذلك يظلون يتأبون عن الميزان ويستعيضون عن ذلك بملء الدنيا عويلا أن الميزان الإنتخابي هو الميزان. قول بلا عمل يتلهى به الفارغون وقد يصدقه الذين لا يوقنون.
الأنبياء وحدهم لا يصعدون على ذلك الميزان لوزن أنفسهم ودعواتهم بسبب أنهم مختارون من الله سبحانه. إذا ثبتت لبشر نبوة فإن الميزان هو ميزان النبوة وكل من لم تثبت له نبوة فالميزان الوحيد هو ميزان الناس.

الناس الذين يستمعون إليك ويعجبون بك إلى حد الإنبهار .. أولئك هم أنفسهم الذين وضعوك فوق الميزان ووزنوك وأنت اليوم عندهم إما صاحب رصيد أو رجل نفد رصيده. هو ميزان منصوب ولكن نتائجه لا تعلن سوى يوم الإنتخابات. عادة ما ترتفع أرصدتك لتصل السماء بسرعة في الأيام الأولى والسنوات الأولى ثم تتدحرج إلى مستوى محدد بسبب تدحرج درجات الإنبهار عند الناس. وعندها يبدأ الإمتحان معك فعلا. عندها يستقر الميزان بك. قد ترتفع أرصدتك قليلا أو تنزل قليلا ولكنها في الجملة مثبتة في مستوى من مستويات الميزان الذي يمسكه الناس ولكن قليلا منهم جدا من يعلن لك نتيجة الميزان. أغلبهم يتجنبون ذلك.
إن لم تكن خالدا العلن فكن خالد السرّ.
من عظائم شريعة الإسلام الوسطية. من مظاهر تلك العظمة التشريعية الوسطية أن الإنفاق يؤتى سرا وعلنا. لا أفضلية لإنفاق سر على إنفاق علن كما وقر خطأ في عقول أكثر المسلمين اليوم. ها هو البرهان الساطع الحق بالحق يجلجل ليقول لنا ويعلمنا : „ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم “. الذي أصاب الناس بسوء الفهم هنا هي كلمة ( خير لكم). لو قال ( خيرا لكم ) فمعناها في بعض السياقات اللغوية التي يعرفها أهل الذكر وطلبة العلم وليس في كل السياقات صيغة تفضيل ويكون المعنى أن نفقه السر خير من نفقه العلن. ولكنه قال ( خير لكم ) ليكون المعنى : نفقه السر خير ونفقه العلن نعمة. النعمة خير والخير نعمة. فلا تفاضل بين الخير وبين النعمة. هو الخطأ ذاته الذي يقع فيه المسلمون اليوم عندما يخطؤون فهم قوله في الكهف ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا). لم يصنع الناس تقابلا وتفاضلا بين الأمرين؟ هل أن الباقيات الصالحات التي قصرها إبن كثير ( غفر الله له ورحمه الله سبحانه ) عن التسبيح والتحميد .. هل أنها خير من المال والبنين بإطلاق خير تفضيل؟ إذا لم أمرنا بإتيان الزينة حتى عند السجود ( خذوا زينتكم عند كل مسجد)؟ ولم علمنا ( حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء ..)؟ إنه العقل الجزئي الذي يقابل بين الأشياء مقابلة تفاضل لا تكامل فيه.
لا تفاضل بين صدقة السر وبين صدقة العلن إلا بتفاضل إخلاص صاحبها من جهة وبتفاضل محلها من جهة أخرى. قد تكون صدقة العلن أوفر حظا وأوجر جزاء من صدقة السر عندما تكون في محلها المناسب قلبا من صاحبها وقالبا من مشهدها وقد تكون صدقة السر أدنى من ذلك عندما تتنكب محالها المناسبة قلبا وقالبا. إذن ما تصدق الأعمى الذي لا يمكنه وضع صدقته دون أن يعلم بها من حوله؟ تلك قسمة في الإسلام ضيزى.
من هو خالد السرّ المقصود هنا؟
هو أُوَيْس إبن عامر : رجل أوصى به محمد عليه الصلاة والسلام وزيره الفاروق عمر وقال له إنه رجل باليمن مستجاب الدعوة فإن لقيته فادعه يستغفر لك. بحث عنه الفاروق الذي ما ينبغي له أن يفلت فرصة مثل هذه. عمر يملأ يومها أبصار الناس وأسماعهم من مؤمنين وكافرين. ليس في الناس يومها إلا رجل يوقره أو رجل يخشاه. أي حاجة منه وهو كذلك إلى رجل مغمور في اليمن لا يشعر به حتى أهله فضلا عن غيرهم؟
أيهما خير لك : أويس أم خالد؟
أيهما عند الله أفضل درجة؟ أمر لا يعلمه سواه. كلاهما خير : خالد في ساحات إرغام أنوف الظالمين خير من أويس قطعا وأويس في ساحات أخرى خير قطعا. كلاهما خير حتى لو كانت الساحات مختلفة. غير أنه أن تكون مستجاب الدعوة بمثل أويس عليك أن تكون مستطاب الطعام. الطعام لغة وشرعا ليس ما تأكله فحسب بل هو ما تأكله وتشربه وتلبسه وتسكنه وتركبه وتنكحه وتراه وتسمعه وتقرأه وتستأمنه. ذلك هو الطعام في اللغة والدين. إنما إختصر في لفظ الطعام لأنه هو الأشهر الذي يأتيه الإنسان مرات في اليوم الواحد. أن تكون مستطاب الطعام معناه أن تكون مستطاب الحياة. أن تكون مستطاب الحياة معناه أن تتحرى الطيب الحلال مكسبا ومصرفا ما إستطعت وحييت لك ولمن تعول. لم كان ذلك هو الشرط الأكبر من شروط إستجابة الدعاء؟ لأنه أمر على يسره لا يحسنه الناس كلهم بسبب فتنة الدنيا التي لا يشبع منها شبعان.
إذا كنت خالدا فكن في الآن ذاته أويسا.
تلك هي أم هذه الموعظة المتواضعة المرتجلة. إذا كنت خالدا وأعني في هذه الموعظة خالدا الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس من حوله في حقل الدعوة الإسلامية .. إذا كنت خالدا يا خالدا الذي أعني فكن أويسا كذلك. كن مع ربك أويسا مستجاب الدعوة وأي مقام لك عند ربك أن تدعوه فيستجيب! وكن مع الناس خالدا الذي يحشدهم إلى قيم الشهامة والكرامة والمروءة والإنتصار للمقهورين.
كان خالد من قبلك من قبل عزله ومن بعده أويسا وكان أويس من قبل إلتقائه عمر ومن بعده خالدا.
أما أنت اليوم فإنك تحتاج إلى أن تكون خالدا الذي ينصر الإسلام وقيم العدل والحرية بسيفه والقلم سيف واللسان سيف وأسياف أخرى كثيرة ولكل سيف محله المناسب.. بمثل ما تحتاج إلى أن تكون أويسا الذي ينصر الله سبحانه فينصره سبحانه وكفى به نصرا مبينا وفتحا عظيما أن تمد راحتيك إلى السماء تقول يا رب : فيقول لك : أي عبدي لبيك وسعديك!
والله أعلم.

الهادي بريك المانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.