يوم الجمعة الرّابع عشر من أكتوبر 2011، الموافق 16 ذو القعدة 1432، استأذن ذلك الأخُ أخاه عمر السعيداني - وقد كان يزوره بالمستشفى الذي يرقد فيه في مدينة فريبورغ بسويسرا - للتغيّب عنه بعض الوقت بغية أداء صلاة الجمعة... أذِن عمرُ لأخيه دون أن يُعلمه عن نيّة سفره، فلعلّه ما كان قد بيّت نيّة سفره!... ولمّا أقيمت الصلاة كان عمر قد حزم الأمتعة ورحل، في سفر قد نراه نحن بعيدا ونشعر بثقل أيّامه فيرهقنا الغياب، ويراه هو كما شاء له ربّه قصيرا، كما ما بين صلاتي الظهر والعصر!... عمر بن بلحسن البوحامي، ثمّ السعيداني، طفل وسيم حييّ متواضع بسّام، يقطع ما لا يقلّ عن سبعة كلم يوميّا بين قريته "قزنّي" الواقعة ثلاثة عشر كلم شمال مدينة ماطر وقرية "برج العدواني" التي تبعد عنها أكثر من ثلاثة كلم حيث بُنيت المدرسة الوحيدة لتكون قبلةَ كلِّ أطفالِ الدفعة الأولى من أبناء الاستقلال وما يليها، فقد كانت المدرسة تستقبل أبناء قرية قزنّي وقرية سيدي سالم والطارف وبوسعيد والشريط الجبلي المتاخم، وقد خرّجت المدرسة رجالات أفذاذا صالحين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر!... عمر السعيداني شاب ملتزم متّزن حييّ متواضع بسّام، درس بمدينة ماطر في معهدها الثانوي المختلط ثمّ بمدينة الجلاء بنزرت حيث حصل على شهادة الباكالوريا... عمرالسعيداني فتى يافع طويل أشمّ ملتزم متّزن حييّ متواضع مسؤول بسّام، تخرّج من الجامعة سنة 1979 ليباشر التدريس في مدينتي منزل بورقيبة وبنزرت، ثمّ يلتحق سنة 82/83 بمصنع الجرّارات "ماطر" بمدينة ماطر فيعمل مدير إنتاج به... عمر السعيداني الرّيفي المتحضّر المسلم الملتزم الرّجل، لم تفتنه دنيا أو تصرفه وظيفة عن واجبه الخادم لبلده وللحقّ وللكرامة التونسيّة، فوجد النّظام التونسي له بالمرصاد، يتابعه يراقبه يصنّفه ثمّ يرميه ضمن "المفسدين" – عائلات الانتماء – في السجن بضعا من سنتي 87 / 1988، دون نظر إلى مركزه الإنتاجي أو وظيفته المسهمة في تنميّة صناعةٍ تحتاجها بلادنا الفلاحيّة التائقة إلى النّهوض!... ثمّ!... ساهمت الكذبة النّوفمبريّة في إخراج عمر ورفاقه من السجن ولكنّه سرعان ما ألفى ضمور الفوارق بين داخل السجن وخارجه، فآثر أو هو أجبِر كما أجبِر غيرُه على الهجرة خريف 1991... نزل عمر بتركيا ثمّ ببعض بلدان أروبا الشرقيّة، منها بلغاريا على وجه الخصوص، ليستقرّ به الحال ابتداء من 1996 في سويسرا التي رحل عنها وعن مدينتها فريبورغ يوم الجمعة 2011، كما ذكرتُ أعلاه... عمر السعيداني كهل ملتزم متّزن عامل حييّ متواضع بسّام مبتلى، فقد شاء الله تعالى أن يقبض نفسَ فلذة كبده إبراهيم في ذات الشهر ذي القعدة من سنة 1428 الموافق سنة 2007، وقد بدأ إبراهيم يومئذ يملأ عيني الأمّ والأب على حدّ السواء، فقد حلاّه أدبه وزيّنه تديّنه وثمّنته استقامته ورفعه برّه، وهي خصال رفّعت من درجة الحزن الذي سكن مدّة ليست بالقصيرة فناء العائلة بعد أن أصيبت بموته... سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلساءه من أصحابه: "... وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ!" قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ"... إبراهيم رحمه الله مات في حادث مرور أليم، فأسأل الله تعالى أن يكون من صنف من مات تحت الهدم، فيتقبّله ربّه من الشهداء الأبرار... وعمر رحمه الله مات بسبب السرطان فأسأل الله تعالى أن يكون من صنف المبطون فيتقبّله ربّه من الشهداء الأبرار...
عمر رحمه الله ورفع درجته وأحسن وفادته أسنّ منّي فقد جئت إلى الدنيا سنة واحدة بعد مولده... وعمر أكبر منّي فقد عمل للإسلام أكثر ممّا عملت... وعمر يتقدّمني كثيرا على الطريق إلى الله فقد قدّم ولدا ولم أقدّم وقد أوذي كثيرا وصبر ولم أصبر كثيرا على صغائر ما أوذيت به، وقد مات ميتة أحسبه بها شهيدا عند الله تعالى ولازلت في هذه الدنيا لا أدري كيف تكون الخاتمة إلاّ أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل فيثبّتني على طريق مرضاته ويقبضني بميتة يرتضيها لعباده المقرّبين... وعمر أحسن منّي وأنبل، فقد بادر لمّا رجع إلى تونس بعد أن غيّر الله فيها الأرض غير الأرض إلى زيارة والدي المسنّ هناك في ريف ماطر بالقرية التي احتضنت المدرسة التي تحدّثت عنها في المقدّمة. زاره وهو يحمل آلام مرضه العضال التي لم تفارقه مذ نزل المرض بساحة جسمه النّحيل!... لمّا سمعت بالخبر من أبي افتخرت بعمر كثيرا وصغرت نفسي عندي كثيرا وتألّمت لحالي كثيرا، إذ كيف لم أكن أنا المبادر بزيارة من تبقّى من أهله وقد كتب لي الله من الأيّام ما كنت أستطيع فيها زيارة أهله!... شيء وحيد يعزّيني أنّي ما نسيت يوما أحدا من أهله، ولا أحسب أنّي سأنكر يوما أنّ عمر يُعدّ من أهلي كما قد بلغني أنّه يحسبني عنده من أهله، وصدق ربّي "إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ"!...
قال تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"... ولأنّنا هكذا كما وصفنا ربّنا جلّ وعلا، فقد رفعت السمّاعة أكلّم أختي المجاهدة سميرة البوغانمي، أمّ محمّد، زوجة الأخ عمر رحمه الله ورفعه في علّيين وألحقه بالصالحين، لأستكمل منها بعض المعلومات اللازمة لإقامة صلب هذا المقال المندرج ضمن إطار برّ الأخ بأخيه. وقد سررت كثيرا لحالة القبول والتسليم لله سبحانه وتعالى، فقد لمست السكينة التي أنزلها الله تعالى في كلمات أختي وشعرت بالصبر الذي أفرغه الله تعالى على العائلة في نبرة صوت أختي، فالحمد لله ربّ العالمين... وعسى الله تعالى أن يثبّتنا على برّ إخواننا وأخواتنا، فقد ذهب عمر وترك وراءه محمّدا رجلا وغفران امرأة نسأل لهما التوفيق والثبات على الحقّ، كما ترك زوجة كريمة صالحة – نحسبها - نحن جميعا مطالبون بالإحسان إليهم والتواصل معهم والاهتمام بجديد حياتهم... وهناك في أرض تونس في ماطر حيث سيُدفن عمر بإذن الله اليوم أو غد أو بعد غد (حسب سرعة تنفيذ نقل الجثمان من فريبورغ إلى ماطر)، فإنّ أهل عمر في العائلتين الصغيرتين السعيداني والبوغانمي أو في العائلة النهضاويّة أو في العائلة الأكبر عائلة المؤمنين مطالبون جميعا بالإحسان إلى هذا الرّجل الذي نذر حياته لخدمة تونس وخدمة الإسلام والذي طبع قيمة الحياة بنظرة قصيرة تلقى عليها تزهّد فيها وابتسامة دائمة مستمرّة تعكس صفاء القلب وسلامته وكبر النّفس وإقلاعها عن صغائر الأمور...
في النّهاية لا بدّ أن أشير إلى المرارة التي تلقّى بها أخي رضا التونسي خبر وفاة أخيه عمر السعيداني، وكيف كتم بصعوبة دمعات لم يفلح جفناه في إخفاء بريقها، وهو ما يعكس قوّة العلاقة بين المؤمنين الإخوة... وهي العلاقة التي يذكّرنا الموت دائما بها وبضرورة تعهّدها وصيانتها، غير أنّ الشيطان أجارنا الله منه كثيرا ما ينسّينا... نسأل الله الرّحمة لعمر ولإبراهيم ولجميع شهداء وموتى المسلمين، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون...