خبر البوعزيزي كما حرر في كلمة يوم الحادثة: شاب يحرق جسده بسيدي بوزيد واحتجاجات أمام مقر الولايةأفاد شهود عيان أن الشاب محمد البوعزيزي البالغ من العمر 26 سنة، من أصحاب الشهائد العاطلين عن العمل أقدم بعد ظهر يوم الجمعة 17 ديسمبر الجاري على حرق جسده بعد أن سكب عليه البنزين أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجا على ما تعرض له من اعتداء بالعنف ومنع من مقابلة أحد المسؤولين بالولاية لتقديم شكواه. وحسب إفادات شهود عيان فقد تم صفع الشاب المذكور من قبل عدد من أعوان التراتيب البلدية الذين كانوا بصدد حملة لمنع الانتصاب الفوضوي وحجزوا كمية من الخضر والغلال التي كان يبيعها، وحرر محضر جبائي في حقه وأجبر على عدم الانتصاب قرب محطة التاكسيات التابعة لمدينة سيدي بوزيد.وأضافت مصادرنا أن الشاب كان يرافقه شقيقه من ذوي الإحتياجات الخاصة وهما يتيما الأب وينتميان الى عائلة فقيرة، تزودا صبيحة يوم الحادثة من سوق الجملة بمبلغ تجاوز 500 د كلها بقيت ديونا متخلدة بذمة المتضرر الذي كان يأمل أن يسددها بعد أن يبيعها، غير أن عملية الحجز وما تبعها من اعتداء وتحرير محضر دفعه لتقديم شكوى بمقر ولاية المكان وعند منعه من مقابلة أي مسؤول، أحضر كمية من البنزين وأضرم النار في جسده.وقد تضاربت الأخبار حول حالة البوعزيزي حيث يقول بعضها بأنه يرقد بالمستشفى في حالة خطرة في حين تذكر مصادر أخرى أنه فارق الحياة وأن السلطة تتكتم على الخبر لامتصاص غضب المواطنين الذين تجمعوا بأعداد غفيرة أمام مقر الولاية وقذفوها بالخضر والغلال ورفعوا شعارات تندد بالاعتداء والفقر والبطالة. (انتهى النقل، ولسنا هنا بصدد مناقشة دقة ما ورد في الخبر) مقدمة:عايشت في إطار مسؤوليتي على قسم الأخبار "براديو كلمة" أحداث الثورة التونسية لحظة بلحظة منذ انطلاق شرارتها الأولى يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010، بعد أن أقدم الشاب محمد البوعزيزي رحمه الله على حرق جسده. الخبر لم يكن في بدايته غريبا ولا سابقة فريدة من نوعها، ولم يتوقع أحد أنه شرارة ثورة أو حتى حركة احتجاجية تستمر لأيام أو أسابيع على غرار الحركة الإحتجاجية لمنطقة الحوض المنجمي. فقد سبق للشاب عبد السلام تريمش أن توفي متأثرا بحروقه بعد أن أضرم النار في جسده يوم 3 مارس 2010 ببهو بلدية المنستير التي لم تمنحه رخصة لبيع الأكلة الخفيفة! وقد تسببت الحادثة في حركة احتجاجية كبيرة لكنها لم تستمر طويلا ولم تنتقل خارج المنستير. كما سبقه إلي ذلك آخرون ولحقه آخرون حتى أصبح الانتحار حرقا ظاهرة مثيرة للانتباه. وقد سبق لي أن كتبت مقالا في ركن القديد المالح في "كلمة" بتاريخ 23 مارس 2010 عنونته ب "حرائق الأبدان" تحدثت فيه عن تكرر حالات الانتحار حرقا، وذلك قبل أن يحرق البوعزيزي نفسه بحوالي 9 أشهر. الكلمة الأولى: البذور والجذور بذور الثورة وجذورها نمت وترعرعت بسبب الإستبداد الخانق كما ينبت العشب بين مفاصل الصخر، حيث سدّ "بن علي" وأعوانه وأذرعه وأقاربه وأصهاره كل سبل الحياة الكريمة وحولوا الشعب إلى شق موال ومنافق، وشق آخر وهو الأغلب الأعم صامت على كره ومغمض على قذي.ولكن بعضا من أبناء تونس وبناتها ظلوا طيلة سنوات الجمر من الحكم البائد يعاندون المخرز بأكفهم العارية. سقط بعضهم شهيدا على درب الحرية وواصل الأحرار حمل مشعل المقاومة المدنية السلمية طيلة تلك السنوات العجاف رغم القهر والتشريد والتنكيل بالمعارضين وأهلهم.إن الثورة لم تكن وليدة لحظة أو صدفة، ولكنها ولدت ولادة شرعية في كنف آباء وأمهات بذلوا الغالي والنفيس حتى يغرسوا بذرتها ويرعوا نبتتها، ولم تكن حادثة البوعزيزي رحمه الله إلا القطرة التي أفاضت الكأس. وشاء الله أن تفيض آخر قطرة في سيدي بوزيد التى أصر أهاليها بأن تنبت تلك القطرة الزهرة المنتظرة، فصبروا وصمدوا حتى لا تنطفئ الجذوة! الثورة كانت في بدايتها تحركا احتجاجيا تصاعديا أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، ومن يعود إلى مقاطع الفيديو التي تم بثها في تلك الفترة يشاهد كيف كان المعتصمون يشجعون بعضهم بعضا فيذّكر أحدهم بأحداث الحوض المنجمي، ويعلق آخر بأن "القفاصة رجال" فيأتيه الردّ من معتصم آخر"حتى إحنا رجال"! ... كما أننا مازلنا نذكر كيف أن أحد المعتصمين بادر برفع شعارا ضد "الطرابلسية" وهو وجِل مما يمكن أن يلقاه بسبب ذلك الشعار! ... كما أن الشعار المركزي للتحركات في الداخل والخارج هو "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"! الكلمة الثانية: الإحتجاج يتحول إلى بدايات ثورة بعد أن عمت التحركات كامل مدن سيدي بوزيد ونظمت تحركات مساندة في العواصمالغربية وبعد أن ارتفع الشاب محمد العماري شهيدا بالرصاص الحي في المواجهات مع قوات القمع يوم 24 ديسمبر 2010، وأصيب عدد آخر بإصابات خطيرة اتسعت رقعة المواجهات لتنتشر خارج ولاية سيدي بوزيد، وأًصبح الوضع خارجا عن سيطرة نظام بن علي بعد ارتفاع عدد كبير من الشهداء في ولاية القصرين. ظهر "بن علي" مرعوبا مرتعشا مرتبكا، وانتصرت الصدور العارية على الرصاص! ... فرّ الجلاد واللصوص المحيطون به وتنفست تونس طعم الحرية وأظهر الشباب صورا رائعة من نكران الذات والتضحية في سبيل حماية الوطن من الانزلاق في الفوضى، وحموا الأملاك العامة والخاصة من المنحرفين الذين لا يخلو منهم زمان أو مكان بإمكانياتهم البسيطة وإرادتهم العالية، حين انسحب الأمن من الساحة. الكلمة الثالثة: بروز الخلافات بسرعة قبل أن تحط الطائرة الهاربة بالرئيس المخلوع تذكرت "النخبة" خلافاتها الإديولوجية والفكرية، وبدأت التصريحات الإقصائية والتراشق بالتهم ونصّب كثير من الأشخاص والتيارات أنفسهم ناطقين باسم الثورة والشعب، يمنحون صكوك الثورية لمن شاءوا، ويتهمون من شاءوا بمحاولة الركوب على الثورة وتحويل وجهتها لهذا الاتجاه أو ذاك.برز ذلك في عديد التصريحات أو الصفحات التي أنشأت على المواقع الإجتماعية التى تطالب بعدم الاعتراف بهذا التيار أوذاك، أو عدم السماح بعودة المهجرين الذين نعتوا بأبشع النعوت، وأعيد استخراج التهم التي كان "المخلوع" وأعوانه يلصقونها بهم ويقصونهم لأجلها. الكلمة الرابعة: مسامير نعش الطاغية أول من صنع خشب النعش ومساميره هو الطاغية نفسه بما ارتكب وأهله من حماقات ومآسي في حق الشعب ونخبته، وكلما تمادى في غيه وأصمّ سمعه واعتقد أن "صوت المستذلين خافت" وأن ليس للحق الغضوب لعلعة ولا صدى، صمم المستضعفون وحطموا قيودهم، وتعاونوا على دق المسامير في نعشه وجمع خشباته إلى بعضها. نعم طالت المدة واختلفت الأيادي التي تدق تلك المسامير كما تنوعت تلك المسامير في أحجامها. كثير من الأنشطة الحقوقية والسياسية داخل البلاد وخارجها كانت مسامير في نعش الطاغية! المواقع الإلكترونية التونسية مثل "تونس نيوز" و"كلمة" و"الحوار التونسي" و"الحوار نت" و"نواة" و"الفجرنيوز" والسبيل أون لاين" وغيرها كانت كل يوم تدق مساميرا في النعش وتجمّع أخشابه بعضها لبعض. ثم جاءت الثورة الإعلامية و"الفايس بوك" أساسا ليكسر جدار التعتيم وينقل المشاهد الحية للرصاص والدماء. وكان لقناة الجزيرة وللفريق التونسي العامل فيها خلف الكواليس دورا مهما في تعرية نظام بن علي وتقريب أجله. ولم يكن اندلاع الثورة يوم 17 ديسمبر 2010 إلا دقا لغطاء النعش وليس بناءا لهيكله، وكان جسد البوعزيزي رحمه الله قداحة للثورة، التي كان وقودها الحقيقييون رجال سيدي بوزيد الذين واجهوا الرصاص بصدور عارية وصمدوا حتى انتقلت الثورة وعمت. الكلمة الخامسة: "تصنيم" البوعزيزي الإعلام الذي طبل طويلا لبن علي وكان بوقه المضلل والذي وصف "غضبة" البوعزيزي بداية باليأس والفعل الطائش وصفها بالإنتحار المحرّم شرعا، وتحدث عن "حلم الرئيس الرحيم ذي القلب الحنون"، هو نفسه الذي "قلب الفيستة" وأصبح "يقدّس" البوعزيزي وجعل منه صنما أصبغ عليه من الأوصاف ما ليس فيه، ليس حبّا في البوعزيزي ولكن ركوبا للجوقة حتى أن أحد هذه الرموز الإعلامية البائسة التي لعبت أدوارا خسيسة في التطبيل لنظام بن علي أصبح يُشهّر بمن قال أيام الثورة "لا أنصح الشباب بالإقدام على الانتحار حرقا لأنه أسلوب غير محبذ وإنما أدعو الشباب لمواجهة القمع ومن سقط برصاصه فهو شهيد"! ومجاراة لهذه الجوقة قال أحدهم بأن البوعزيزي هو "سيد شهداء عصرنا"! ... ولا أدري ماذا أبقوا من أوصاف للشهداء الذين واجهوا الرصاص بصدور عارية مثل أول شهيد في منزل بوزيان الأستاذ محمد لعماري أو الدكتور حاتم بن طاهر شهيد دوز، وغيرها؟! رحم الله جميع شهدائنا فهم عندنا سواء، وأمّا عند الله هو أعلم بأمرهم ومنازلهم!الشهداء فضلهم علينا كبير، ولكن الذين كانوا في الصفوف الأولى وكانوا مشاريع شهادة كذلك،سواء من اختاره الله أو من ينتظر. لابد من مواساة أهالي الشهداء والمصابين وتعويضهم، ولكن لا يليق أن يتخذ بعضنا هذا الملف للمزايدة على طرف آخر أو الظهور بمظهر الناطق الرسمي باسم الشهداء والجرحى. الكلمة السادسة: كلمة حق تتكرّر يراد منها باطل كثيرون يحلو لهم القول بأن الشعب هو الذي قام بالثورة وليست الأحزاب السياسية وهو قول حقّ ولكن كثير من هؤلاء وخاصة الإعلام الرسمي يقدم الصورة وكأن الشعب في واد والأحزاب السياسية في واد غيره أو كأن نشطاء الأحزاب ليسوا من أبناء الشعب. وقد ركز هذا الإعلام حملته قبل الانتخابات لابراز أن الأحزاب السياسية ليس لها تمثيل في الشارع وأن عموم المواطنين لا يهتمون بالشأن السياسي، ولكن الانتخابات كذّبتهم، وقال الشعب كلمته.مغالطة كبرى يروجها بعض أعداء التيار الإسلامي، من الذين تفتح أمامهم القنوات الغربية كأنهم الممثلون الشرعيون للثورة التونسية دون سواهم، مفادها أن الإسلاميين الذين فازوا في انتخابات المجلس التأسيسي، لم يشاركوا في الثورة ولم يساهموا فيها! وكأن الإسلاميين ليسوا من أبناء الشعب الذي ثار بكل ألوانه وطيفه الفكري والسياسي، وكأن الإسلاميين لم يكونوا في قلب الرحى طيلة حكم بن علي، وأنهم لم يضعوا مشعل مقاومته داخل البلاد وخارجها طيلة أيام حكمه! الكلمة السابعة: تونس لكل أبنائها الآن وقد فرّ الطاغية، وقال الشعب كلمته واختار من يمثله في انتخابات حرة ونزيهة، أعتقد أنه على "الديمقراطيين" أن يثبتوا ديمقراطيتهم وأن يكفوا عن اتهام الأحزاب التي فازت بثقة غالبية المواطنين، بأنها غشّت وزيّفت إرادة الناخبين. كما أن عليهم أن لا يتهموا الشعب بالجهل، ويعلموا أن الشعب لم يوقّع للأحزاب الفائزة على عقد دائم أو أن من انتخبها اليوم ملزم بانتخابها غدا. وعلى الذين فازوا أن يقنعوا ناخبيهم وغيرهم بأنهم كانوا جديرين بالثقة التي ُمنحوها ليجدد الشعب ثقته فيهم. وعلى الذين لم يفوزوا أن يتوجهوا للشعب فيقنعوه بخطئه في أول انتخاب ليمنحهم ثقته في الانتخاب القادم أو أن ينقدوا مسارهم ويغيروا من برامجهم ليقبل الشعب بهم. ما دام الصندوق حكما بين الجميع، وما دام حق المواطنين في اختيار ممثليهم دون إكراه لم يُصادر، فعلى الجميع أن يحترموا المسار لأنه مكسب لتونس وليس لفئة دون أخرى. أملنا أن تكون معارضتنا قوّة بناء تُكمّل النّقص وتسدّ الفراغ، وأن تكون سلطتنا متواضعة مع من عارضها ومن وافقها، وأن لا تفسد الخلافات الإديولوجية السبق التونسي والريادة التي أصبحت محط أنظار العالم. وكل عام وتونس وثورتها بخير! صابر التونسي 17 ديسمبر 2011 (كلمة)