أخطأ الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع المصري، ومعه الفريق صدقي صبحي رئيس الأركان، وغالبية أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ في تقدير الموقف، وتورطوا في الانقلاب على الشرعية، وفي عزل الرئيس المنتخب، وتعطيل الدستور، وإغلاق القنوات الفضائية الإسلامية، واعتقال عدد من القادة الإسلاميين، وتجميد أموال عدد آخر. كان الخطأ إستراتيجيًّا، وهو غير متصوَّر من مؤسسة منضبطة تعتمد على التخطيط الدقيق المسبق، ولديها من أجل ذلك مخططون إستراتيجيون ومراكز دراسات إستراتيجية، ولا يمكن تصور خطأ إستراتيجي كهذا إلا بوجود مانع عكسي يمنع حدوث ذلك، ونحن لا نتصور هذا المانع سوى كراهية للإسلاميين وكراهية لأن تتوجه الدولة المصرية بكل مؤسساتها ناحية الإسلام والشريعة الإسلامية؛ فالجيش المصري الحديث -منذ أسسه محمد علي- وهو قائم على أسس علمانية صرفة لا تأخذ في حسبانها الدين والشريعة. وقد تأثر الجيش المصري بما حدث من مواجهة عنيفة بين الدولة المصرية بعد ثورة عام 1952م بقيادة الجيش وعلى رأسه جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر؛ فقد تورطت القوات المسلحة وشرطتها العسكرية ومخابراتها الحربية وسجنها الحربي في اعتقال وتعذيب وإعدام الإخوان المسلمين، بعد أن شنَّت ضدهم حملة إعلامية عنيفة استمرت لأكثر من عشرين عامًا، خرج منها الجيش وفي عقيدة ضباطه وتفكيرهم ونفسيتهم كراهية شديدة للإخوان المسلمين بصفة خاصة، ولفصائل الحركة الإسلامية كلها بصفة عامة. وإذا عدنا إلى الخلف قليلاً -وتحديدًا أثناء فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة- لأدركنا الحقيقة كاملة؛ فقد انحاز المجلس تمامًا إلى القوى العلمانية بشقيها اليساري والليبرالي (بحكم كراهيته القديمة والمستحكمة للإخوان وللإسلاميين)، واتخذ منهم المقربين والمستشارين، وكان ينفذ نصائح هؤلاء العلمانيين الذين كان يتوافق معهم في ضرورة محاصرة القوى الإسلامية وعدم تمكينها من حكم البلاد منفردة. كراهية الجيش للرئيس مرسي -وللإسلاميين بشكل عام- تعبر عن نفسها الآن في موقف الجيش من القوتين الموجودتين على الساحة، اللتين نظمتا مظاهرات حاشدة، وهما الإسلاميون والعلمانيون؛ فبينما انحاز الجيش في اليوم الثاني لمظاهرات العلمانيين، وأنذر الرئيس المنتخب، ثم نفذ تحذيره وعزله بعد مرور مهلة الثمانية والأربعين ساعة؛ وفي المقابل نجد أنه لم يحرك ساكنًا للمظاهرات الأكبر حجمًا التي نظمها الإسلاميون، والتي تتواصل في يومها الخامس والعشرين، وحتى ساعة كتابة هذه السطور. كما أنه بينما تُلقي الطائرات العسكرية كوبونات الهدايا على المتظاهرين في ميدان التحرير نجدها تُلقي على المتظاهرين في ميدان رابعة العدوية بيانات التخويف والتهديد، وتطالبهم بالنجاة بأنفسهم وإخلاء الميدان. ووصل التحيز ضد الإسلاميين ذروته في مذبحة الحرس الجمهوري التي راح ضحيتها أكثر من خمسين من متظاهري الإسلاميين، وفي المذابح المتواصلة في العريش والمنصورة وميدان الجيزة وميدان نهضة مصر. إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة -خلال فترة حكمه قبل وصول الدكتور محمد مرسي إلى سدة الحكم- فعل كل ما بوسعه من أجل أن يواصل أحمد شفيق السباق الانتخابي، وتم التنسيق مع المحكمة الدستورية لإبطال قانون العزل السياسي، ثم تم حشد أجهزة ومؤسسات الدولة خلف أحمد شفيق كي يكون أول رئيس مصري منتخب من أبناء المؤسسة العسكرية، وكاد أحمد شفيق أن يفوز لولا اصطفاف القوى الثورية خلف الدكتور محمد مرسي ضد أحد أقطاب الفلول وأبرز رموز النظام السابق، وكاد الجيش أن يضغط لتزوير النتائج لولا ضمير ووطنية بعض أعضاء لجنة الانتخابات الرئاسية الذين هددوا بفضح الأمر إذا حدث تزوير. لكن بعد مجيء الرئيس الدكتور محمد مرسي بدأ الجيش في التخطيط لإسقاطه من أول يوم، واتضح الآن أنه تحالف مع المعارضة ومع الفلول وأركان دولة مبارك، بل ومع البلطجية؛ لإفشال الرئيس المنتخب وتكريه الناس فيه، وذلك عن طريق: خلق الأزمات، وتحريض الإعلام والمؤسسات المختلفة على عدم طاعة الرئيس، بل العمل في الاتجاه العكسي له، ولو كان الجيش قد تقبل الرئيس المنتخب ثقافيًّا ونفسيًّا وسياسيًّا لدعمه دعمًا كبيرًا، ولمنع مسلسل كراهيته وإفشاله، ولمنع حدوث أزمات في الخبز أو الوقود. إن قيادة القوات المسلحة تقول: إنها تحركت نتيجة الحراك الشعبي الذي جرى في 30 يونيو، وإنه حراك يشبه حراك الجماهير أثناء ثورة 25 يناير 2011م، وهذا قياس فاسد وغير صحيح؛ لأن حراك 25 يناير كان حراكًا سياسيًّا واحدًا مجمَعًا عليه من جموع الشعب المتحركة في مطلب واحد يتمثل في: إقصاء حسني مبارك وجماعته من الحكم، وإقامة نظام ديمقراطي، مع إطلاق الحريات، وبهذه الوَحدة في مطالب الجموع الشعبية حُقََّ للقوات المسلحة أن تتحرك استجابة لإجماع شعبي. أما الآن، فإن حراك 30 يونيو 2013م حراك شعبي منقسم بين جماهير تجمعت في ميدان التحرير، معترضة على حكومة رئيس الجمهورية المنتخب، وبين جماهير أخرى تجمعت في ميدان آخر -وهو ميدان رابعة العدوية وما يماثله- مؤيدة للرئيس السابق المنتخب ولوزارته وطالبت ببقائه. وهذا الحراك المنقسم بين جماعات وجماعات أخرى، وتعارض الأهداف والمطالب؛ لا تحسمه إلا انتخابات تُجرى وَفق الدستور. ولا يسوغ لقيادة القوات المسلحة أن تتدخل فيه لتحسم نتيجته لصالح فريق ضد فريق؛ لأن ذلك منها يعد عملاً سياسيًّا ناصرت فيه جماعة سياسية حزبية على جماعة حزبية سياسية أخرى؛ لأنه ممنوع عليها الاشتغال بهذا النوع من السياسات، وهو حراك يكون منها بعيدًا عن مجال المصالح الشعبية العامة وحفظ الأمن القومي؛ إنه تغليب لحزب على حزب، ولسياسات داخلية على سياسات أخرى، ومن ثَم يعتبر عملاً انقلابيًّا. تكشفت الآن تفاصيل المؤامرة، واتضح أن الانقلاب كان مخططًا له منذ نوفمبر الماضي، وقد كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" اﻷمريكية هذا المخطط وهذه المؤامرة بقولها: إن خطة الانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي أُعِد لها منذ أشهر، باتفاق بين قادة الجيش ورموز المعارضة، وأن اجتماعات دورية جمعت قيادات الجيش برموز المعارضة في نادي ضباط البحرية على النيل؛ حيث أعلن قادة الجيش أنهم سيزيحون مرسي بالقوة إذا تمكنت المعارضة من حشد عدد كافٍ في الشوارع والميادين من المعارضين لحكم مرسي. وأضافت "وول ستريت جورنال" أن اﻻجتماعات الدورية بين قيادات الجيش ورموز المعارضة كشفت عن الدور الذي لعبته الدولة العميقة الموالية لنظام مبارك في اﻹطاحة بمرسي؛ حيث إن المعارضة العلمانية أصبحت يدًا واحدة مع فلول الحزب الوطني المنحل، وذلك ضد اﻹسلاميين الذين يعتبرونهم تهديدًا لهم، وأن بداية التخطيط للانقلاب كانت بعد اﻹعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي في نوفمبر الماضي، وهو ما دفع فلول النظام السابق للانضمام إلى "جبهة اﻹنقاذ" والعمل من خلالها ﻹسقاط مرسي. إن التقارير القادمة من ألمانيا تشير إلى أن اﻻتحاد الأوروبي بصدد النظر في مشروع قدمته المستشارة اﻷلمانﯿة أنجيلا ميركل سﯿقدم لﻼتحاد الأوروبي في اجتماع عاجل ﯾدعو فﯿه السلطات المصرﯾةللحوار مع الإخوان المسلمﯿن في مصر، وأنه ﯾجب إعادة الرئﯿس المنتخب شرعيًّا مع إجراء استفتاء شعبي حول بقاء مرسي من عدمه ﯾكون فﯿه اﻻتحاد الأوروبي مراقبًا، ويتضمن المشروع الأوروبي العفو عن اﻻنقﻼبﯿﯿن وعن وسائل الإعﻼم التي حرضت على اﻻنقﻼب العسكري، وفتح كل القنوات التي أُغلقت، وعدم تتبع أي شخصية سﯿاسﯿة شاركتفي اﻻنقﻼب. ولكننا نعتقد أن السيناريو الذي يتحدث عنه الاتحاد الأوروبي لن يرى النور إلا إذا حدث جديد على الساحة في مصر، ونرجح السيناريو الذي تحدث عنه الكاتب البريطاني المخضرم والخبير في الشئون العربية "روبرت فيسك" بأن هناك خلافات حادة داخل الجيش المصري بشأن الانقلاب على الرئيس مرسي، وأن عددًا من قيادات الجيش المصري وضعوا خطة بالفعلللتضحية بعبد الفتاح السيسي وزير الدفاع في حالة انفجار الوضع في مصر، بشكل ﻻ يمكنالسيطرة عليه إﻻ بمزيد من المجازر؛ فلابد أن تخرج الأمور عن سيطرة القوات المسلحة لكي يتم إجبار كبار الضباط على عزل السيسي. إن من يقوم بانقلاب عسكري يستحيل عليه العدول عنه، وعليه فإن السيسي سيتحمل أكبر الضغوط حتى لا يلتف الحبل حول عنقه، وهنا يأتي دور الإسلاميين في تشديد الخناق على الانقلابيين، وعدم إعطائهم أية فرصة لالتقاط أنفسهم، والإسلاميون مطالبون بذلك بسلمية تامة، لكن بنشاط أكبر، وبالوصول إلى مفاصل الدولة، والتظاهر أمام المؤسسات الحساسة والطرق المؤثرة والمصالح المهمة، وإشعار المجتمع بعدالة القضية التي يدافعون عنها منذ أسابيع ولم تلتفت إليهم الدولة. إن شباب الألتراس حينما كان ينظم مظاهرة كان يجعل القاهرة تقف؛ لأنه كان يصل إلى مفاصل الدولة، فيقطع الطرق المهمة ويوقف مترو الأنفاق، ...إلخ. وهنا كان يجبر الدولة على الاستماع له وتنفيذ طلباته، ويبدو أن الإسلاميين -الذين يكرهون ذلك- عليهم أن يفعلوا بعضه؛ لكي يجعلوا الجيش يشعر بأن الأمور ليست تحت السيطرة. إن مظاهرات الإسلاميين المهذبة في رابعة العدوية لن تغير من الأمر شيئًا، ولكن التأثير سيحدث إذا تحركت الحشود لمحاصرة آلة الكذب في مدينة الإنتاج الإعلامي، وفي محاصرة آلة الدعاية السوداء وحجب الحقيقة في ماسبيرو، كما سيحدث التأثير مع الدخول في عصيان مدني وفي إيقاف مصالح مهمة عن العمل، ولا بأس ببعض المعاناة لقطاعات من المصريين حتى يشعر الجميع بمطالب الإسلاميين وتضعها السلطة في الاعتبار.