احتد الجدل في الأيام الأخيرة حول مسألة تحييد المساجد، واعتبرت هيئات مدنية وسياسية أن صدق الحكومة الراهنة يبرز في تجسيدها لمبدأ تحييد المساجد الذي نصّت عليه خارطة الطريق، غير أن مطلب تحييد المساجد وإن بدا صادقا في ظاهره فباطنه كله سياسة وإيديولوجيا يختفي وراءها أصحابها لخوض صراعات سياسية باستعمال المسجد كساحة لمثل تلك الصراعات. فشعار التحييد لا معنى له في مجتمع مسلم يعتبر المسجد فيه مؤسسة منتجة للمعنى على امتداد نحو خمسة عشر قرنا، وإنتاج المعنى يعني بالضرورة الخوض في الشأن العام وتوجيه المصلين ومناقشة مشاغلهم والجواب عن استفساراتهم. فالتحييد من هذا المنطلق هو أن نحصر الخطاب الديني في جمل ماضوية جوفاء يقتصر على تكرار مآثر الماضي وترديد ما أورده السلف في أزمنة سابقة. ودون شعور منهم يلتقي دعاة التحييد مع السلفيين لان كليهما يفرغ الخطاب الديني من مضمونه التجديدي الواعي ويحصره في إطار ماضوي غيبي لا أكثر. وليس من أجل ذلك أقيمت المساجد. إن ما تعيشه المساجد من الثورة إلى الآن من فوضى وتطرف في الخطاب ومحاولة للخروج عن سلطة الدولة كل ذلك على خطورته لا يبرّر هروب النخبة إلى الأمام للمطالبة بإلغاء دور المسجد في المجتمع لأنّ التحييد هو مقدمة للإلغاء. لقد عاشت مساجدنا محاولات متعددة للتوظيف وأغلبها من دعاة الفكر الوافد الذي استغل حالة ضعف مؤسسات الدولة في الأشهر الأولى للثورة خاصة ليبسط سيطرته على عدد هام من المساجد وسط رفض تام للاستماع إلى دعوات التعقل. فحضر الخطاب الإسلامي الراديكالي الذي يتبنى حرفيا أكثر المدارس تشدّدا في التراث الإسلامي دون الأخذ بعين الاعتبار الفوارق الزمنية التي غيّرت ذلك الفكر وسمحت ببروز مجددين كثيرين في الفكر الإسلامي على امتداد قرون. وبانتشار ذلك الخطاب المتشدد المغلق حضر التكفير وغابت حريّة المعتقد، وانتشر العنف داخل عدد من المساجد وغاب التعايش الذي يعد جزءا من رسالة الإسلام، وعاشت تلك المساجد حالة من الفوضى، واستعملها أصحاب الفكر الوافد وقيادات الشبكات الإرهابية الإقليمية كفضاءات لتجنيد الشباب التونسي في معارك محلية وإقليمية عادت نتائجها بالوبال على الوضع السياسي التونسي.
بين التحييد والتسييس كل تلك الظواهر التي عشناها طوال ثلاث سنوات وعلى الرغم من خطورتها لا يمكن أن تكون مبررا للدعوة إلى تحييد المساجد، فالتحييد غاية لا تدرك لأنها تعني تجريد الإمام الخطيب من مواقفه كما تعني إفراغ المسجد من أيّة رسالة اجتماعية ليصبح مؤسسة باهتة. إن طلب النخبة يجب أن يبتعد عن مطلب التحييد لتعويضه بمطلب عدم التسييس والفرق شاسع بين المطلبين. فمن حق الأحزاب خاصة تلك التي لا علاقة لها بالمسجد باعتبار قناعات أنصارها ومواقفهم أن تطالب بعدم تسييس المساجد حتى لا يستغل أي حزب من الأحزاب ذوي الخلفية الدينية للدعاية لحزبه، وذلك مطلب مشروع لاعتبارين على الأقل، الاعتبار الدستوري القانوني الذي يحرص على تكافؤ الفرص بين جميع الأحزاب، والاعتبار الاجتماعي الذي يقر أنّ المساجد هي ملك مشاع لجميع التونسيين لا يمكن أن يستأثر بها حزب من الأحزاب. لكن من بإمكانه أن يحقق ذلك الهدف المنشود بعدم التسييس؟ ليس هناك وصفات جاهزة فكل بلد يمكن أن يبني تجربته، والتجربة التونسيّة في ظل الديمقراطية المنشودة يجب أن تقوم في مرحلة لاحقة على إبعاد تسيير المساجد عن إشراف وزارة الشؤون الدينية، لأنّ الوزارة لا يمكن أن تكون مستقلة فهي وزارة سياسية تتأثر بسياسة الحكومة السائدة، فالمساجد يجب أن تديرها هيئة مستقلة تكون شبيهة بتلك الهيئات المستقلة التي نصّ عليها الدستور ، فعلى الدولة أن توفر تمويل تلك الهيئة التي تتولى تسيير شؤون المساجد دون تدخّل من الحكومات المتعاقبة بما يضمن حسن تسييرها. والتسيير يتضمن الإشراف المادي كما يتضمن السهر على الخطاب الديني بما يعني ذلك من ترشيد للخطاب ومن دورات تدريبية للأئمة وشروط انتدابهم. فتحقيق ذلك يجعلنا نصل إلى خطاب ديني متناغم بين الأئمة، عقلاني وعصري دون أن يكون خطابا واحدا أي أن يتحول الأئمة إلى نسخ من بعضهم البعض. إن ذلك التسيير المنشود يجنبنا التسييس، فالإمام الخطيب يصبح غير مرتبط بالحكومة التي توفر له راتبه، كما يجنّبنا عودة مظاهر سابقة كان فيها الإمام مجبرا على الدعاء للرئيس، وعلى الالتزام بتعليمات وزارة الشؤون الدينية في مضامين الخطب. فلا سلطان على الإمام إلا ضميره لكن في إطار القانون والدستور، وفي إطار خطاب ديني متفق على أهم ملامحه التي يجب أن تكون تجديديّة عصريّة لا تتناقض بأي مبرّر كان مع مبادئ الدستور واختيارات الدولة التي يعيش في ظلها الإمام.
الابتعاد عن تدخل الأمن في المساجد إن إشراف هيئة مستقلة على المساجد، والتزام الأمة بخطاب ديني عقلاني يهتمّ بقضايا المجتمع ويرشد آلاف المصلين يجنّبنا في المقابل القبضة الأمنية على المساجد، لأن الأمر لا يتعلق برقابة المساجد وإحصاء أنفاس الأئمة ومعاقبة البعض منهم، وإنما يتعلق باختيارات تتماشى مع الطابع الديمقراطي للدولة. فالقبضة الأمنية التي فرضها بن علي على المساجد والتي كانت تراقب جميع المصلين قصد إرهابهم نفسيا، هي التي أفرزت التيار السلفي المتشدد الذي نعاني من ويلاته الآن ومن سطوته على عدد من المساجد، فبن علي استعمل الأمنيين وجهاز الدولة لعسكرة المساجد فطبيعته الأمنية منعته من العمل على ترشيد الخطاب الديني الذي تحتاجه تونس، غير أن الثورة التي كان من أكبر ثمارها الحرية يمكن أن توصلنا إلى ذلك الهدف شريطة أن تبعد النخبة السياسية المسجد من دائرة مزايداتها السياسية وأن تبحث في السبل الكفيلة بترشيد الخطاب الديني لأنّ في ترشيد ذلك الخطاب ترشيدا للمجتمع بأسره لما للدين من مكانة لدى التونسيين.