يسكن عمر ابن الخطاب ذاكرة المسلمين كرمز حي لهذه الأمّة التي تمرّ بأحلك أزمنتها وقد علا صوت الظلم فيها على صوت العدل فانتكست راية أمّة أرست كيانها الاوّل على مبدأ العدل بين الناس كافّة والحريّة الفردية والجماعية التي كان عمر رمزها الحي بقوله "متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم امّهاتهم أحرارا" فتعلّمنا منذ نعومة أظافرنا " أن نكثر من ذكر عمر فمن ذكر عمر ذكر العدل ومن ذكر العدل ذكر الله " وحفظنا أنّه مرّ بهذه الأمّة رجل لا يظلم في حضرته أحد، رجل يستوي أمامه المسلم والكافر والحاكم والمحكوم والرجل و المرأة والحر والعبد إذا قضى بين الناس حاكما .. رجل قدّم استقالته لأبي بكر بعد سنة من تولّيه قضاء المسلمين لأنّه لم ترفع إليه قضيّة واحدة، رجل بعث إلى عمرو بن العاص واليه على مصر وقد كثرت شكاوى الناس فيه فكتب إليه:"من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص : لقد كثر شاكوك وقلّ شاكروك فإمّا عدلت وإما اعتزلت " لقد حكم فعدل فأمن فنام تحت شجرة متوسّدا رداءه وكأنّه ليس خليفة للمسلمين. ماذا إذا سنقول للشهداء اعتذارا وقد مات فينا عمر قيمة ورمزا وحياة ومنهجا؟ أنبكيهم ونبكي دماءهم التي خضّبت وجوه الثكالى واليتامى والمعذّبين أم نبكي أنفسنا على مظالم الزمن المسكون بالليل ولا عمر يطلّ علينا في غياهب سردابنا الطويل؟ أنعتذر على رداءة الأحكام الصادرة التي كرّست ظلم السنوات العجاف وتسربلت بلحاف العفو على من جعل من أجساد أبناءنا مستقرا لرصاصة قاتلة ؟ أنعتذر على يتم اليتامى العابرين إلى مدارسهم دون أب ؟ والعائدين إلى بيوتهم خاوية دون أب أيضا ؟ أنعتذر لنساء ثكالى دون زوج في برد وطن عربد فيه الظالمون ببغيهم ؟ أنعتذر لأمّهات مكلومات في فلذات أكبادهن و آباء تاهت أعينهم في أروقة المحاكم والمكاتب بحثا عن عمر ؟ أنعتذر لدموع ساخنة أحرقت وجوه نسائنا طوال ثلاث سنوات أجدبت عدلا في أروقة دواوين مظالمهم وقصور عدالتهم وقد صمتت شهورا عن القتلة من أصدر فيهم أوامره ومن نفّذ بغيهم وظلمهم في حق أبناء شعبنا ؟ أنعتذر لرفات أجساد شهدائنا التي دفنت مشوّهة برصاص أسلحة اشتريناها بأموال ضرائبنا ؟ أنعتذر لرؤوس دفنت وقد هشمها بارود سلاحهم في لحظة بغي وظلم كنّا شهودا عليها بأسماعنا وأبصارنا ؟ أنعتذر لأرواح أزهقت ذات شتاء فرفرفت عند جبل الشعانبي ومثلث الحوض المنجمي وصحراء الجنوب وجبال الشمال وبحار سواحلنا تستذكر أيام خلت بين الأهل والرفاق والأحباب وقد تلقّتهم ملائكة الرحمة عند باب السماء ولكن وداع الوطن موجع حدّ البكاء ؟ أنعتذر لكل هذا أم نبكي أنفسنا حين ضاع العدل بين ظهرانينا وكأنّنا من سلالة مغول الخراب والدمار ولسنا من ذريّة عمر الذي علّم العرب النظام ؟ تتيه الكلمات في ثنايا هذا الموقف الغريب المشبع باللغو والهذيان ..ولكنّ الحقيقة أنّنا الأشد غرابة عن أنفسنا والأشد انفصاما عن ذواتنا بعمقها وامتدادها في الزمان والمكان .. لا التاريخ انتصر فينا زمانا حيّا في كياننا فبقي بداخلنا شيء من عمر حتى تقوم صرخة حق في واد غير ذي زرع أشبه بواد الذئاب.. لم نتدثّر بالمكان والأرض التي وطئت أقدامنا ثراها لنكون شهودا على جريمة العصر في حق أبناء شعب قتل بالرصاص وتاهت ملفات قضيّتهم ثلاث سنوات عجاف في رفوف المكتبات وثنايا الأروقة الغريبة والأبواب الموصدة ... لا عزاء لنا إذا وقد ضاعت بوصلتنا ... أمّا الشهداء فلهم عزاؤهم حين عانقت أرض البلاد رفاتهم شرفا وعزّا ومسحت سماء البلاد على أرواحهم صعودا ومعراجا لجنّة هم فيها" أحياء عند ربّهم يرزقون فرحين بما آتاهم ". لا عزاء لنا إذا وقد ضاعت بوصلتنا ...وللشهداء عزاؤهم وأجرهم جنّة ورحمات تعرج إليهم من أفواه المنابر والمساجد والربوع و الصحراء و أمواج البحار على مشارف أرضنا . لا عزاء لنا إذا وللشهداء عزاؤهم فما أضيق حلمنا وما أوسع خيبتنا وما أشدّ وطأة ظهورنا بأثقال دمائهم ...كيف لا وقد مات فينا عمر وهذا اعتذارنا للشهداء فنحن الأموات من دونهم.