1. هذه المهرجانات التي أصبحت تجوب البلاد طولا وعرضا، ويتساقط صداها قطعا من طول الليالي المظلمة على أسماع عامة الناس في الساحات العمومية لكل مدينة صغيرة أو كبيرة، هي من تجليات هذه الديمقراطية العجيبة التي يريدها هؤلاء المدبرون لشأننا العام، وهي أيضا من "مؤشرات" انتعاش هذه السياحة التي يطمحون إليها باعتبارها لديهم إحدى الدعائم الأساسية لاقتصاد البلاد، وبالتالي لانتعاشة ل"مشاريعهم واستثماراتهم" في هذه البلاد، وهي أيضا محاولة قسرية لفرض نمط حياة خاص على النمط الحياة العام الذي لم يألف مثل هكذا صخب ومثل هكذا سهر ومثل هكذا "غناء وكلمات وترفيه"، 2. و"حق" لهم ذلك مادامت هذه الديمقراطية التي ينادون بها، يمنحون من خلالها الحق في كل "شيء" أرادوه، لكنها تمنع الحق في كل "شيء" لم يريدوه، وهي مفارقة لا نجدها إلا في بلدنا الحبيب وفي بلدان من سارت على نهجه أو حذا حذوها، مفارقة الحق في الغناء والطرب والتمثيل والضحك والرقص والكوميديا والتجوال والسهر والتمتع بلحظات الصخب و الاختلاط والتحرر من "قيد الأسرة والمجتمع" والحق في السماع، ومفارقة المنع من الحق في التنظيم والتعبير المستقل، و في المشاركة في تدبير فعلي للشأن العام، وفي التداول على السلطة، و في توزيع عادل للثروة والسلطة، و في حماية الرصيد القيمي للمجتمع وصيانته، و في حماية المال العام من التبذير والتبديد والعبثية في الإنفاق، وفي محاسبة من يدوس على بعض من هذه الحقوق أو كلها، 3. يعيش المرء هذه المفارقة وهو يمر بشارع مدينته الرئيس وقد ملأ صخبا وتناقضا وازدحاما وما عليه على الرغم من أنفه إلا أن يخضع، فتلك سياسة عامة تدخل ضمن "استراتيجية واسعة" لإنعاش اقتصاد بلاده ورقيها ونهضتها، 4. ويالها من معادلة عجيبة في بلد العجائب: الصخب يؤدي إلى النهضة لأن بطريقه ينتعش "الاقتصاد الوطني"، 5. هؤلاء الساهرون على إعمال هذه "الاستراتيجية النهضوية" هم فعلا "وطنيون" محبون لهذا الوطن ولأبنائه !!!، كيف لا وهم قد حشروا الناس إلى الساحات العمومية للاستماع إلى "نبضهم" !!! ولتحريك "رغباتهم" الدفينة ولالتقاط تعبيراتهم التلقائية التي طالما منعها زمن انتهاكات قد ولى؟ أليس هذا هو المطلب الذي ظل يردده كل "ديمقراطي"، أن يستمع أصحاب الشأن العام ومدبروه إلى هذا النبض الشعبي؟ 6. عجبا لهؤلاء يقيسون كل نجاح بالأرقام ويغضون الطرف عن كل إعلان عن إخفاق بالأرقام كذلك، فهم يعززون توجههم بالأرقام، ويؤكدون صحة ما آلت إليه سياسة المهرجانات بالأرقام، والأرقام هي هذا "الحشد" من البشر الذي "هب" لحضور ملتقى فنان أو فنانة قيل فيهما ما قيل، وعجبا لهذه السياسة التي تصنع الوهم المقنع بأرقام عدد السياح الوافدين هذه السنة إلى البلاد وعدد الجماهير الحاضرة، فيبني عليها أمل نجاح تسريع وتيرة الاقتصاد وبالتالي الوتيرة النهضوية والتنموية للبلاد، وحين يتعلق الأمر بأرقام مؤشرات التنمية والفساد والبطالة والإجرام والمخذرات، فهم ينتفضون ويعتبرون أن ذلك تحريف للحقيقة… 7. حين يكون العبث ناظم أي سياسة عمومية فاقرأ عليها السلام، وحين يكون العبث يتجلى في ديمقراطية التطبيل والغناء وكلام اللامعنى، فاقرأ على هذه الديمقراطية السلام، وحين يكون العبث محددا أساسيا في إنفاق المال العام فاقرأ على ترشيد النفقات السلام، وحين يكون العبث أن تختزل الثقافة في صخب هذه المهرجانات فاقرأ على الوضع الثقافي السلام، 8. الثقافة حركة لصناعة الشخصية الإنسانية في كل أبعادها السلوكية، وليس تطبيلا وغناء وكلمات ليس لها معنى إلا اللامعنى واللامعقول، 9. المال العام عام، وإنفاقه ينبغي أن يكون عاما، ويمتنع من أن يكون خاصا للنهب و للتبديد و للعبث بإنفاقه، 10. النهضة تبدأ بالإنسان وتنمية قدراته وكفاءاته وتتوسل ذلك عبر تعليمه والعناية به صحيا وماليا وثقافيا وسلوكيا، وليس بإنعاش السياحة عبر آلية المهرجانات المتعددة، 11. الديمقراطية هي كل لا يتجزأ، فكما أن لكل الحق في الاستماع إلى ما يحلو له والاستمتاع بوقته كما يريد فهي أيضا الحق في التعبير والتنظيم والمشاركة في التدبير الفعلي للشأن العام والحق في المشاركة في تقرير اختيارات البلاد واختيار من ينفذها وتقويمه، والحق في حماية المال العام من النهب والتبديد والعبثية،...