( النرويج) إن تقييم أداء الحركات و الأحزاب السياسية مطلب سياسي و يأخذ التقييم أبعادا ثقافية و حضارية عندما يتعلّق الأمر بالحركات الإسلامية، و ذلك لأنها تُبشّر بمشروع إحيائي لقيم الدين و إعادة صياغة مظاهر و أشكال التديّن لتكون أساسا لمشروع حضاري، تكون جذوره وطنية و آفاقه قومية و روحه إنسانية عامة. تحلّ الذكرى الثالثة و الثلاثون لتأسيس حركة النهضة، في وضع يتّسم بسرعة التغيّر من النقيض إلى النقيض. فمن سقوط مدوّ لأصنام الدكتاتوريات إلى انبثاق نور الحريات، إلى إعادة النفخ في روح الأصنام من جديد. و من عبق الثورة إلى نتوءات الارهاب. و من مثالية الحرية و الديمقراطية إلى مستنقع "الفجور السياسي". و من قوة المجتمع و وحدته إلى تذرر أجزائه. و من نضالية النخبة إلى انحدارها الأخلاقي و أنانيتها الفاقعة . و من قوة الوطن إلى ضعفه و هوانه. و من آفاق المستقبل إلى سواد الصورة. و من الإنتاجية إلى الاتكالية و التواكل. و من "روحانية المغارم" إلى "مادية المغانم".. لعلّ الصورة التي يُراد لنا رؤيتها، هي هكذا في سوداويتها، أوهي هكذا في توقّعنا لها أو هي نتاج "صُناّع التوقّع" الذين يبذلون ما لا نتخيّله ليكون الأمل و التوقّع على غير الشكل الذي نأمل .. إذن هي معركة كبرى يدور رحاها لزرع بذور استمرارية الهزيمة و التأكيد بأن العربي و المسلم الساعي للتوسّل بقيم هويته لصناعة الحرية و التنمية و القوة، بأن علّته فيه ، و بأنه لم يُخلق لذلك، و عليه أن يكتفي بالقدر المرسوم له من محترفي الرسم. و بأن الخطيئة الكبرى التي اقترفها شاعر الحرية الشابي، ستلاحقه لعنات الرسامين، حتى ينزعوا من الذاكرة العربية أبياته الخالدة. إلا أنهم نسوا بأن هذه الأمة، أمة القرآن و أمة الشعر. فقوتها و ضعفها بهما و فيهما. كان الحدث الثوري الذي بلغ قمته ما بين 17 ديسمبر و 14 جانفي، الفرصة التاريخية، التي بإمكامها إحداث التغيير الشامل و السير به في اتجاه القطع مع مخلفات الماضي و رواسبه. إلا أن جميع القوى السياسية التونسية لم تكن " قوى ثورية "، فهي حركات اصلاحية تتبنى التدرج و سلمية الوسائل. إضافة إلى أن معضمها ليست لها خبرة عملية في الحكم. مما يسّر على "حبّات عقد النظام السابق" من اغتنام اللحظة، بتفويت فرصة "المدة الزمنية" التي تمثّل "عقدة الثورات"، و السعي إلى الإمتصاص التدريجي للحس الثوري، لتنتقل الثورة من مطلب التغيير الشامل و القطيعة المادية مع النظام السابق، إلى مطلب الاستقرار و الأمن ، الذي معه يبدأ الحس الثوري في الضمور، و تُعطّل مفاعيله لتعود فرص عودة النظام السابق من بوابات متعددة. و قد كانت مرحلتي محمد الغنوشي و السبسي، مخصصة لتعميق هذا الاتجاه: اتجاه تصفية الحس الثوري قطرة قطرة. و قد شاركتها بعض أطراف المعارضة التي اصطفت اختيارا و غنيمة مع هذا المطلب. و حقيقة تُقال فعندما بلغت تونس انتخابات 23 أكتوبر و تصدّرت النهضة "مقاليد السلطة الظاهرية "، بلغ اتجاه تصفية الحس الثوري مداه الذي حدّ من قدرات و فرص قوى التغيير. مستعينا بالحقد الايديولوجي، و المحضور الدولي و الهواجس الاقليمية و " قلّة خبرة في الحكم" و إدارة الدولة في مراحل التغيير. و مما يسّر نفاذ مطلب تصفية الحس الثوري "الإتكالية المجتمعية المشينة" كأنها زُرعت فيه زرعا، إضافة إلى أمراض "مرحلة الغنم". لذلك و في ظني المتواضع، فقد تسلّمت النهضة السلطة و هي فاقدة لأبرز الشروط الضرورية لتحقيق أهداف الثورة. و قد استعاضت "منطق الثورة" الذي تهاوى بمنطق "أقل الخسائر". و كلما اتجهت النهضة إلى السعي إلى استجماع شروط تحقيق القدر الأكبر أو الأهم من أهداف الثورة، ازدادت القوى المضادة في تضييق الخناق، و لم تترك وسيلة إلا توسّلت بها: ايقاف الانتاج، التحريض الداخلي و العزل االخارجي، الفوضى الأمنية، التشويه.. و لم تكن النهضة تملك من القدرات التي بإمكانها تعديل الصورة، اللهم إلا الدخول في مغامرة تأتي على الأخضر و اليابس من الوطن، و هو ما كان محضورا عليها اختيارا و وعيا. فالحديث أن النهضة "خانت" أهداف الثورة، لا يسقيم عقلا. فقد "تذررت "هذه الأهداف و مُنعت من التحقّق قبل وصول النهضة. و لكن أيضا قدوم النهضة إلى السلطة وفّر فرصة إلى إعادة إحياء التحالف السابق بين "اليسار الإستئصالي" و رموز النظام السابق، بحجة التهديدات التي تواجه نمط المجتمع . و هو ما أدركت خطره النهضة لاحقا، و سعت إلى الفِكاك منه. أما عن أداء النهضة في السلطة و مدى تأثيره في تعميق هذا الاتجاه. فالمتمرس في العمل السياسي يعلم أن تسيير الدول، ليس كتسيير الجمعيات و الأحزاب. و أن خيارات المجتمع مفارقة لاكراهات السلطة. و الجمع بينهما لا يتأى إلا بشروط و هذه الشروط مُنعت النهضة من استجماعها. و هذا لا يعني نفي الأخطاء السياسية عن النهضة إبان حكمها و تأثيراتها.