عاجل: بطاقة إيداع بالسجن في حق المحامي مهدي زقروبة ونقله إلى المستشفى    العقوبة تصل إلى 5 سنوات ...إيداع برهان بسيّس ومراد الزغيدي .. السجن    مجلس العمداء يدعو رئيس الجمهورية إلى فتح باب الحوار    القرض الرقاعي الوطني 2024: الاكتتاب بالقسط الثاني مكن من تعبئة 1،444 مليار دينار    يوميات المقاومة .. تحت نيران المقاومة ..الصهاينة يهربون من حيّ الزيتون    نهائي رابطة ابطال افريقيا: وصول بعثة الاهلي الى تونس والمدّب أول المرحّبين    الكاف: اصابة 10 اشخاص في حادث مرور    منوبة .. ينتحل صفة موظف بالداخلية ويقوم بجمع التبرعات    متابعة سير النشاط السياحي والإعداد لذروة الموسم الصيفي محور جلسة عمل وزارية    عقارب: أجواء احتفالية كبرى بمناسبة صعود كوكب عقارب إلى الرابطة المحترفة الثانية.    مواصلة تنفيذ برنامج التمكين الاقتصادي    بعد تعرضه لمحاولة اغتيال.. حالة رئيس وزراء سلوفاكيا خطيرة    الكشف عن شبكة لترويج المخدرات بتونس الكبرى والقبض على 8 أشخاص..    الطقس يوم الخميس16 ماي 2024    البنك الاوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يتوقّع انتعاش النمو في تونس    سليانة: إلقاء القبض على سجين بعد فراره من أمام المحكمة    صفاقس: اشتباكات بين المهاجرين غير النظاميين فيما بينهم    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    وزير الرياضة يعلن عن قرار هام..#خبر_عاجل    الديوانة تطلق خدمة التصريح بالدخول الخاص بالإبحار الترفيهي    مندوبية التربية بقفصة تحصد 3 جوائز في الملتقى الوطني للمسرح بالمدارس الاعدادية والمعاهد الثانوية    عاجل : هزة أرضية في قفصة    الإعلان عن تركيبة الإدارة الوطنية للتحكيم    في ذكرى النكبة: تونس تجدّد دعمها اللامشروط للشعب الفلسطيني    عاجل : أحارب المرض الخبيث...كلمات توجهها نجمة'' أراب أيدول'' لمحبيها    أغنية صابر الرباعي الجديدة تحصد الملايين    بمناسبة عيد الأمهات..البريد التونسي يصدر طابعا جديدا    أصحاب المخابز يُطالبون بالإسراع في صرف جميع مستحقاتهم المالية    حاحب العيون: انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للمشمش    يشكّل تهديدا للنمّو.. الصين تسجّل فائضا قياسيّا بملايين المساكن    بسبب لقطة غير لائقة من الجمهور في مباراة الترجي والنجم: التلفزة التونسية تفتح تحقيق..    نابل: الفلاحون المنتجون للطماطم يطالبون بتدخل السلط وجبر الأضرار جراء تضرر الصابة    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و2033    على هامش الدورة 14 لصالون للفلاحة والصناعات الغذائية صفاقس تختار أفضل خباز    وفاة عسكريين في حادث سقوط طائرة عسكرية في موريتانيا..#خبر_عاجل    وزير الشؤون الدينية يؤكد الحرص على إنجاح موسم الحج    القلعة الخصبة: انطلاق فعاليات الدورة 25 لشهر التراث    الدورة ال3 لمهرجان جربة تونس للسينما العربية من 20 إلى 25 جوان 2024    وزير الفلاحة يعرب عن إعجابه بصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    علاجات من الأمراض ...إليك ما يفعله حليب البقر    صورة/ أثار ضجة كبيرة: "زوكربيرغ" يرتدي قميصًا كُتب عليه "يجب تدمير قرطاج"..    من بينهم طفلان: قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 20 فلسطينيا من الضفة الغربية..#خبر_عاجل    وزارة المالية تكشف عن قائمة الحلويات الشعبية المستثناة من دفع اتاوة الدعم    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    عاجل - مطار قرطاج : العثور على سلاح ناري لدى مسافر    أنشيلوتي يتوقع أن يقدم ريال مدريد أفضل مستوياته في نهائي رابطة أبطال أوروبا    اخر مستجدات قضية سنية الدهماني    اليوم إياب نصف نهائي بطولة النخبة ..الإفريقي والترجي لتأكيد أسبقية الذهاب وبلوغ النهائي    الأهلي يصل اليوم الى تونس .. «ويكلو» في التدريبات.. حظر اعلامي وكولر يحفّز اللاعبين    ارتفاع عدد قتلى جنود الإحتلال إلى 621    أول أميركية تقاضي أسترازينيكا: لقاحها جعلني معاقة    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموضوع و الموضوعية في البحث الشرعي

منذ تأسس علم أصول الفقه مع الشافعي ظل الموضوع الذي تستفاد منه المعرفة الأصولية ثابتا و مجمعا عليه. ويتمثل في الكتاب والسنة، واستثمار النصوص منهما. ولقد ظهرت أصول أخرى تختلف من مذهب إلى آخر، لكنها ظلت قليلة الفائدة، شحيحة المردودية، أدخلها علماء الأصول رغبة في الاستقصاء و التطويل ، وذلك كشرع من قبلنا، أو أن تكون أصولا بالمجازلا بالحقيقة، وذلك لرجوعها في الحقيقة إلى الكتاب و السنة، مثل ما هو الشأن للإجماع و القياس و المصلحة فإنها تستند على الأدلة، و إلا لم يعترف بها كما هو معلوم و شائع عند الأصوليين، في قولهم بأن القياس لا بد فيه من أصل يقاس عليه، و الإجماع كذلك وهلم جرا مع الأدلة الأخرى. و نظرا لهذا فإن القرآن والسنة قد ظلا العنصر الثابت في مرجعية البحث الشرعي، وقطب الرحي اللذين يدور الاجتهاد و البحث عليهما.
لقد ظهر هذا الأمر جليا عند الشافعي من خلال الرسالة. عندما قسم البيان إلى قسمين نص واستنباط من النص، فيقول بأن تعلم القرآن يعنى « استدراك عمله نصا و استنباطا[1]» ويقول أيضا: « فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصا و استدلالا ووفقه الله للقول والعمل بما علمه فاز بالفضيلة»[2] وكذلك السنة فهي أيضا طراز من الكتاب ونوع منه. لأن الله قرن بينهما فقال: «ويعلمهم الكتاب و الحكمة» وهي السنة كما يقول الشافعي عن من يثق به من أهل العلم. يقول الشافعي «وإنما هي يعني السنة- تبع للكتاب بمثل ما نزل نصا ومفسرة معنى ما أنزل الله منه جملا» ويقول أيضا: « ولا نجد خبرا ألزمه الله خلقه نصا بينا إلا كتابه ثم سنة نبيه»[3]
إن الشافعي يستخدم منهجا يقوم على العلم وهو أن يكون الموضوع ماثلا ويكون الدارس هدفه هو استنباط الموضوع واستخراج إمكانياته التأويلية.
نعم يضيف الشافعي إلى الكتاب و السنة الإجماع و القياس فيقول: «ليس لأحد أبدا أن يقول في شيئ حل ولا حرم إلا من جهة العلم ، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس[4]» إلا أن مفهوم القياس عنده لا يخرج عن الكتاب والسنة فهما أصل القياس. ولا قياس بدونهما، فالقياس عند الشافعي على أصل سابق من أجل استخراج المعنى منه. يقول الشافعي: «والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب والسنة لأنهما علم الحق المفترض طلبه كطلب ما وصفت قبله من القبلة والعدل والمثل»[5]. و في هذا الصدد يمكن القول بأن هاجس الشافعي هو تحقيق اليقين في المعرفة الشرعية. و يرى بعض الباحثين أن اختزال مذهبه في التوفيق بين المدرستين ، مدرسة الرأي في العراق ومدرسة الحديث في المدينة هو ظلم له ، لأنه يقدم تاصيلا أصيلا لأصول الفقه، يقوم على اليقين كمقياس لقبول هذا الأصل أو ذاك. يقول رضوان السيد في قراءته لمشروع الشافعي التي يستنتج منها: « وهكذا فإن الشافعي ما كان توفيقيا أو تلفيقيا كما يقال... كان همه المركزي الحصول على اليقين في مصادر التشريع وأدلته فتركزت الوظائف التشريعية عنده في المصدرين الأولين، ووجد للمصدر الرابع وظائف تنظيمية علائقية، لكنه – بسبب من النظرة السالفة الذكر بالذات- ما استطاع أن يجد مكانا للإجماع في منظومته »[6]
لقد نظر الشافعي إلى ما عدا الكتاب والسنة بشيء من الحذر والشك. فرفض إجماع أهل المدينة وقال في هذا الصدد « ما سمعت أحدا ذكر قوله يعنى قول مالك في إجماع أهل المدينة – إلا عابه وأن ذلك عندي معيب»[7].
كما أنه رفض الاستحسان لأنه لا يلبي منهجيته السابقة من الاعتماد على الأصل. فمن المعروف أن الإمامين مالكا وأبا حنيفة قد أخذا بالاستحسان في حين أفرد الشافعي فصلا كاملا في كتابه( الأم) لإبطاله معتبرا أن من استحسن فقد شرع.[8]
ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا بأن المواقف الأصولية كانت تميل إلى كفة الشافعي. حيث أن الأصول عند مالك وأبي حنيفة رغم شمولها على الاستحسان وسد الذريعة والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا قد آلت في النهاية إلى الأصول الأربعة عند أغلب أتباع المذاهب من الأصوليين.
نجد هذا المعنى واضحا في اختزال الأصول في الكتاب و السنة مع الشاطبي. ففي كتابه الشهير الموافقات اكتفي بالكتاب و السنة في الحديث عن اصول الأحكام دون اهتمام بالإجماع و القياس. ويقول في هذا السياق «فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسباني ، وألقي في نفسي إلقاء بصيرة أن كتاب الله وسنة نبيه، لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالا يعتد به فيه، وأن الدين قد كمل والسعادة الكبرى فيما وضع، والطلبة فيما شرع، وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك وخسران»[9]. و يقول أيضا أن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى محصل لكلمتي الخير دنيا و أخرى و ما سواهما فأحلام و خيالات و أوهام [10] هل هذا الكلام الذي يقوله الشاطبي الذي يزن الألفاظ و يضعها وضعا كأسنان المشط كما يقول الشيخ عبد الله دراز عنه، يعني أن الإجماع و القياس باطلين؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف هو الأمر لما دونهما من الأصول الأخرى كالاستحسان الذي يعتبر عند البعض تسعة أعشار العلم؟
ونرجع لنقول: يقوم البحث الشرعي عند الشافعي بالاعتماد على الدليل. وهو النص أو الاستدلال من النص. وقد ظل هذا القانون متحكما ومحكما بعده. وذلك لما يوفر من العلمية والموضوعية اللذين يطلبهما كل بحث يريد أن يصل إلى نتائج موضوعية. ذلك أن عمل العقل يتمثل وينحصر في استخلاص واقع كان موجودا قبله. وعندما لا يتقيد العقل بموضوع معطى، دخل في التناقضات من بابها الواسع. ولهذا فإن البحث الشرعي ظل علميا كلما التزم بهذا المبدإ، و يقع في الزلل كلما ابتعد عنه. وهذا ما يوضحه القياس: فكلما كان في معنى النص و بالاستناد إليه كلما كان علميا ، وكلما كان الأصل غير واضح المعالم كلما كان أبعد من اليقين وكثر فيه الخلاف و الاختلاف، كما هو الشأن في قياس الشبه، فقد قال الغزالي أن ما يتحقق في المؤثر لا يتحقق فيه لذلك كثر الخلاف فيه. وأيضا فإن النظر في المقاصد و البحث فيها يستمد العلمية كلما اتكأ على النص و كان الهدف هو استخراج المقصد الشرعي من هذا الدليل أو ذاك. اما إذا تجاوز العقل النصوص المعطاة دخل في مقاصد ذاتية لا تنضبط مثل المقاصد الضرورية التي تنقص و تزيد حتى دخلت مقاصد الملائكة و مقاصد الجن عند البعض. ذلك ان البحث الشرعي يجب ان يبقى متمثلا في استغلال النصوص فقط و إذا قيل بأنها لا تفي فذلك أننا لم نعتبر أن النصوص و معانيها شيئ واحد و المعاني الشرعية حاوية لمقاصد الدين و الدنيا و بهذا تتحقق الموضوعية فالفكر مربوط بالنصوص و النصوص ايضا متسعة لاتساع معانيها.
ولعل الأصوليين قد قالوا بالوجود القبلي للمرجعية . فالإجماع يجب أن يكون بالاستناد إلى دليل، والقياس يجب أن يكون بدليل هو الأصل المقيس عليه، والمصلحة يجب أن تكون بدليل يدعمها، والاستحسان بدليل أيضا لأنه «عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي بدليل انقدح في عقله، ورجح لديه هذا العدول» أو هو «ترك القياس في مسألة ما والأخذ بما هو أوقف للناس»[11].
إذن في جميع الحالات ظل تقنين الشافعي لمصادر التشريع معتمدا، وثابتا ويتمثل في استخراج الحقيقة من دليل سابق وأصل موضوع بطريقة قبلية.
إن القول بوجود أصل متفق عليه شرط ضروري لإقامة أي استدلال، وللحصول على أية معرفة. يقول الجويني: «ولا معنى للدليل إلا بناء مطلوب على مقدم ضروري» واتفق الأصوليون على أنه لا بد من وجود المقدمة الأولى مسلمة، كما أنه لابد من وجود أصل يعتمد عليه: يقول الغزالي: «فإذا وقع النزاع في المقدمة الأولى لم تثبت إلا بالأدلة الشرعية، فإن التنازع فيه قضية شرعية، وهو كون الطعم علة مثلا، فيثبت ذلك بالنص أو بالإيماء أو الترتيب على الواقعة، أما إذا وقع النزاع في المقدمة الثانية وهو وجود العلة في الفرع بعد تسليم كون الوصف علة فهذا يعرف تارة بالحس.. وقد يعرف بالعرف وقد يعرف باللغة»[12]
وهذا ما يعنيه الشاطبي عندما يقول: « كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين، إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم، والأخرى ترجع إلى نفس الحكم، فالأولى نظرية وأعني بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر»[13]
فإذا كان الدليل المعين لابد من الأخذ به مسلما ليقاس به الفرع الذي يمثل النازلة الجديدة، فإن الأصل الكلي كالكتاب والسنة لابد أن يؤخذ به مسلما، ولابد أن يسلم بمصدر المعرفة الأصولية، لأنه إذا كان مختلف فيه لم يصح الاستدلال. فيقول هذا الشخص مثلا أنا أخذت هذا الدليل من القرآن، ويقول الآخر أنا أخذت الدليل من المصالح، وكل منا استند إلى أصل و لا فرق بين أصل وأصل، وإذا قال الأول أصلي هو القرآن، قال له الثاني القرآن فيه الناسخ و المنسوخ و المطلق و المقيد وهو بعد التخصيص صار ظنيا، وكل هذه الاعتراضات تنتفي إذا كان الأصل مسلما به، هذا شرط للبحث العلمي لأنه إذا وقع النزاع في الأصول لم يمكن الوصول إلى نتيجة.
يقول يوسف حامد العالم: « فالوحي هو الطريق الموصل و الهادي الأعظم ألا ترى إلى قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) [14] فصار خلقه القرآن ( و إنك لعلى خلق عظيم ) [15]لأنه حكم الوحي حتى صار في علمه و عمله على وفقه فكان الوحي حاكما إلى أن يقول و إذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارة يهتدون بها إلى الحق»[16]
ليس هذا وحسب بل إن هذا المعني للشريعة كموضوع مكتمل تستقى منه الأحكام و المعرفة بطريقة مرنة هو ما يتناسب مع تعريفها اللغوي. فهي في اللغة واقع معطى يستغله الناس بصورة عفوية لا مشقة فيها و لامحارة و لا نكد. فالشريعة هي في أصل اللغة تطلق على الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء و تطلق على مورد الشاربة الذي يشربه الناس أي ينحدرون إليه، فيشربون منه و يستقون و العرب لا تسمي ذلك الموضع شريعة حتى يكون عدا لا انقطاع له، و يكون ظاهرا معينا لا يسقى بالرشاء، لا يحتاج معها إلى نزح بالعلق و لا يسقى في الحوض، و يقال في المثل أهون السقي التشريع.
كل المعاني التي للشريعة في اللغة تتنزل على معاني الشريعة بالمفهوم الشرعي فهي طريقة ظاهرة يؤمها الناس للسقي و هذا على مستوى المنهج و الطريق فكذلك الشريعة طريقها واضح في الخطاب بالأحكام و بالتكاليف و لا تحتاج إلى المنطق و تعقيده و القياس و شروطه و الحد وموانعه كذلك الشريعة هي الماء المطروح على سطح ألأرض و المعطي و الميسر للشاربة فكذلك الشريعة لقول الله عز وجل: (و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) فالشريعة واقع معطي.
وهناك بعض المواصفات التي يجب أن تتحقق في الأصل و تميزه عن ما هو غير أصل، وإن كانت وردت في سياق القرآن فإن السنة هي كذلك:
- أنه وحى ، فالقران كلام الله والسنة النبوية بيانه ووحيه إلى النبي لقوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) [17]
- هذا الأصل بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا سماع لنا من الله ولا من جبريل.
- أن الله تكفل بحفظ هذا الأصل ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[18]
- أن هذا الأصل هو طريق التحليل والتحريم ومعرفة أحكام الله وشرعه لذا وجب إتباع هذا الأصل ولزم التمسك به.
-وجوب التسليم التام لهذا الأصل – ومعرفة أن مفارقته قادح في الإيمان.
-هذا الأصل هو الإمام المقدم – ولا يوجد معه اجتهاد وأن إجماع المسلمين لا ينعقد على خلافه أبدا.
- أن هذا الأصل لا يعارض العقل بل إن صريح العقل موافق لصحيح النقل دائما – وهو يقدم على العقل دائما إن وجد بينهما تعارض في الظاهر .
-هذا الأصل يحصل به العلم واليقين خلافا عن كل الأدلة الأخرى التي لا تفيد إلا الظن.
-هذا الأصل ضروري لصلاح العباد في الدنيا والآخرة.
-هذا الأصل ترجع إليه جميع الأدلة – المتفق عليها والمختلف فيها.
والقول بأن الأصول الشرعية هما الكتاب والسنة، يتفق مع ما ذهب إليه معظم الأصوليين في قولهم بأن فيهما ما يكفي من الأحكام. واعتمد عليهما أنصار المذهب الظاهري فلم يعانوا من أزمة قلة الأحكام ، و قال ابن حزم بأنه وجد فيهما جميع أصول الأحكام ما عدا القراض فما وجدنا له أصلا حسب عبارته. وهذا ليس كلام الأصوليين ولكنه كلام الله عز وجل فقد قال عز و جل: « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» وقال ابن حزم « فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهي وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه، ولا يبدله فما أحل الله ورسوله هو حلال، وما حرماه فهو حرام وما سكتا عنه فهو عفو مطلق حلال»[19]
إذن ما يستخلص مما توافق عليه الأصوليون هو أن المعرفة الأصولية تتعلق بموضوع معطى وواقع ماثل، تستخلص الأحكام منه، حتى تتحقق الموضوعية، ويتحقق البحث العلمي. فالبحث الشرعي هو بحث في واقع قائم يريد المجتهد استخراج مكنوناته وحقائقه. ولذلك قال الشافعي أن البحث الشرعي هو مثل البحث عن القبلة للصلاة. فهو يكون في حالتين، إما مشاهدة البيت، وهذا مثل ما جاء نصا من الأحكام، وإما بالاستدلال بالأمارات من النجوم والرياح والجبال والجهات فهذه أشياء يعتمد عليها في إثبات البيت وهو معنى الاجتهاد عنده، فالاجتهاد هو طلب عين قائمة بأعين قائمة أيضا، وليس هناك من اعتماد على العقل وحده بل العقل يستنبط مما يلاحظ ويرى. ويقول الغزالي في أن الموضوع معطي وأن عمل العقل هو ملاحظته فقال : «اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول يعني القواعد من العام والخاص و الأمر و النهي إلى آخر القائمة لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها، واجتنائها من أغصانها، إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها، والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها، وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه، استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها والمدارك هي الأدلة السمعية»
وكما أن النص من الكتاب والسنة هو واقع معطى، فإن الواقع لا يتوقف على ذلك، فذلك واقع كما أن الواقع أيضا نص يمكن استقراء معنى النص منه أيضا وهو مما يحقق الموضوعية ،لأنه معطى مثل النص المعطي.


[1] - الرسالة للشافعي ص 19
[2] - المرجع السابق ص 19
[3] - المرجع السابق ص 106
[4] المرجع السابق ص 39
[5] - المرجع السابق ص 37
[6]- رضوان السيد: الشافعي والرسالة: دراسة في تكون النظام الفقهي في الإسلام، الاجتهاد، العدد 9، خريف 1990 ص100
[7] - الشوكاني إرشاد الفحول ص 124
[8] - السيد ولد اباه مقاصد الشرع ص 5
[9] الشاطبي الاعتصام 1/14
[10] د حمادي العبيدي الشاطبي و مقاصد الشريعة دار قتيبة للطباعة و النشر و التوزيع الطبعة الأوى 1412 ه 1992 م ص14
[11] - المرجع السابق ص 5
[12] - الغزالي شفاء الغليل ص 436
[13] الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام ، ص 3/43
[14] الشورى 52
[15] القلم 4
[16] د. يوسف حامد العالم : المقاصد لالعامة للشريعة اإسلامية المعهد العالمي للفكر اإسلامي و الدار العالمية للكتاب الإسلامي الطبعة الثانية 1415 ه 1994 م الرياض المملكة العربية السعودية ص 18
سورة النجم 3 4[17]
الحجر 9[18]
[19] - ابن حزم الأحكام ص 10


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.