في العصور الغابرة كان الإنسان يعيش على الفطرة وتقوده غرائزه مثله مثل الحيوان وكانت أدواته بسيطة وتفكيره محدود وكل همه البقاء حيا في ظروف طبيعية قاسية وقد واجهته شتى المحن والشدائد لكنه في النهاية تغلب عليها جميعا بما منحه الخالق من نعمة العقل والبصيرة وبذلك تطور وكون عالما خاصا به وتفوق على جميع الكائنات وجعلها في خدمته. وللبحث عن القوة تكونت القبائل وتحالفت مع بعضها البعض ضد القبائل الأخرى وكانت حقبة صراعات دموية مازال التاريخ يستذكرها وينبئنا بأهوالها ولم يتخل الإنسان عن بدائيته الدموية إلى حد الآن وكأن البشر خلقوا ليتقاتلوا من أجل النفوذ والثروة وتلك لعنة التاريخ فلا فكاك منها. ولم تكن الدول التي نراها الآن موجودة حتى في الخيال بل كانت الأرض مباحة للقبائل والمجموعات البشرية المتجانسة تتنقل على أديمها بكل حرية باحثة عن الماء والأنهار والأراضي الخصبة للرعي والحرث ولم تكن موجودة في ذلك الوقت رؤية التملك تستهوي أحدا. وفي مرحلة متقدمة من التاريخ ظهرت التجمعات العرقية بالأساس الثابتة المقام في أماكن يغلب عليها الحس الاستراتيجي كوجود الأنهار والتلال والمنبسطات الواسعة وبالقرب من الحقول والمزارع والتي تحولت شيئا فشيئا إلى مدن جلبت حولها العديد من أهل البوادي والقفار وهكذا تكونت الدولة المدينة مثل أثينا وقرطاج وروما ومكة ويثرب . وكنتيجة للاحتكاك بين البشر في المدن وتبادل التجارب والأفكار أصبح الانسان يبدع منظومة فكرية ولغوية ثم انتاجية وبذلك أصبح كائنا راقيا وبدأ يتخلص من بدائيته وحيوانيته وانتقل بذلك من حالة لأخرى أكثر تعقيدا فكبرت تحدياته ومتطلبات حياته. وفي خضم هذه التحولات المادية والفكرية جاءت الديانات السماوية تحمل رسائل واضحة للإنسان حيثما كان لتخبره بأن لوجوده على هذه الأرض غاية وحكمة وهدفا وليس اعتباطا وعدما. كما مكنته من منظومة من الأخلاق تؤسس لعلاقة سليمة بين أبناء البشر للعيش بسلام وأمن وذلك لتحقيق السعادة والرفاهية والتقدم. لكن نفس الإنسان التي يسكنها الشر مثل الخير أمارة بالسوء ومجبولة على الخطأ وقلة البصيرة لم تراع ما أتت به الديانات بل أولت واستنتجت وحرفت الحكمة الإلهية لصالح نزواتها وغاياتها الشيطانية فكانت الحروب والدمار والخراب وعذابات الإنسان وقهره. وبما أن الديانات السماوية قد جاءت في عهد لم يكن مفهوم الدولة الحديثة قائما ومتعارف عليه وكان نشرها والدعوة إليها والتعريف بها مباحا في شتى ربوع الأرض إلى حدود ظهور الامبراطوريات التي تبنت لواء الدين بحثا عن التوسع والهيمنة وقد تجاوزت حقوق الإنسان في أفعالها بل قهرته وجعلته خادما مطيعا للسلطان. وبذلك وقع الانحراف بالدين وتأويل مقاصده لصالح الفئة الحاكمة صاحبة السلطة والنفوذ وذلك لخدمة مصالحها وأهدافها فاختلطت الأمور وتداخلت المفاهيم لدى الرعية وأغلب الناس وبذلك دخلنا حضيرة ما يسمى ب''الدين السياسي'' أي استعمال الدين في السياسة وكلنا نعرف أن السياسة ابداع إنساني محض لا تخضع للمعايير الدينية والأخلاقية في الكثير من الأحيان ولها نظرة نسبية للأشياء. فالدين عبادة وهو أمر شخصي بين العبد وخالقه وهو أخلاق لترشيد المعاملات بين الناس وفي ذلك صلاح وبقاء وتطور المجموعات البشرية وقد تبنت جل القوانين الوضعية والدساتير الدولية المفاهيم الأخلاقية التي جاءت بها الديانات ولم يكن هناك تناقض إلا من خلال الاستنتاجات الشخصية والمذهبية واختلاف الرأي. وغاية الدين الأساسية هي بناء مجتمع تسود فيه الأخلاق وينتشر فيه العلم والمعرفة وينتفي فيه القهر والظلم للإنسان وتتحقق فيه السعادة والرفاهية للجميع. والوصول لهذه الأهداف السامية يمكن أن يتحقق حسب الصيرورة التاريخية عن طريق القبيلة أو الامبراطورية أو الدولة الحديثة فالمهم هو تحقيق الغاية على أرض الواقع. فكل هذه المسميات الرمزية لكائنات جاءت حسب سياق تاريخي معين لا يمكن أن تغير من واقع الحال شيئا وليست مهمة بالقدر الذي تؤدي إليه من نتيجة تسعد الانسان وتحقق غاياته ورغباته وتعطيه جميع حقوقه. فقد كانت الخلافة العباسية أو الأموية تتبنى راية الدين لكنها كانت فترة ظلم واستبداد والتاريخ يشهد بذلك ويمكن أن تكون أحوال حقوق الإنسان اليوم في ظل دولنا المتفرقة والممزقة والمتخلفة أكثر تطورا من تلك الفترة. كما أن الدين براء مما يفعله الناس والحكام والسلاطين وهم مسؤولون عن أفعالهم رغم أن الكثير منهم يلبس جلباب الورع والتقوى ويدعى زورا وبهتانا أن الله أمره بذلك. وليس هناك من شك أن الديانات جميعا تدعو لحقوق الانسان وخاصة ديننا الإسلامي الحنيف وليس هناك تناقض في ذلك مع المنظومة العالمية لحقوق الانسان التي منبعها الديانات وأساسها العدل والرحمة وحرية المعتقد وكما قال الخليفة عمر'' متى استعبدتم الناس وقد خلقتهم أمهاتهم أحرارا''. والوعاء الذي نعيش فيه ''الدولة بالمفهوم الحديث'' ككائن سياسي لا يحمل مفهوما دينيا أو عقائديا أو أخلاقيا حتى نبحث له عن بديل ك''دولة الخلافة'' أو ما شابهها لنقول أننا أصبحنا داخل الدين والأخلاق من خلال القفز من رمزية تاريخية إلى رمزية تاريخية أخرى فمنبع التدين والأخلاق هو الإنسان وليس المظاهر الخداعة كمثل الذي يبدي التقوى من خلال اللباس والحديث وهو المخادع وعديم الأخلاق في أفعاله وتصرفاته.