بقلم بشير الجويني (باحث في الترجمة والعلاقات الدولية)
يكاد يُجمع المتابعون للشأن الليبي أن البلاد تعيش في مكان ما بين "الدولة " و "الثورة" وأن تدخلا "ما" سيكون كفيلا بترجيح إحدى الكفتين على حساب الأخرى. فهل يكون خارجيا؟ أم داخليا؟أو يجمع بين ذا و ذاك؟ لا غرو أن جميع ثورات دول الربيع العربي واجهت موجات من الفوضى أعقبت سقوط دكتاتوريات جثمت على صدور مواطنيها عقودا طويلة ولا شك أيضا أن التجارب السابقة في كل الثورات التي حصلت على مدى التاريخ أثبتت أن تأسيس الدولة يحتاج إلى عقود و هو ما كان واضحا في الثورة الفرنسية و البلشفية و الإيرانية على اختلاف مرجعياتها. و في المحصلة فإن الاختلاف بين دول شمال إفريقيا واضح ، فلئن كان الانقلاب في مصر قد أطاح بالتجربة الفتية و مثل نقطة البداية في موجة الردة فإن التجربة التونسية تبقى ناجحة إلى حد ما.أما الأمر في ليبيا فهو مغاير. يمكن القول أن ليبيا لم تعش دولة حديثة إلا بين 1951 تاريخ استقلالها و 1969 تاريخ انقلاب القذافي. أما ما يسمى بدولة العقيد فلم تكن دولة بالمعنى الحديث و العلمي للكلمة.فقد حاول القذافي (و نجح جزئيا) في وضع البلاد في حالة من الفوضى رسخت سلطته و سطوته و لم يكن ما يسمى "عصر الجماهير" إلا مسرحيته للتفرد بالسلطة. كما كان لغياب الفعل المدني و خاصة المنظم منه في شكل أحزاب دور في ترسيخ هذا التخبط المقنن الذي شاهد الجميع نتائجه في المجلس الانتقالي -على ما قام به من اجتهادات- و في صعود تيارات دينية متشددة تتقاطع مع هذا التجهيل الممنهج من جهة رفض الممارسة السياسية المشبوهة أيضا في نظر كثير من الليبيين لترسخ مقولة "من تحزب خان" في لاوعيهم والتي طالما نادى بها العقيد و رفاقه.فكان أن حُرمت الأحزاب مثلا من 120 مقعدا في المؤتمر الوطني العام و حرمت بتاتا من التمثيل في البرلمان الحالي,مما أفرز تركيبة عصية على الضبط و التطويع خدمة لأهداف مشتركة فظهرت الخلافات القبلية والجهوية بين المستقلين و هو ما دفع رؤساء الحكومات المتعاقبة إلى تشكيل وزاراتهم على مبدأ المحاصصة الجهوية لا الحزبية.رغم أن كلى الخيارين مرفوض في الممارسة الديمقراطية. هذا فضلا عن الصراعات التي مزقت ( ولا تزال) جسد ليبيا المنهك أصلا,و التي يمكن أن نذكر منها ما طفا بين مصراطة و ورفلة (لكل منهما رديف سياسي)و بين الزنتان و المشاشية ,غريان و الأصابعة,زوارة والصيعان إلخ..مما يضيق المجال بحصره لكنه لا يخرج عن كونه صراعا مناطقيا غلب عليه التنافس الحاد بين "البدو" و "الحضر".رغم أن المعطى الميداني يفيد بإختفاء ظاهرة البداوة لكن ذلك لا يحجب حضورها و إن في شكل ثقافي لعله مما يجدر فيه البحث و التنقيب العلمي.. لقد كان القذافي يلعب على هذا الوتر و يذكي جذوته عن طريق تقريب البدو خاصة في أجهزته الأمنية و كتائبه المدججة ليكون هذا من منطلقات الثورة إضافة لما عاناه الليبيون من حيف و تبديد ثروات و حاكم ظالم تعامل مع الوطن على أنه "مزرعة خاصة" فأغدق على من رضي عنه و حرم من لم يرق له.و هو ما يدفعنا للتساؤل حول مصير بطانته المتواجدة في دول الطوق(مصر و تونس و المغرب) و ما الذي يكيدون إزاء محاولات السلطة الحالية في بناء الدولة. كل ذلك يضاف لما أسلفنا من صراعات قبلية تؤخر الشروع الفعلي في البناء إن لم تكن تهدده من أساسه,و ما الدعوات الصادرة من برقة إلا مثلا على ذلك رغم أن مؤيدي الطرح الفدرالي يستشهدون بأن قبائل الشرق ( على خلاف الغرب حسب زعمهم) نجحت تاريخيا في الحفاظ على وحدتها مستفيدة من التراث السنوسي و من التماهي بين السعادي و المرابطين و الذي تولى بموجبه عمر المختار المنحدر من المنافة (من بطون السعادي) قيادة القوات السنوسية و كانت النيابة من نصيب عبد الحميد العبار المنحدر من السعادي.غير أن السؤال المطروح في هذه الحالة : هل يصح أن نُسقط هذا النجاح الذي سجله الليبون إزاء المستعمر الإيطالي على واقع ليبي تغيرت فيه معطيات عدة لعل أهمها الذهب الأسود و الحدود المفتوحة و المخاطر الإقليمية بمختلف أنواعها؟ يرى ملاحظون أن الواقع في ليبيا لم يتغير منذ حوالي قرن إلا من الناحية المادية فزاد عدد السكان و تضخمت البنية التحتية أما ن الناحية الاجتماعية فيرون أنه لم تشهد تغييرات تُذكر. فقد تم دحر القذافي بنفس الطريقة التي اندحر بها الطليان: كل قبيلة تحارب في محيطها و ترفض ان تحررها قبيلة أخرى باستثناء مصراطة التي استقطبت معركتها ثوارا من كل ليبيا و هو أمر جعلها تتعالى عن المزايدات, و طرابلس التي كانت تاريخيا "المدينة التي لا تستطيع تحرير نفسها بنفسها" و ذلك لطبيعة اختلاط الأنساب فيها و للوجود النوعي الثقيل لكل سلطة حاكمة بها على اعتبار أنها مركز الحكم. اللافت للنظر أن هذا السؤال ( سؤال القبيلة) لم يُطرح في مصر و لا في تونس رغم الامتداد الطبيعي لهما مع ليبيا.فهل من أسباب علمية تفسر الظاهرة؟ الأكيد أن البحث فيها و التنقيب مما يجدر بالمختصين بهذا المبحث تناوله عاجلا.كما أن الأكيد أن لا بناء مؤسس و دائم للدولة في ظل هذا التداخل بين القبيلة و "الشوكة" بالتعبير الخلدوني, و أن تفكيك القبيلة أو في الحد الأدنى إخراجها من مجال العلاقة مواطن-دولة هو أس من أسس بناء الكيان المدني المقبول وفقا للمواصفات الدولية. لا يفوتنا التنبيه في ختام هذا العرض الموجز أننا لسنا في معرض تقديم المواعظ لأحد بل هي استنتاجات علمية موضوعية خالطتها عوامل ذاتية راجعة لإمكانيات علمية في وجود تكامل بين دولتين تكاد الفوارق بينهما تمحي لذلك نقول: لعل اللحظة قد حانت كي يبني الليبيون أو على الأقل يتعلموا بناء دولتهم في إطار من التنازل..نعم تنازل لا يضيق به صدر الإسلاميين كما لا يتبرم منه الليبراليون(رغم أن لليبرالية في ليبيا شكلا معينا لا يكاد يختلف عن غيرهم سنفرد بالعرض له مجالا أوسع) فالمصلحة العامة تقتضي أن يكون كلى التياران ممثلا في النصوص التأسيسية و في مختلف مؤسسات الدولة الليبية في إطار من احترام لمبدأي الكفاءة و النزاهة. لقد كان للمنتظم الدولي دور في بناء ليبيا بعد الاستقلال لا من خلال تبني القرار القاضي بذلك (والموقف التاريخي المشرف لدولة هايتي) بل في بناء الدولة رغم ما يعيبه البعض على بريطانيا مثلا التي يُنسب لها الضغط في اتجاه إنهاء الاحتلال الإيطالي و في تأسيس الإدارة في الدولة الناشئة و ما يستتبعه ذلك من تبعية و ولاء مباشر و غير مباشر.لكن الملاحظ أنها و غيرها من الفاعلين (الخمسة بالأخص) تراجعت مباشرة بعد تحرير ليبيا بإعانة منها: فهل كان ذلك أمرا مخططا لإغراق البلاد في دوامة من العنف؟ أم أنه استخلاص لدروس أفغانستان و العراق؟ لعل التاريخ القريب كفيل بتقديم مؤشرات على هذا او ذاك, لكن الواضح أن المجموعة الدولية مسؤولة قانونا و أخلاقيا عما يحصل في ليبيا.و لعل المجهودات الدائبة التي قام بها مبعوث الأمين العام السيد طارق متري خير دليل أن حل المسألة الليبية لا يمكن أن يكون دون غطاء أممي أو إقليمي لتقاطع المصالح و المطامع و المخاطر في الآن ذاته. في المقابل من المهم جدا أن يكون بناة الدولة (مهما كانت خلفياتهم الإيديولوجية) على وعي شديد بوجوب تقنين المشاركة السياسية لكل المواطنين و تنمية الإحساس بوجوبها لدى كل الليبيين و خاصة الشباب و المرأة لما لهذين القطاعين من أهمية,كما يتعين تغيير قانون الأحزاب بحيث يصبح كل المرشحين عن قوائم حزبية وجوبا لأن هذا ما يدفعهم للتفكير في مصلحة ليبيا قبل مصلحة القبيلة و المنطقة. أما مسألة جمع السلاح و احتكار الدولة للقوة القاهرة فهو مما يتطلب وقتا و خاصة إرادة و تخطيطا و هو( للأسف) ما لم يتوفر لدى جل الحكومات و خاصة حكومة زيدان التي همشت الثوار و جعلتهم ينضمون لمعسكر الرفض و عرقلت جمع سلاحهم دون وعي منها لمغبة ذلك. يبقى السؤال المطروح : هل ستخرج ليبيا نحو فضاء الدولة المدنية الديمقراطية التي تم التداول فيها على السلطة بطريقة سلمية و تقسيم ثرواتها في إطار الحوكمة الرشيدة؟ أم أن قدر اليبيين هو الاقتتال تحت ذرائع مناطقية و جهوية و إيديولوجية و عرقية و تضييع ثروات وفرص استقرار و رخاء ينعم بها أحفاد المختار في تكامل اقتصادي مندمج مع إطارهم المغاربي و المتوسطي و الإفريقي؟ كل هذا رهين لوعي النخبة في ليبيا و خاصة رهين بسيادة خطاب المصالحة الوطنية على اعتبارها ضرورة إنسانية و أخلاقية : مصالحة تحفظ الحقوق و تؤدي الامانات و تحترم حقوق الإنسان. فعلينا أن لا نُغفل أن تاريخ الثورات مليء بالعبر.. فلزام على صناع القرار في دول الربيع العربي و ليبيا بالأخص استخلاص الدرس من نصب اليعاقبة المصاقل الذي كان تهيئة لصعود دكتاتور هو نابيليون بونابرت الذي سرعان ما إرتقى ليصبح إمبراطورا و تأكل الثورة أبنائها و ما تاريخ الصراع بين أمراء الحرب في أفغانستان و صعود طالبان" في غفلة منهم" إلا دليل إضافي على أن استكمال أهداف الثورات لا يتأتي بغير عدالة انتقالية و تنظيم للحقوق والواجبات يأخذ من تجارب 13 بلدا مرت بما تمر به دول الربيع العربي و خاصة بشيوع ثقافة التوافق و البناء المشترك فليبيا لكل أبنائها كل بمقدار حبه و إخلاصه لها. مصدر الخبر : بريد الحوار نت a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=26443&t=هل عَلِقتْ ليبيا بين " الثورة" و "الدولة"؟&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"