كلما عدت إلى تونس لمعانقة مراتع الصبى والأهل والأحباب إلا ووقفت على مشاهد ومظاهر كنت أعتقد أنها غريبة عنّا، أو شاذة ونادرة، ولكن مرّة بعد مرّة يتأكد لي أن المشوار طويل وأن طريق الإصلاح يحتاج نفسا طويلا وصبرا وعلما وحكمة. وقد تبيّن لي أن أحلامي القديمة طوباوية ولا علاقة لها بالواقع المعقد والمتداخل، حيث كنت أعتقد أن الإصلاح يسير وأنه بمجرّد إسقاط النظام البائس والتمكن من إجراء انتخابات حرة ونزيهة سنبلغ نهاية المطاف ونحقق أقصى أمانينا في النهوض والتقدم الذي به تحلو الحياة ويسعد الإنسان. ما أكثر ما يحضر في بالي عند كل زيارة لتونس هذا البيت للشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي من قصيدته "في القدس": وما كل نفس حين تلقى حبيبها *** تسرّ ولا كلّ الغياب يضيرها وحيث ما يممت وجهك رأيت بعين المشفق على بلده ورشات إصلاح لابد منها، في الأنفس والعقليات وكذلك في المعاملات وكل المجالات. ونقف الآن مع: "الأنانية" أو "الأثرة" وهي أن يخص الإنسان نفسه بشيء لغيره فيه حقّ مثله أو أكثر، فيؤثر به نفسه. وهي بعض مما خلق الله فينا وإن تفاوتت من شخص لآخر. هي مغروسة في فطرتنا، السويّ منّا من قاومها وهذّبها بطبع يتطبّعه وخلق يتحلي به أو دين يتربّي عليه، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من شروط صحة الإيمان ترك الأنانية "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". لايمكن حصر مظاهر "الأنانية" وأنواعها فهي عديدة نراها في الملبس والمأكل والمركب، ونعيشها في البيت والشارع والعمل، وقد تكون بين الإخوة والأقارب والأباعد، كما تكون من الأصدقاء ومن الأعداء! ولسنا هنا بصدد بحث حول الأنانية وأنواعها وأسبابها ومسبباتها وطرق علاجها فذلك ليس من اختصاصنا وإنما نودّ التنبيه إلى أن كثير من مظاهرها قد أصبح صارخا يقض المضاجع وينذر بالكوارث، فإذا كان أي منا يفهم أو يتفهّم أن يؤثر أحدهم نفسه بأكل أو دخول أو خروج أو قضاء شأن ما قبل غيره، فإننا لا يمكن أن نفهم أن تقدم جماعة على قطع طريق أو منع إنجاز مشروع ما في منطقة حتى ينجز مثله في منطقتهم أو منع شركة أو مصنع من العمل حتي تشغل كل طالبي العمل! وهي مظاهر شاهدناها كثيرا في السنوات الماضية، وقد أصبحت سلوكا شبه معتاد باسم "الثورة" و"الشرعية الثورية"!! ولكن ما أودّ هنا الإشارة إليه والتنبيه من عواقبه أشد من ذلك بكثير، وأكتفي بمثالين، الأوّل: تقرّر الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه تقوية الضخ لعشرارت العائلات وبعد أن يتمّ المشروع وتنعم تلك العائلات بمستوى جيّد من الخدمة المائية يقدم أحدهم على تخريب أنبوب الماء لأن مشروع التقوية لم يشمل منزله، وتبقى عشرات العائلات وحيواناتها للعطش عدة أيام في حرّ الصيف!! والثاني، وهو الأدهى والأمر، فقد روى لي ثقات، أن بعض الناس ممن أعمتهم الأنانية يتعمّدون كسر أنبوب الماء كي تسقى حقولهم وتصبح برك من الماء دون اكتراث بما يلحق آلاف العائلات من عطش لأيام متتالية في الصيف! تتم العملية بدعوى الخطأء حيث يجلبون جرّافات لقيام بعمل ما حسب الظاهر ويكسرون الأنبوب عمدا بتعلة أن الأمر حصل خطأ، دون اكتراث أو تفكير في حاجة الناس الماسة للماء! وتتكرر هذه "الحوادث" دون أن يتم تحقيق في مثل هذه الحالات مع الجناة الذين لو علموا أنهم لن يفلتوا من العقاب والتغريم ما أقدموا على فعلتهم النكراء، هذا إذا كان الأمر مدبّرا، وأما إن كان على وجه الخطأ فلا يعفون رغم ذلك من التعويض! إنها الفوضى والأنانية وليس من شاهد كمن سمع! ما يقترفه بعض الحمقى والمنحرفين شوّه الصورة الرائعة التي رسمها شباب تونس الثائر في وجه الظلم والطغيان، الذين رابطوا في الساحات والميادين بالليل والنهار لحفظ الأمن وحماية الناس وممتلكاتهم بعد أن انفرط عقد المؤسسة الأمنية التي يراد أن تعود اليوم على شاكلتها القديمة! مظاهر الأنانية هذه تنسي روعة الإيثار التي أشاد بها العالم بأسره حين فتح التونسيون بيوتهم وقلوبه لإخوانهم الليبيين أيام الثورة الليبية فآووا ونصروا رغم ما بهم من خصاصة. لا بدّ من التشهير بهذه المظاهر السيئة واعتماد كل الطرق لمقاومتها، ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن!