من يعيش في الغرب، أول ما يشدّ انتباهه إلى شيوع قيم التنوّع و التعدّد و دربة و مهارة في إدارة الاختلاف و الخلاف بينهم. يلامسها الناظر في كل مجالات الحياة، بدءا من الأسرة إلى بيئة العمل، والمؤسسات، و الأحزاب و الدولة. فكيف تمكّنت تلك المجتمعات من ترسيخ قيم الاحترام و قبول الآخر و استثمار فرص التنوّع و التعدّد، لتنتج منهجية راقية في إدارة الاختلاف و الخلاف. بينما إذا ولّينا النظر قبلة العرب و المسلمين، ينقلب إلينا البصر خاسئا و هو حسير!. نعلم أن بناء القيم عملية شاملة و متراكمة، و قد أفلح الغرب في تمثّل ما يحتاجه في إدارة حياته اليوم، و ما يمكّنه من إدارة صراعاته. أما العرب و المسلمون فحالهم في نكوص، فكلّما لاح في الأفق شهاب نور، إلاّ و انقلب إلى شيطان مارد ينهش ما تبقى من الجسم السقيم. تشغلني هذه المقارنة، و لكنني لم أجد تفسيرا يصوّغ سيادتها و لأزمنة طويلة من تاريخ الأمة. و أعلم أن بعض مرضى "الإسهال الايديولوجي" يوجّه أصابع الاتهام إلى بنية اللغة العربية و الدين الاسلامي و التراث.. و لكنه سرعان ما يرتدّ على قائله، لأنه لا يستقيم علما و لا واقعا. فاللغة العربية مشحونة ذاتيا بالتعدّد، و هي المعين الأساسي الذي ينبع منه التنوّع. فعند تدقيق النظر في تاريخ العلوم نجد أن اللغة معطاءة، فهي تمنح القدرة على صياغة المفاهيم و المصطلحات، لتتنوع الألفاظ فتولّد تعددا في الفهم و الاصطلاح من حقل معرفي إلى آخر. فكيف باللغة التي هي محضن و رحم التنوّع، تمنع ما هو خصيصتها!. أما اتهام الاسلام، فهو أيضا لا يصمد أمام تدقيق النظر، فالتنوّع و التعدّد حالة ملموسة و قدر و مقصد إلاهي و الاختلاف حقيقة طبيعية. و القرآن الكريم يقرّر هذه الحقيقة في الخلق و الكون و المجتمعات. و هناك مصنّفات عديدة قديما و حديثا أوضحت ذلك. أما التراث في مصادره الأساسية و من خلال مدونات العلوم الاسلامية، فهو أيضا مصدرا مهما لتقرير حقيقة التنوّع و التعدّد. فقد تعدّدت العلوم و تنوّعت مناهج النظر، و كلّ يثري الآخر في بناء علمي فريد، و ما تعدّدت العلوم و ازدهرت في الحضارة الاسلامية، إلا لأن التنوّع و التعدّد كان حقيقة ملموسة، و لكن استثمارها تعطّل و عوض مواصلة مسيرة العطاء على قاعدة التنوّع و التعدّد، تعطّلت مفاعيلها و ولّدت تعصّبا فِرقيا ( من الفرق) على قاعدة الحق مع الفرد و الجماعة و ليس مع النظر و المنهج. هناك مقاربات عديدة في هذا المجال، و لكن مقصد نظرنا اليوم هو مفهوم التربية، الذي انحرفت به الفِرق و الساسة قديما و حديثا، ليعطّلوا حقيقة التكوين البشري، و يشوّهوا منظومة القيم. فالحقيقة موزّعة بين الحقول المعرفية، و النماذج المجتمعية و ادراك العقول لها يبقى دائما جزئيا. و كلما تشوّه النظر إليها ليحصر الحقيقة في الجزئي، إلا ولّدت تعصّبا و اقتتالا لفظيا، ليصعد لاحقا إلى "ذبح"، و الذبح فيه ما هو سياسي و عقدي و مادي .. و نسأل الله العفو و العافية ابراهيم بالكيلاني ( النرويج)