يعيش بعض الطيبين من أبناء الثورة في تونس حالة من الإنكسار والشعور بالمرارة والإحباط ، على خلفية نتائج الإنتخابات الأخيرة التي جاءت بمنظومة الثورة المضادة ، وألقت بإحرازها للمركز الأول بظلال من التوجس والخوف على مكتسبات الثورة ومستقبلها. وكيف لا يخاف شعب عانى الأمرين من دولة الفساد والإستبداد ، ومهر ثورته بالدم وقدم الشهداء والتضحيات لينعم بالحرية والكرامة ، كيف لا يحزن وينكسر وهو يرى الذين أخرجهم بالتضحيات الجسام يعودون إليه بصناديق الإقتراع ، بعد أن ظن أنه تخلص من كابوسهم ونجى من قهرهم؟ كيف لا يغتم وينقبض وهو يرى حلمه في الحرية والإنعتاق بات مهددا بنفس آلة القمع التي باتت على وشك تسلم مقاليد أمره من جديد ، وكأنه لم تكن ثورة ولا ربيع .. غير أنه وبعيدا عن التسطيح والمثاليات والعواطف المجردة ، وبإمعان النظر في حقيقة ما انتهى إليه المشهد السياسي في تونس بعد هذه الإنتخابات ، واستصحابا للمراحل العسيرة التي مرت بها المرحلة الإنتقالية برمتها ، وبالنظر كذلك إلى الواقع الإقليمي والدولي الملتهب ، فإن التعاطي مع ما انتهت إليه الأمور في تونس يتطلب منا فهما أعمق ورؤية أبعد .. لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم حالا مشابها في معركة أحد ، بل كان الجرح أعمق والمصيبة أشد ، إذ أصيب النبي صلى الله عليه وسلم في بدنه وكسرت رباعيته ودخلت حلق المغفر في وجنتيه الشريفتين وأسقط في الحفرة ، وأصيب في أعز أصحابه وعلى رأسهم عمه حمزة وأخوه في الرضاعة وأسد الله وسروله ، وانكسر جيشه وانهزم بعد أن كانت له الغلبة في باديء الأمر. فنزلت آيات القرآن تترفق بالمؤمنين بعدما أصابهم القرح في هذه الجولة ، حتى لا يتحول انكسارهم فيها إلى قنوط يشل قواهم ، وهزيمة نفسية تحبطهم وتطمع فيهم أعداءهم من المنافقين من داخل الصف ومنهم ابن سلول الذي رجع بثلث الجيش قبل بلوغ أحد وخذل المسلمين ، ولم يتوانى في إظهار شماتته وفرحه بما لحق بالمسلمين وكذلك أعداءهم في الخارج الذين يتربصون بهم الدوائر ، فجاءت الآيات تمسح الأحزان وترفع الهمم قال تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) [آل عمران: 139، 140]. فجمع لهم سبحانه في هذا الخطاب بين تقوية النفوس وإحياء العزائم وحسن التعزية ، وبين ذكر الحكم الباهرة من إدالة أهل الباطل عليهم. والمؤمن في كل شؤونه يعيش مع الله ومع آياته ، ويستشعر أن هذه الآيات تتنزل عليه اليوم لتوجهه وتأخذ بيديه لما فيه خيري دينه ودنياه. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلبث أن مسح تلك الأحزان العارضة ، وأقبل يتفقد أصحابه ويخفف ما نزل بهم ويسكب من إيمانه على نفوسهم ما يملؤها إحتسابا ورضا ، وثقة وقوة وأملا. فعن رِفاعة الزُّرقيِّ رضي الله عنه قال: لما كان يومُ أُحُد وانكفَأ المُشرِكون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «استَوُوا حتى أُثنِيَ على ربِّي»، فصارُوا خلفَه صُفُوفًا، فقال: «اللهم لك الحمدُ كلُّه، اللهم لا قابِضَ لما بَسَطتَّ، ولا باسِطَ لما قبضتَ، ولا هادِيَ لما أضلَلتَ، ولما مُضِلَّ لمن هدَيتَ، ولا مُعطِيَ لما منَعتَ، ولا مانِعَ لما أعطَيتَ، ولا مُقرِّبَ لما باعَدتَ، ولا مُباعِدَ لما قرَّبتَ، اللهم ابسُط علينا من بركاتك ورحمتِك، وفضلِك ورِزقِك، اللهم إني أسألُك النعيمَ المُقيمَ الذي لا يحولُ ولا يزولُ، اللهم إني أسألُك النعيمَ يوم العَيْلة، والأمنَ يوم الخوف، اللهم إني عائِذٌ بك من شرِّ ما أعطيتَنا وشرِّ ما منَعتَ، اللهم حبِّب إلينا الإيمانَ وزيِّنه في قلوبِنا، وكرِّه إلينا الكُفرَ والفسوقَ والعِصيان، واجعَلنا من الراشِدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحيِنا مُسلمين، وألحِقنا بالصالِحين، غير خزايا ولا مفتُونين. اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين يُكذِّبُون رُسُلَك، ويصُدُّون عن سبيلِك، واجعَل عليهم رِجزَك وعذابَك، اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين أُوتُوا الكِتاب، إلهَ الحقِّ» أخرجه الإمام أحمد وغيرُه فلنحذر في مثل هذه الأوقات زعزعة النفوس وبلبلة القلوب وخلخلة النفوس ، بل يجب علينا أن نفرح بالإنتصار ونفخر بالإنجازات ، ونثبت في مواقعنا ثبات المؤمنين الصادقين .. فلقد خضنا معركة الحرية مع دولة الإستبداد وبذلنا فيها المهج والأرواح والأعمار ، وقدمنا فيها الشهداء وصمدنا فيها أمام شتى أنواع التنكيل ، وكنا سببا مباشرا في إنهاك منظومته وتآكل سطوته. وقد أحرزت حركة النهضة في هذه الجولة الأخيرة تقدما مريحا ، وحافظت على زخمها ورصيدها الشعبي ( أكثر من مليون صوت ) رغم حملات التشويه وأثقال المرحلة الإنتقالية التي واجهت فيها تحديات الدولة العميقة ، وسقف المطلبية العالي جدا بعد الثورة ، والإعتصامات والإضرابات والإغتيالات السياسية والإرهاب ، فتصرفت بمسؤولية عالية ، فأنجز الدستور ، وساهمت مساهمة فعالة في الوصول إلى الإنتخابات ، وإتمام المرحلة الإنتقالية بسلام ، وسط محيط إقليمي ملتهب ، وواقع دولي ضاغط ، وعقبات شتى وإكراهات مريرة .. ولذلك حق لأبناء النهضة أن يحتفلوا بالإنتصار ، إنتصار تونس والديمقراطية ، وإنتصارهم بتحقيق نتائج عجزت عن تحقيق عشرها كل الأحزاب المحسوبة على الثورة ، وستبق هذه الحركة أمينة على مكتسبات الثورة ، وفية لدماء الشهداء ، راعية لتطلعات شعبها وأمتها من موقعها الذي تكون فيه. وسوف نبقى هنا حتى يزول الألم ويثمر الأمل ، ولا عزاء للمرجفين والمثبطين والمخذلين. ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) يوسف 21 محمد الأسعد بوزيد برلين 4 محرم 1436 ه 28/10/2014