لا زلت أتذكّر، ومنذ أن كنت في المرحلة الابتدائية والثّانوية، كيف كانت لجان التنسيق الحزبي والشعب الدستورية تقوم بتجميع تلاميذ المدارس الابتدائية والمعاهد الثانوية ثمّ تسفيرهم عبر حافلات شركات النقل الوطنيّة والجهويّة إلى كلّ منطقة تحظى بزيارة رئيس الجمهورية أنذاك "المجاهد الأكبر" الرئيس الحبيب بورقيبة، وذلك بغرض المساهمة في الاستقبال الشعبي للرئيس. فكان التلاميذ يصطفّون على يمين الشارع كما على شماله ويظلّون لساعات طويلة مهما كانت قساوة الظروف المناخية في انتظار موكب الرئيس "المفدّى". وعندما يحلّ الموكب الرئاسي تنطلق حناجر الجماهير بالهتاف "يحيا بورقيبا" و "بالروح بالدم نفديك يا بورقيبة" ويطلّ الرئيس من سيارته المكشوفة ملوّحا بيديه لهذه الجماهير. هذا المشهد وإن كان في الظّاهر من أجل بناء التواصل واللّحمة ما بين رئيس الجمهورية و المواطنين، إلاّ أنّه في الحقيقة يخفي شهوة حبّ الظهور الجامحة ومنطق التعالي والاستعلاء لدى الرّئيس بورقيبة والتي ترجمتها كلّ ممارساته وتصرّفاته سواء من خلال إدارته للحكم أو حتّى عند قيامه بأبسط نشاط رياضي يومي. حيث نذكر ونتذكّر كيف كانت التلفزة الوطنية تبثّ يوميا في نشرة أخبار الثّامنة جولة بورقيبة اليوميّة مترجّلا أو تمارين السّباحة التي يقوم بها وهو محاط بكوكبة من رجاله المقرّبين. ورغم أنّ حبّ الظهور هو مطلب مشروع وأيّ إنسان يسعى ويرغب أن يكون له شأن في المجتمع يمكّنه من ترك بصمته فيه بما يستوجب أن يتحدث النّاس عنه وعن إنجازاته، إلّا أنّ هذا السلوك عندما يزيد على الحدّ المعقول فإنّه يؤشّر بالتأكيد على أنّ صاحبه يشكو من أمراض نفسية باطنية تدفعه لمحاولة التعافي من هذه الأمراض عبر حبّ الظهور المفرط والرغبة الجامحة في التميز عن النّاس في كلّ صغيرة وكبيرة. وهو ما دفع بالرئيس بورقيبة إلى الإيعاز لبطانيته بأن يضفوا عليه ألقابا كثيرة، من قبيل السياسي الأوّل والحقوقي الأوّل والمثقّف الأوّل والمفكّر الأول والمناضل الأوّل والمجاهد الأكبر وأن يتغنّوا به بمثل أغنية يا سيّد الأسياد يا حبيبي .بورقيبة الغالي*** يا مخلّص لبلاد محال ننساك من بالي... لعلّ بعض المناضلين السّياسيين أو ربّما الكثير منهم يحاربون هذه السلوكيات بحجة أنّها مرضية وأنّها تكرّس كلّ أنواع الظلم والاستبداد والتكبّر والاستعلاء على النّاس، بل لأنّها تناقض مبدأ الدّيمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومن منطلق أنّهم يدافعون عن المحرومين والمهمّشين والعمّال والطّبقة الشّغيلة والبروليتاريا. لكنّهم في حقيقة الأمر لا يناضلون من أجل هذه الأهداف أو تكريس هذه المعاني وإنّما من أجل أن يحلّوا محلّ هذا الحاكم ومن أجل تلبية رغبات جامحة في نفوسهم ومن أجل تحقيق شهوة الحكم وحبّ التسلّط والاستعلاء والتميّز عن النّاس. ولكن يغلّفونها بغلاف الدّفاع عن الدّيمقراطية وحقوق الإنسان. والأمثلة في العالم العربي كثيرة : فكلّ الذين قاموا بانقلابات عسكرية في العالم العربي،باستثناء سوار الذّهب، أشاعوا في النّاس أنّهم أطلّوا من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة بين النّاس. وبعد فترة قصيرة من الحكم والتحكّم في مفاصل الدولة يكتشف النّاس أنّ هؤلاء الحكّام كانوا يظهرون ما لا يبطنون. ومن هؤلاء السّياسيين نذكر حمّة الهمّامي. فحمّة الهمّامي طيلة مسيرته النضالية كان يعلن للنّاس أنّه يدافع عن العمّال والطبقة الشغيلة والبسطاء والمهمّشين و"الزواولة" ويعتبر نفسه واحدا منهم وأنّه يدافع من أجل تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية ومن أجل تحقيق وممارسة كلّ أشكال الديمقراطية. ولكنّ المفارقة حصلت عندما تحقّقت الديمقراطية وفاز غيره في الانتخابات، فقد ثار على من أفرزته الممارسة الديمقراطية التي كان يناضل ظاهريا من أجلها. لا بل إنّه ألّب العديد من الأطراف السياسية ومن مؤسّسات المجتمع المدني على الحكّام الجدد/ الترويكا بحجّة أنّهم فشلوا في ممارسة الحكم كما لو كان يملك من دون النّاس الميزان أو المعيار الذي يقاس به النّجاح والفشل. وهذا لا يعدو أن يكون إلّا منطق فرعون الذي قال "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد" بما هو منطق التكبّر والاستعلاء ومنطق أنا الذي أملك الحقيقة المطلقة ويجب أن تتّبعوني سواء أ كنت في الحكم أو في المعارضة. يعلم حمّة الهمّامي جيّدا أنّه لن يفوز بمنصب رئاسة الجمهورية لأنّ فكره معاد لتاريخ البلاد والعباد. ورغم ذلك أصرّ أن يلبّي بعضا من شهوة الحكم وحبّ الظهور والجموح والطموح نحو السّلطة. فعقد صفقة مع بقايا الاستبداد (صفقة خوذ وهات) يصير بموجبها حمّة رئيسا منصّبا من الدولة العميقة ولو لفترة الحملة الانتخابية وذلك مقابل معارضة قامة من قامات النضال في تونس وفي العالم العربي هو الدكتور محمد المنصف المرزوقي ومقابل لعب دور الكومبارس لغاية وحيدة هي تشتيت الأصوات أملا في إضعاف المرزوقي. وقد كان الأمر كذلك -للاسف-. إذ فتح باب التمويلات من كلّ حدب وصوب حتّى علّق عليها السيد مصطفى بن جعفر قائلا : "بعض الناس يتكلّمون دائما عن "الزوّالي" و لكنّهم ينفقون المليارات على حملاتهم الإنتخابية". ونتيجة لذلك فقد أقيمت الحفلات والمهرجانات الانتخابية في كلّ مكان بما في ذلك الشوارع و القرى والأرياف والسّاحات العامّة والنّزل وقد تخلّل ذلك توزيع المرطّبات على المدعووين. وقد استمرّ العرس الحافل على امتداد الحملة الانتخابية. وقد علّقت اللّافتات الإشهارية على امتداد شوارع كثيرة. وكانت هذه اللّافتات لا تحمل شعار "انتخبوا حمّة" بل كتب عليها "حمّة رئيس" بما يعني أنّ حمّة أصبح فعلا رئيسا للجمهورية التونسية تماما كما أراد، وقد حقّق حلمه ولو لمدّة وقتية. (فهو الرئيس المؤقت لمدّة فترة الحملة الانتخابية). وقد استقبلته قناة نسمة "قناة العائلة" منفردا لمدّة ساعة أو ساعتين كما تفعل مع سي الباجي. لا بل وأقامت له عرسا انتخابيا وتحدّثت عن نضالاته وإنجازاته وحاورته كما لو كان يشغل خطّة رئيس الجمهورية. وفي نهاية المطاف، تحصّل حمّة الهمّامي على المرتبة الثّالثة بنسبة 7.8 %. وتهافت قياديو ومنظّرو الجبهة على القنوات الفضائية ليشرحوا للناس سرّ هذا النجاح الباهر في وقت قياسي. وكان من أبرز هذه الشروحات والتحاليل ما جاء على لسان منجي الرحوي الذي قال "إنّ الجبهة الشعبية ما فتئت تطوّر خطابها من يوم إلى يوم حتّى كسبت بذلك أصواتا جديدة وتحصّلت على هذه المرتبة المشرّفة" ! ! ! بما يعني أنّ "الجبهويين" يصنعون الصنيعة ثمّ يصدّقونها ! ! ! وبما يعني كذلك أنّهم لا يزالون يستغفلون الشعب ويمثّلون عليه وذلك بعد مرور أربع سنوات على انطلاق الثورة. منجي المازني