تفنن خصوم ثورات الربيع العربي في نقد وشجب بل وتجريم حركات التحرر التي قامت اثر حادثة العربة في سيدي بوزيد وما تبعها من استبسال الشعب التونسي في اهداء بذرة الثورة للعالم العربي ومن ثم احداث فجوة في جدار الدكتاتوريات الاصم الذي طال اكثر من اللازم ولم يظهر ضوئه في آخر النفق ولا حتى بعض شعاعه الخافت ، وتداولت الدكتاتورية تلو الاخرى على رقاب الشعوب العربية ، ولم يصدر من احدها ما يفيد انها فكرت او خطر على بالها الشروع في الانفتاح ولو على جرعات ، وان دامت رحلة الانتقال من الحكم الشمولي الى حكم الشعوب عشرات السنين ، كان كل ما يهم الشعوب ان تشعر باحد دكتاتوريات المنطقة تتحرك لو بتثاقل نحو الديمقراطية، لكن شيء من ذلك لم يحدث بل ودشنا اسد الاب باكورة جديدة عرفت لاحقا بالجملوكية ، وكان مبارك على وشك التوريث لو لم تدرك الشعب المصري عناية 25 يناير . بعد ان توجت الجماهير ثورتها في اكثر من بلد عربي ، تكاثرت فجأة الاصوات المنددة بهذه الثورات ، وجنحت العديد من الشخصيات والهيئات ووسائل الاعلام الى وصف ما حدث بالمؤامرة التي تستهدف الامن القومي العربي ، ومقدرات المنطقة وانجازات دولها ، ومن فرط الضغط باتجاه تشويه الربيع العربي ، ثم ومن كثرة الحديث عن الامجاد والانجازات التي تستهدفها قوى الاستكبار ، خلنا اننا كنا في حلم ولم نكن لعقود تحت انياب الدكتاتورية ، ولم نعيش البطالة والجوع والفقر ولم تتدهور القدرة الشرائية لدى غالبية الشعوب العربية ، ومن فرط عبث الاعلام بجينات الحقيقة ، اعتقدنا اننا دول عظمى تملك الطاقة ولديها الاكتفاء الذاتي من الغذاء والسلاح والدواء ، ثم دخلنا في نوبة من الحيرة ، هذا اعلام يحدثنا عن مؤامرة عالمية تستهدف الرخاء العربي ، ونحن لم نشبع من الدلاع والبطيخ ونعتبر اليغرط اكلة رفاهية ، ونعد البنان الذي يذهب لعلف المواشي في بلاد الغرب ، من غلال النبلاء ، نجلس امام التلفاز فنستمع الى الرغاء والعويل واللطم ، على سؤدد الامة العربية الذي بدا يضيع تحت عصف الربيع العربي ، وعبث الرعاع الثائر ، ثم نخرج الى الشارع فلا نرى ولا نحس ولا نسمع ولا نتذوق هذه الامجاد التي يتباكون عليها ، ندقق اكثر فلا نرى غير عاهات المساجين وآثار التعذيب الساكنة في اجسادهم المتهالكة ، نمعن التركيز فنلمح النفساء فوق بلاط المستشفيات يفترشن الارض الملوثة بدماء النفاس لان طاقة الاستيعاب عاجزة عن سد الحاجة ولان الاسرة المتآكلة محجوزة لعشرة بالمئة من الاجسام المعطوبة والبقية تترقب الدور حتى اذا هجم الليل عادت تجر آلامها على امل ان تحصل على شبه سرير في اليوم التالي . شعوب تعاني البطالة والمرض والقلق والامتهان ، وتتجرع العذاب والاذلال ، ونخب تؤكد لهذه الشعوب المتهالكة انها تعيش في بحبوحة وسعادة ، وان قوى الاستكبار العالمي تساعدها على الثورة حتى تحرمها من العز والبحبوحة التي تعيشها ، وان كانت النخب ترعرعت على الفضلات والجيف وما تفلت من انياب الدكتاتوريات ، فان العديد من الدهماء انطلت عليهم الحيلة وتحولوا عن ادميتهم التي كرمهم الله بها لتيقمصوا دور الببغاء ، يرددون خلف الدكتاتوريات المتهاوية ومراكز قواها ما يسيء للثورة ويعيد التأسيس والتمكين لدول القهر ، دهماء سخروا انفسهم لاعادة انعاش البطش ورفع اسهمه ، وطمس مستقبلهم ومستقبل ابنائهم. ببغاوات يرددون تباعا اشاعة خطر الثورات على الامة العربية ، ويسفهون ربيعهم الذي جاء عقب دماء واشلاء الشهداء ، حتى اذا سالتهم عن البديل وكيف يمكن للشعوب ان تستخلص حقوقها وتمارس حريتها وتعيش الديمقراطية ، ابتلعوا السنتهم ، لان هذا لا يهمهم ولا يندرج ضمن اهتماماتهم ، كل ما يعنيهم الطعن في الثورات وابقاء الامر على ما هو عليه ، او هكذا وسوس لهم الاعلام المشدود بمال الدكتاتوريات الآفلة العائدة . لو كان لهؤلاء من امل غير الثورات لاجبناهم الى خورهم و لحسنا مذهبهم واقبلنا على ادعاءاتهم الانتهازية الجبانة ، لكن العالم العربي من محيطه الى خليجه يعلم ان الامل مبتور مقطوع من جذوره مع الانظمة الحاكمة ، وان لابديل عن الثورات ، والجميع يعلم ان عبد الناصر والسادات ومبارك وبورقيبة وبن علي والاسد وولد الطايع وغيرهم بشروا بالديمقراطية الرشيدة الرزينة المتانية ، كان ذلك قبل عقود وبعضها قبل اكثر من نصف قرن ، تحدث السادات في بداية السبعينات عن عشيرة التمكين للديمقراطية العقلانية فما لبث ان ذهب وخلف لنا مبارك ، وتحدث بورقيبة في بداية الثمانينات عن التجربة التونسية والخطوات الفعالة نحو البناء الديمقراطي وما لبث بدوره ان ذهب وخلف لنا بن علي ، ولد الطايعة ايضا بشر بسيادة الديمقراطية واعلن اقتراب موريتانيا من مصاف الدول التي تسودها الحرية والديمقراطية ، وهاو الجنرال ولد عبد العزيز يرتع في ربوع نواكشوط ، ما زالت كلمات الملك حسين الجميلة عالقة في الاذهان ، وهو يبشر باردن المؤسسات ويتفاعل ايجابا مع الدستورية الملكية ، واليوم وبعد عقود يقضم عبد الله من هامش الشعب الضيق ويدثر ملكه العضوض ، لم تكن كلماتهم ووعودهم الا حبوب مسكنة يروضون بها الشعوب ويجرعونها الامل الواهي . كان الامر في غاية الغرابة ، كيف يكذبون جهارا نهارا ، ويعلنون ان الامة في خير وفير ، وبحبوحة غير متناهية ، من اين اتوا بهذا الافك ، وكيف سمحوا لانفسهم بتمجيد الطاعون ، وحذروا من زوال نعمة الظلم والقهر والفقر . تدريجيا علمنا انهم استعملوا معنا الصدق الخبيث الماكر ، نعم لقد كانت دبي وابو ظبي والرياض ..تعيش في رغد من العيش ، كانوا يخشون على نعم خلفان والوليد بن طلال وآل نهيان وآل مكتوم من الزوال ، لقد كانوا يدافعون عن بحبوحتهم ، لكن الغريب ان سياسي مغفل من سليانة واعلامي غبي من بنزرت ونقابي ابله من القيروان ، قاموا يؤزهم غبائهم فطعنوا في الثورة لحماية ثروة الامراء والمماليك. نصرالدين السويلمي