كنّا نعتقد أنّ سياسة الحوار والوفاق الوطني التي وقع انتهاجها بعد الثورة قد ألّفت بين قلوب التونسيين ووحّدتهم بما آل إلى صياغة دستور توافقي منفتح على الحرّيات بشكل لافت قد حسمت خلافاتهم وولّت وجهتهم جميعا إلى العمل والنّضال من أجل تحسين مستواهم المعيشي باعتبار أنّ الحقوق والحرّيات أضحت مكفولة بعد تضمينها صلب الدستور. ولكن اعتقادنا لم يكن صائبا، إذ تبيّن لنا أنّ بعض النّاس -على قلّتهم- لا يزالون يعيشون على أطلال الاستبداد، فهم يفكّرون بعقلية المستبدّ، تماما كم لو كان المخلوع لا يزال بيننا يأمر وينهى بأمره. كما أنّهم لا يزالون يفكّرون بمنطق الترف والحقد الإيديولوجي ومنطق التعالي والإقصاء، ولا يزالون يسعون للقفز على ثقافة البلاد والعباد بدون خجل ولا وجل و"بصحّة رقعة". فهؤلاء القوم لا ينفع معهم منطق الحوار والتوافق واللّين والجنوح للّتي هي أقوم وللّتي هي أسلم. وينطبق عليهم المثل الشّعبي : "كثرة الدلال يخلّف الهبال" و "كثّر من العسل يمساط" وللتذكير فقد كان هؤلاء، في زمن الاستبداد، يتخفّون وراء الحملات التشويهية التي يسلكها المخلوع، والتي تشيع في النّاس بأنّ الإسلاميين متطرّفون وإرهابيون ويتخفون وراء اللّحية ووراء الحجاب لأجل الانقلاب على الحكم-وكأنّ الحكم والسّلطة هما قدر بن علي وحده دون غيره – ثمّ ما لبثوا أن انخرطوا في منع اللّحية والحجاب وفي سياسة تجفيف الينابيع بحجّة وبتعلّة قطع الطريق على الإسلاميين المتطرّفين. وعندما ثار الشّعب عليهم وعلى كبيرهم في يوم مشهود وفي ثورة وملحمة عظيمة ركنوا قليلا ثمّ ما لبثوا أن برزوا من جديد متخفّين هذه المرّة وراء القوانين واللّوائح الدّاخلية للمؤسّسات. ومن شواهد ذلك أن خرج علينا قائد طائرة في شركة تونس الجويّة بتخريجة جديدة مفادها ضرورة الامتثال للّوائح الدّاخلية. وطبقا لذلك فقد أنزل إحدى المضيّفات من الطّائرة بحجّة عدم الامتثال لأوامر قائد الطّائرة بنزع الحجاب. وبديهي أن هذا الطيّار لا يتصرّف من تلقاء نفسه بل وراءه آخرون. لذلك فما إن أقدم على هذا الصنيع التعسّفي -من مخلّفات الماضي- حتّى تتالى بقية السّحرة في قنوات العار والاستحمار على استكمال المهمّة الدنيئة و تزيين الأمر للنّاس وتصويره وكأنّه يتطابق تمام التطابق مع القانون واللّوائح الدّاخلية ؟ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا قمنا بثورة أذن ؟ ولماذا سخّرنا وقتنا وجهدنا وحوارنا الوطني لإنجاز دستور جديد إن لم يكن لغاية القطع مع الممارسات الاستبدادية وإلغاء كلّ اللّوائح والقوانين الدّاخلية المتعارضة مع ثقافة المجتمع والتي كرّسها النظام البائد على مدى سنوات الاستبداد ؟ لقد أثبتت الوقائع أنّ هؤلاء القوم -على قلّتهم- لا يستندون إلى منطق ولا إلى قانون أو لوائح وإنّما يندفعون وينطلقون من مرض أو حقد إيديولوجي دفين في قلوبهم. والمؤكّد أنّ هذا الحقد لن يتخلّوا عنه ولن يتخلّى عنهم حتّى يقتلهم ويقضي عليهم همّا وغمّا وكمدا. إنّ مثل هؤلاء كمثل الشيطان الذي ملأ الحقد والحسد والتكبّر قلبه حتى أرداه في أسفل السّافلين ولم ينفع معه حوار. "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" (الأعراف 12). ثمّ أصرّ على العناد والتكبّر والتمادي في طريق المواجهة. " ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ" (الأعراف 16). فإذا كانت الاستعاذة من الشيطان الرجيم كفيلة بتغييبه وإبعاد شروره عنّا : "وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ" (المؤمنون) . فإنّ الحلّ الوحيد مع شياطين الإنس إنّما هو الاستعاذة من شرورهم والذّهاب إليهم في مقرّات عملهم والتوجّه إليهم وقصفهم بكلمة "إرحل" "degage" والإصرار على المناداة بها بحزم حتّى يتحقّق رحيلهم كما رحل مخلوعهم وصنمهم قبل أربع سنوات. ذلك أنّ كلمة إرحل تخنسهم وتحرقهم كما تحرق الاستعاذة بالله الشيطان الرّجيم. وعليه نناشد جميع المواطنين والخيرين ومختلف مكوّنات المجتمع المدني التوافق -وعلى جناح السّرعة- على موعد للاستعاذة من قائد الطّائرة ، قولا وفعلا، وذلك بخلعه من المسؤولية التي لم يقدرها حقّ قدرها. فإذا كانت اللوائح الدّاخلية لشركة تونس الجوية المصمّمة على مقاس الاستبداد والتي أكل عليها الدّهر وشرب، تجيز له ولأمثاله إنزال مضيفة متحجّبة من الطّائرة بحجّة عدم الامتثال ل"واجب" نزع الحجاب، فإنّ اللّوائح والقوانين والفصول التي ضمّنت في الدستور إضافة إلى اللّوائح والشعارات الشعبية الثّورية -الشعب يريد ... ، إرحل -، تجيز لنا بل وتلزمنا بخلع هذا الطيّار من وظيفته وإخراجه من الطّائرة وإلحاقه بمخلوعه إن لزم الأمر. و"ما دواء الفم الأبخر كان السواك الحار". فيا أيتها الجماهير الثورية ثوري لمروءتك ولنخوتك وهبّي هبّة شعبية قوية تضاهي هبّة ونخوة المعتصم. منجي المازني