أفهم أن يأتي الشيب في سن متقدمة، بعد سن النضوج، وفي مرحلة متأخرة من العمر ، وأتفهم أن يشيب الرأس قبل كافة الأعضاء، لكن أن يتكاثر كالفطر في رأسك ولحيتك وصدرك، ثم يشتعل في سائر أطراف جسدك وأنت لم تبلغ أربعين عاماً بعد؛ فإن أي تفسير بيولوجي أو نفسي لا يمكن أن أفهمه أو أستسيغه أو حتى أستوعبه . الحقيقة الوحيدة التي أؤمن بها، وأتعايش معها أن يكون صورة من صور أقدار الله فأحمده عليها. والباحث في أسباب الشيب المبكر في تاريخ الشعر العربي، فإنه لن يعدم أن يكون أحد حالين ذكرها أبو نواس في بيتين مختلفين أولها: وما إن شبت من كبر ولكن ××× لقيت من الحوادث ما أشابا فيما الآخر : شبتُ طفلاً ، ولم يحن لي مشيبٌ ××× غير أن الهوى رأى أن أشيبا لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن أؤكد أيهما كان الباعث والمسبب لهذا النبات الأقحواني العجيب بالنسبة لي : أهو (حوادث الدهر) أم ( حوادث الهوى)؟ وإن كانت الأخيرة ضحاياها أكثر .ولقد حاولت أن أتعامل مع هذا الشيب بشتى الوسائل الدفاعية منها والسلمية، فقد حلقته فعاد أكثر غزارة كحقول ذرة، وقصصت منه فلمع أكثر كنشارة فضة؛ باستثناء الصباغة والكتم، فقد هربت منهما مقدار هربي من الشيب نفسه؛ ليس لحساسية دينية أو حتى جلدية، ولكن لأن هذا الشيب الطارئ أولى ألا يعالج بأسلوب طارئ أيضاَ، وعلاج الآثار لا يغني عن درء الأسباب، وكنت مؤمناً بأنه يجب أن أعالجه بأساليب أخرى، بالتصالح معه مثلاً أو الاستسلام له حتى، فالمواجهة لا تجدي، وما نقاومه يستمر، كما تقول قوانين الجذب. قد يكون من المنطقي أن يحدث الشيب حين يوهن العظم، كما حدث مع سيدنا زكريا عليه السلام؛ الذي تفاجأ ببشرى الولد بعد أن بلغ من العمر عتياً، وربما يكون من المعقول أن يحدث حين توهن همة الرجل أيضا، كما يقول القصيبي (ما الشيب أن تفقد الألوان نضرتها ، الشيب أن يسقط الإنسان مندحرا ) ومن الطبيعي أيضاً أن تقل مادة الميلانين المسؤولة عن سواد الشعر لسببٍ ما؛ لكن الذي لا يتقبله المجتمع أو يعترف به هو أن تشيب المرأة، أن تتحول الى البياض، لأن معنى ذلك أنها شاخت، وحينما تشيخ المرأة، تهرم الأشياء، وتذبل الزهور، وتتحول الحياة إلى حدث غير سعيد؛ لأن الأنوثة التي تدل على النضج والامتلاء لا يتوافق معها الذبول والانكسار، ولذلك لم يكن من الغريب أن تطير وسائل الاعلام بخبر الشعرات البيضاء القليلة التي ظهرت في شعر الحسناء البريطانية كيت ميدلتون، فتتصدر الصفحات الأولى للصحف والمواقع الإخبارية، فأصبح يمثل هاجساً لها منذ ظهر هذا الزائر الغريب . ربما الشيء الوحيد الذي لم يقلقني – وأقلق كل أشيب- نظرة الآخر له، والآخر هذا لا يعدو أن يكون سوى الأنثى بما أن الحديث جنح إليهن، رغبة في التودد والتجمّل لهن على الرغم من ( إن الصبابة بعد الشيب تضليل ) كما يقول ابن الطبيب، وأنّ( كل ذي صبوة بالشيب معذول) كما يؤكد ذلك البصيري !إلا أنك تراهم يحيكون القصائد في كل وادٍ، ويستحدثون المعاني لهن في كل نادٍ؛ إما مدحا في المشيب لذاته، وإما الثناء على مآلاته، وقائمة الشعراء المادحين له، أوالمعتذرين عنه لهن تطول بعدد الشعرات البيضاء في لحاهم، لذلك يتساءل المتنبي وهو أشهرهم: أرعتك رائعة البياض بعارضي؟! لو أنها الأولى لراع الأسحم وعلى الرغم من أن أبا الطيب يحاول أن يقنع مخاطبته – ولا أظنه جاداً- بأن الشعر الأسحم أشد رعباً وسوءاً من البياض الدال على الطهر والنقاء ،ولو كان مقتنعاً بنظرية الألوان هذه في قرارة نفسه ، لما دعا عليه يوماً -أي الشيب- بقوله: أبعد بعدت بياضا لا بياض له ××× لأنت أسود في عيني من الظلم لقد كان الأولى لهذا الفيلسوف أن يعترف بالهزيمة، انتصار العمر عليه، حقيقة الموت، لكن كيف بالذي واجه جيش فاتك الأسدي أن يصنع ذلك مع أنثى؟! هيهات هيهات أن يقر عمّنا (الضخم) بلحظات الانكسار والضعف كما فعل ابن المعتز ، حين تجلّى معترفاً في قصيدته ذات البيتين: مضَى من شبابِك ما قد مَضَى ، فلا تكثرنّ عليك البكا و شعلَ شيبكَ مصباحهُ ، ولستَ الرّشيدَ، أما قد تَرى عن نفسي التوّاقة إلى السواد، فإنني تصالحت مؤخراً مع الشيب، واعتبرته واعظاً وجرس إنذار مبكر، وهو إلى دعوته في تأمل الحياة والموت، أعظم من أن يكون باعثا على السأم والخوف والحزن، إنه يفسر الحياة بوجه مختلف، بفلسفة مغايرة للسائد، وكلما دعتني الغفلة إلى ريبة، تأملت نفسي في المرآة؛ لتكتمل حكاية النذير الصامت، وكلما هممت بسوءة تذكرت البياض والكفن وبيت الألبيري: الشيب نبّه ذا النهى فتنبّها ××× ونهى الجهول فما استفاق ولا انتهى