تقرير موجز ظهر على الصفحات الأولى لجريدة محلية في تونس، وخلص بالاعتماد على رواية منقولة لم يعرف مصدرها بعد، إلى استنتاج بالغ الدقة والخطورة على أن تنظيم الدولة المعروف اعلاميا ب»داعش» حقق اختراقا واسعا لاجهزة السلطة وصار يستقطب الشيوخ الطاعنين في السن والمنتمين لمؤسسات الدولة الرسمية، وعلى رأسهم مفتي البلاد. اما الدليل الذي قاد الصحيفة إلى مثل ذلك الاستنتاج المفزع فهو على غاية من الغرابة والبساطة ويتمثل في امتناع المفتي وهو الشخصية المحورية والوحيدة التي دار حولها التقرير، عن مصافحة المديرة العامة لشركة الطيران التونسية «التي تركت مكتبها وهبت للترحيب بسيادته على هامش الزيارة التي اداها رفقة وزير الشؤون الدينية لمركز اقتناء التذاكر واقامات الحج» مثلما ذكر بالحرف، تفسيرا لحيثيات الجريمة الخطيرة والتصرف غير اللائق الذي وصف بالاهانة الكبرى والفضيحة، قبل طرح تساؤل محسوم الجواب عن الفرق بين «الفكر الذي يحمله المفتي والفكر الذي يحمله داعشي يقتل المرأة في ليبيا والعراق وسوريا لمجرد انها امرأة». ومن الطبيعي أن يكون الرد المتوقع والمنتظر في مثل تلك الحالة، أي تفسير آخر عدا القول بوجود فرق بين الفكرين والحالتين، وأن مجرد رفض مصافحة امرأة، في حال ثبوته طبعا، لا يساوي او يعادل بالمرة قتلها واعدامها، وما يبرر ذلك هو ان اختراق اعلام اوركسترالي مشحون يهب دفعة واحدة للتشهير بفضيحة قومية كبرى، تحصل عشية احتفال رسمي بعيد المرأة، وهي ذكرى اعلان الرئيس الراحل بورقيبة قبل ما يناهز الستين عاما عن وضع تشريع جديد يمنع تعدد الزوجات، ويمنح حقوقا غير مسبوقة للمرأة التونسية، يعد مخاطرة شديدة الوعورة وتجاوزا صارخا لديمقراطية لا يتسع مداها الا لرؤية مسطحة يقدم من خلال زاويتها الضيقة والوحيدة اشرار لا مجال مطلقا لإبداء مشاعر التعاطف او التضامن الادنى معهم وأخيار لا سبيل البتة لانتقادهم او التشهير باخطائهم مهما كثرت او عظمت. الإشكال الحقيقي هنا ليس في تبرئة المفتي او في تجريمه بقدر ما هو في موجة الاحكام الجزافية التي تظهر بين الحين والاخر، لغرض تشويه صورة الرموز الدينية والثقافية ووضعها في تناقض وتعارض صارخ مع الحداثة، وتقديمها للجمهور ككائنات غريبة الشكل والفكر قادمة من العصور الحجرية، بكل ما تعنيه من جمود وتكلس ومعاداة مطلقة لسياق الزمن والحضارة. ولاجل ذلك فلا حاجة تدعو بنظر المطلقين والمروجين لتلك الاحكام لسماع المفتي، أو معرفة رأيه الشرعي او الفقهي او حتى الدوافع التي قادته، في حال ثبوت واقعة الرفض إلى سلوك ذلك الموقف المخالف لقواعد اجتماعية، لا احد امتلك شجاعة البحث عن اصولها او طريقة تطبع الناس والمجتمع بها. ما جلب انتباههم وغضبهم فقط هو خرق الشيخ الذي يقود مؤسسة دينية رسمية لقواعد سير فرضت بالترهيب والترغيب، منذ استلام ما يعرف بالدولة الحديثة لمقاليد السلطة، وبدء الحديث عن فكرة امة تونسية، ظل الزعيم الراحل بورقيبة يروج لها باستمرار على امتداد سنوات حكمه. وما كانت تحاول تلك الفكرة اثباته بشتى الطرق والاساليب هو أن تونس قطعة اصيلة من اوروبا، وان الأواصر التاريخية والجغرافية التي تشدها بالمحيط العربي والاسلامي واهية، وتحوم حولها الشكوك والظنون، وأنه لا ينبغي في كل الحالات أن يكون لها اثر او قيمة، لا داخل المجتمع ولا صلب اجهزة الدولة. ما فعلته سنوات الحكم الطويلة لبورقيبة وسلفه بن علي بعد ذلك هي انها فسحت المجال لظهور اجيال باكملها لا تعرف أو تدرك شيئا يسمى هوية او انتماء وتعاني انفصاما حضاريا وثقافيا مرعبا. كان ارتفاع حالات الانتحار او نسب الالتحاق بالجماعات المقاتلة في اكثر من مكان سماته الاشد وضوحا وبروزا. ومن الطبيعي في تلك الحالة أن يتحول الدين إلى مجرد عادة او سلوك اجتماعي لا طعم له ولا روح، وان تبقى المؤسسات الرسمية التي جعلت في الظاهر لرعاية شؤونه في قطيعة تامة مع الواقع وشبه مجهولة ومنبوذة لدى قطاعات واسعة من الناس. فالظهور الوحيد مثلا للمفتي ظل مقتصرا على الاعلان عن بدء او نهاية شهر الصيام، اما باقي الهيئات مثل المجلس الاسلامي الاعلى فباستثناء اشرافها وادارتها لمطبوعة محدودة الرواج كان النظام يسوقها في الخارج اكثر من الداخل من باب الدعاية لتمسكه بالاسلام، لم تكن سوى هياكل خاوية تجتمع مرات معدودة في العام لاصدار بيانات الشكر والولاء للسلطة. وكل ما حصل بعد عاصفة التغيير الموسمي لقشرة النظام وارتدائه ثوب الديمقراطية هو أن المؤسسات الرسمية بدأت بالخروج من سباتها الطويل في محاولة لاستباق موجة بدأت تهدد بالإطاحة بها، ما جعلها تبادر إلى تسجيل مواقف تبدو بطولية بالقياس إلى الظرف العام والى محدودية ادوارها. لقد سمع الناس قبل اسابيع عن رئيس المجلس الاسلامي الاعلى الذي تجرأ وكتب رسالة إلى مدير الاذاعة الرسمية، فقامت الدنيا ولم تقعد لتتم اقالته بعدها مباشرة على الفور، ثم ترتفع الاصوات داخل تونس للمطالبة باكثر من ذلك، اي بحل المجلس برمته بدعوى ألا جدوى او طائلا من بقائه. الجرم المشهود للرئيس المقال كان بحسب ما شرحه مستشار رئيس الحكومة المكلف بالاعلام هو «انه لم يقم باعلام رئاسة الحكومة مسبقا بالرسالة التي وجهها إلى مؤسسة الاذاعة التونسية وبمضمونها خاصة انها تحتوي على استنتاجات واتهامات خطيرة يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة». هل كانت رسالة حربية تدعو للابادة وقطع الرؤوس؟ ام صارت مجرد الكتابة لحراس المعبد الاعلامي المغلق جريمة في عرف الحريات؟ لقد اشار النص الذي نشرته بعض الصحف المحلية على نطاق ضيق الى «ان المجلس الاسلامي الاعلى تلقى عددا من الرسائل والمكالمات بخصوص بعض البرامج، مثل البرنامج الذي يقدمه يوسف الصديق تحت اكثر من عنوان يتناول فيه تحريفا متعمدا لمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية، ويبدي اراء ينسبها لنفسه، وهي في المجمل اراء لبعض كبار المستشرقين المعادين للاسلام… ومن اجل الحفاظ على مشاعر المسلمين وحقوقهم في حماية عقيدتهم، فاننا نتقدم اليكم بضرورة النظر في موضوع هذه البرامج الهادمة للامن الثقافي والعقدي وتشويه معنى الحرية الحقيقية المسؤولة …»، تلك الكلمات لم يكتبها مواطن عادي بل صدرت عن دكتور مختص في الشريعة وواحد من علماء الدين، قبل أن يكون رئيسا لهيئة استشارية لرعاية شؤونه والحفاظ عليها، وكان مطلوبا من السلطات أن تهتم بفحواها وتسارع بفتح تحقيق في ما قيل انه تحريف متعمد لمعاني القرآن والسنة، ولكن ذلك الامر لم يزعجها على ما يبدو بقدر ما ازعجها أن المرسل لم يشعرها مسبقا برغبته في الكتابة وبفحوى ومضمون ما كان يريد قوله. اما ما يعنيه ذلك ببساطة فهو انه ينبغي على علماء الدين الذين يعملون بالمؤسسة الرسمية، إما الالتزام بالصمت والانضباط التام لقواعد القطيع، أو انتظار اشارة السلطات بالحديث فيما تحدده هي وتختاره من مواضيع ومسائل. ألم يكرر الرئيس الباجي قائد السبسي في اكثر من مرة ان» الثورة لم تقم من اجل تعدد الزوجات ونواقض الوضوء» في اشارة تهكمية إلى استبعاد الدين من اي دور مستقبلي في التغيير؟ اذن لا سبيل ابدا لكسر المحرمات التي وضعها النظام وفي المقابل لا مشكل على الاطلاق في كسر المحرمات التي رسمها الدين باسم الحداثة والتجديد والانفتاح والاجتهاد وغيرها من المرادفات التي ظلت تتردد على مسامع التونسيين لاكثر من ستين عاما، ولا تعني او ترمز لهم شيئا اخر سوى الاستهانة بالدين وبرموزه. ولاجل ذلك لم يكن غريبا أن يصرح رئيس الحكومة منتصف يونيو الماضي في مقابلة مع التلفزيون الرسمي بان هناك «برنامجا خصوصيا لتنظيف المساجد من التكفيريين الذين يقومون ببث الافكار المتطرفة والمسمومة في صفوف الشباب». اما التنويريون والمتشبعون بقيم الدين ومعانيه فلا احد تحدث عنهم او حتى فكر في منحهم فرصة عابرة ومحدودة للظهور امام الجمهور. انهم ضحايا آلة اعلامية جبارة تترصد فضيحة تطيح بالشيوخ وتجعلهم يندثرون مثل الغبار وتخاف بالمقابل حد الرهاب فضيلة قد تخرج على حين غفلة من جلابيبهم لكتشف زيف دولة صادرت الدين مثلما تصادر بضاعة او سلعة. أما إلى متى يستمر ذلك والى اي موقف او وجهة يميل التونسيون فذلك ما لا يستطيع احد أن يحسم فيه الان بالكامل، مادامت الصور والتقارير التي تظهر امامهم مشوشة ومليئة بقدر واسع من الحيرة والغموض الذي لم يبدده التقرير الصحافي الاخير حول مفتي البلاد بقدرما زاد في تعميقه وتأجيجه. ٭ كاتب وصحافي من تونس