لا أدري لما أصبحت كثيرا أتأمل كلمة "إنسانيّة " أو أيّة كلمة تنبثق من هذه الكلمة أو تفضي إليها، لا أعرف لما أتنفّس بعمق شديد عندما أقرأها أو عندما تأتي على بالي، ولا أعرف لما تتراءى أمام ناظري صور بشعة جدا بل مخيفة إلى حدّ كبير حول ما يقوم به الإنسان ضدّ أخيه الإنسان من ظلم وقتل وتهجير وتشريد وتجويع ورعب وخوف... من تخلّي وغدر وكره... لا أدري أيضا لما لا يسعى بنو الإنسان ليكونوا معا يدا بيد طالما خسروا الكثير مما يفعلونه ببعضهم بعضا.. لماذا يكرهون الهدوء والاستقرار والحب؟؟.. لماذا لا يصرفون جهدهم ويسخّرونه للسّلام والأمان بدلا من المشاحنات وما تقود إليه من تدنّيات لامحدودة ولا محصورة؟؟.. أين هي الإنسانيّة أمام رضيع جائع ويتيم ضائع؟؟ كلمة "الإنسانيّة" ومشتقاتها أنهكت تفكيري كثيرا، أجبرتني وبشكل مفاجئ على البكاء، حرّضتني في بعض الأوقات وربّما في معظم أوقاتي على الانطواء، أقصتني أحيانا كثيرة عن الأقارب .. عن الجيران والأصدقاء، أرعبتني ممّن كانوا في يوم من الأيام أقرب الأقرباء .. هذه الكلمة لم تقودني لأكتب في وقت عادي جدّا إنّما قادتني لحالة من الأرق الذي انتابني وسيطر عليّ وأذهب النوم عن عيني لأيام متتاليّة ما جعلني أبدأ مقالي هذا في الرابعة فجرا أطرد بكل كلمة من كلماته النوم عن عيوني وهي تقاوم النّعاس رغما عنها . عبارات كثيرة "كلنا بني آدم ولكن من منّا يستحق لقب إنسان"،"كثيرون على قيد الحياة قليلون على قيد الإنسانيّة" لا أدري عن قائلها وهناك أيضا "ما أكثر النّاس وما أندر الإنسان" لميخائيل نعيمة الشاعر الذي رحل قبل أكثر من عشرين عاما ولا نعلم متى قالها أو ما الأمر الذي دفعه لقولها خاصّة أنّه لم يكن يومها يحدث ما يحدث اليوم، فلا الأسلحة والمعدّات والمتوفرات كانت كما اليوم، ترى لو كان نعيمة موجودا اليوم أظنّه سيقول " ما أكثر النّاس لكنّي لا أجد فيهم الإنسان". حياة الرّق والاستعباد والظلم والتجنّي هي في ازدياد، العالم يتطوّر تكنولوجيّا وثقافيّا وهذه الآفات الاجتماعيّة أيضا تنمو وتتكاثر وتتوالد ، كلّ شيء من حولنا يتنافر ولا يتقارب، وإن تقارب فلا يكن إلا على أذى يلحقه بمثيله. مع هذا كله تزداد القصص المرعبة التي تسرد وتنشر هنا وهناك " أب يرمي طفلته من النافذة لأنها تبكي .. أم تحرق طفلها لأنّه لا يأكل.. رجل يترك أطفاله الصغار في الشارع طاعة لزوجته الجديدة.. ابن يودع والديه في دار المسنين نزولا عند رغبة زوجته.. أم تتفق مع أبنائها للتخلّص من أبيهم.. زوج يقتل زوجته من أجل الزواج بأختها.. أب يزوج ابنته القاصر لرجل مسنّ لأنّه ثري.. العثور على رضيع داخل كرتونة في إحدى حاويات النفايات.. أخ يتخلص من شقيقه من أجل الميراث......" قصص كثيرة لن تكفيها بضع صفحات لغرابتها، هذا كله يجعلني أتفكر في عبارة "أحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك" لأجدها لم تعد تصلح في زماننا هذا لقد عكسوها وأقنعوا أنفسهم بأنّ "أحبّ لنفسك فقط وكن أناني ولا تحبّ لغيرك"، أصبح معظمنا عبيدا للمادة والسلطة .. لم يعد بمقدور الجميع التمتع بما حباه الخالق من نعم سواء كانت حسّيّة أو جسديّة لأنّه بات مقيّدا بما فرضته الظروف من حوله، فقد الأغلبيّة الأمل ووجدوا أنفسهم مقيدين بالألم .. بالقهر .. بالحرمان والظلم .. بالخوف والرعب، لم تعد الميزة الإنسانيّة لدى البعض –لا يمكنني التعميم- تظهر إلا وقت المصلحة الشخصيّة، ولم يعد العمل الإنساني يذهب للإنسان كونه أخ في الإنسانيّة إنّما أصبح يسلك طريق هل يستحق أم لا من خلال الرجوع إلى العثرات السالفة والسابقة والتي كانت ستحدث.. لم يعد الحبّ والإيثار موجودا بكثرة، لم يعد الأشقاء فيما بينهم أشقاء تقاسموا الرحم ذاته وتغذّوا على فصيلة الدم نفسه، ولا حتى أحيانا الأب والأم فالإنسانيّة فقدت بعضا من سماتها لدى الكثير من البشر ليحلّ محلها الجشع والطمع، الإنسانيّة يجب أن لا تخضع للعنصريّة ولا للتحييد والانحياز لأنّها بهذا تمتهن حقوق الإنسان. وسط الضغوط الحياتيّة التي نعيشها جميعا دون استثناء أجد أنّ هناك من يمكنه أن يكون إنساني وتتجلى هذه الإنسانيّة في بعض الصور لنجد أنّ "ابنا يحمل والدته أينما حل لأنّه لم يجد من يرعاها، ونرى عامل نظافة ينحني لالتقاط ما يرميه الآخرون على الأرض في عزّ الحر ومن ثمّ يجلس ليرتاح فيسقى قطة من الماء الذي أحضره ليشرب، ونرى طفلة تتصدّق بمصروفها لامرأة تجلس على قارعة الطريق رثّة الثياب... وأب يرسم على رأسه سماعة طبيّة خاصّة بالصمّ كي لا تشعر ابنته أنها تختلف عن الآخرين...." ، الإنسانيّة لم تخلو لكنّ صورها أضحت شحيحة جدا .. في خضم هذا كله أجد أنّنا فقدنا حتى لذّة الابتسامة التي تعتبر صدقة في ديننا الحنيف فهل فاضت حسناتنا حتى استغنينا عنها؟؟ أم هل الإنسانيّة باتت وظيفة لدى البعض من النّاس تمكّنهم من احتواء أوجاع البعض وحضن جراحاتهم أم هي سلعة غالية ثمنها استبدال الراحة بالألم والشعور بحالة من عدم الاستقرار!!.. أم أنّها ميزة يتميّز بها البعض دون غيرهم يقتبسونها ممّن ربّوهم ودرّبوهم عليها منذ نعومة أظافرهم وإن لم تكن كذلك فما هي ماهيّتها؟!!. تمام قطيش