كان التارزي يعبث بقطع القماش بمقصه فيحولها قطعا متفاوتة الأحجام و متنوعة الأشكال ثم يتفنن في رتقها فيجعلها لباس عريس يزينه يوم زفافه أو لباس رجل تعليم يجمل مظهره أمام تلامذته أو قميصا يرتديه شاب يوم عيد فيظهره أنيقا جذابا ... إهتم الرجل بهموم الوطن فإنحاز الى أصحاب الهوية و التدين فوجد نفسه معارضا للنظام. كان يقضي يومه في محله يرتزق من جهده و في الليل يطالع و يتأمل في الكتب. عشق الرجل فتاة و دبّ الحب في قلبيهما و نما إلى حد الإكتمال كان إذا رآها خفق قلبه على غير عادته و إذا رأته إحمر و جهها و إرتسمت إبتسامة السعادة على ثغرها. ذات يوم كانت يده تفصل القماش و عقله يحاور حبيبة قلبه في تصميم المسكن و ترتيب الغرف و أسماء الأطفال ... ظهرت أمامه كائنات عجيبة شرسة تريد القبض عليه ففر منها تاركا كل شيء. نجا من شرهم و غادر وطنه و غادر بلاد العرب ليتوقف في بلاد الدوتش. و جففت خطة التجفيف الوصل بينه و بين حبيبة القلب فدب اليأس من الوصل فإختارت غيره. كان لقرارها وقعان متناقضان سر من جهة خوفه من البقاء معلقين إلى أجل غير معلوم و المه ضياع حبه الأول ضاعت كلمات حب كانت صادقة ضاعت خفقات قلب كانت عاشقة ضاعت آمال كانت قابلة للتحقق... دب في شوارع مدينة صغيرة يبحث عن مورد رزق طاف المراكز التجارية و مقاولات البناء و المصانع و الورشات و فجأة وجد أمامه "تارزي الأناقة" كتبت العبارة بالدوتش وقف متأملا و آملا و متسائلا "آه لو أجد معه شغلا ؟" هل يقبلني؟ هل يشتغلون بنفس طريقتنا؟ ترجل داخل المحل فوجد صاحبه دمشقيا تظهر عليه ملامح تدين تزين وجهه لحية أنيقة. سلم عليه و عرف بنفسه و مبتغاه فقبله و سمح له بالسكن في الغرفة الخلفية للمحل فطار الرجل فرحا و سكنته السعادة ... بدأ العمل في بلاد تؤمن بالتعددية في كل شيء فدخلت النساء مع الرجال للمحل يردن إصلاح ثوب أو فصالة و خياطة ثوب جديد. لم يستسغ المسألة فعبر عن إمتعاضه لصاحب المحل فأجابه: نحن كالأطباء يجوز لنا ذلك ... لم تقنعه الإجابة و دفعه الأَمر الى قبول المر. و ذات يوم دخلت المانية شقراء رشيقة حسناء هذبت الرياضة جسمها فإضطرت الى تضيق حزام بنطلونها فإلتجأت إليه لم يكن صاحب المحل موجودا و ليس امامه إلا ان يقيس بنفسه إستأذنها بأدب فلم تر مانعا. كان حزام تنورتها جلدي غليظ لا يساعد على الدقة المطلوبة فعبر لها عن ذلك ببراءته المعهودة ... فأمسكت التنورة من حاشيتها السفلى و رفعتها الى صدرها فبانت الصرة و ما تحتها... صعق الرجل يا إلهي ماذا أرى. غشى عينيه الضباب و إرتعدت مفاصله و كاد يغشى عليه ... خرجت المرأة و بقي الكون مكهربا من حوله فإرتخى على كرسي و عظامه تسطر الى أن جاء صاحب المحل. صرخ في وجهه قائلا: فتواك تلزمك أما أنا غير ملزم بها و شرطي من الان إذا كنت ترغب في بقائي "القياس عليك و الفصالة و الخياطة علي" "واحد يحلب و الاخر يشد القرون" فقبل الشرط خشي أن يخسر أمينا صادقا يحذق صنعته و يظهر تدينه سلوكا جميلا لا مظهرا خداعا. واصل صاحبي العمل ...و لكن الإتفاق لم ينجه من محنة جديدة و أكثر تعقيدا ... مرت فتاة ألمانية جميلة أمام المحل ... لمحته... فعشقته ... شغله حرصه على إتقان عمله عما يحدث في الشارع الذي لا يفصله عنه سوى بلور نافذة كبيرة تتيح للمارة رؤية كل ما في المحل. بينما كانت كل حواسه مركزة على ما بين يديه مرت فتاة ألمانية شقراء جميلة العينين رشيقة الحركة بجوار النافذة فلمحته فتسرب إلى قلبها حبا جارفا فملأه. بهتت فتكلست في مكانها تملؤ ناظريها منه ... لم ينتبه إليها و غادرت المكان تتقاذفها مشاعر فياضة لم تكن تشعر به قبل رؤيته. جن الليل فغرق الرجل في نوم عميق و بقيت بنت الألمان تتفحص الصور التي خزنتها في ذاكرتها لحظة وقوفها قبالة النافذة. رجل أسمر أقرب الى الطول في بلاده قصير في بلادها هندامه يدل على ذوق عال في الإختيار حركات يده وهو يقص القماش تدل على دقة فنان مبدع. شعره أسود قصير خفيف شعر الشاربين حليق اللحية ... طمس الإعجاب كل العيوب إن وجدت. كانت تستحضر الصور مجزأة تارة و كاملة أخرى. فلم تنم إلا قرب الفجر. حان وقت العمل فذهبت مرهقة البدن من السهر و منتعشة بما رأت. مر وقت الدوام رتيبا ثقيلا نظرت الى ساعتها مرارا و تكرارا على غير العادة. كانت رغبتها في مشاهدته قبل أن يغلق الدكان و يختفي فلا تراه هي من عطلت الساعة عن الدوران فثقل الزمن عليها. غادرت الشغل مسرعة فوصلت النافذة لاهثة و ما إن وقع بصرها عليه حتى شعرت بنشوة و إرتياح كبيرين. سمرت بصرها عليه كانت ترغب في تحديث صور الأمس و تثبيت أخرى جديدة. في تلك اللحظة رفع رأسه ملتفتا الى النافذة فوقعت العين على العين فإنطفأ الكون من حولها و لم يبق فيه سواه نورا مشعا فرفعت يدها لا إراديا محيية فرد بالمثل مبتسما. كادت تسقط مغشيا عليها ... كانت ليلتها أطول من الليلة السابقة و أسعد بصورتين مهمتين في الألبوم الذهني ثغر باسم و عينان تنضحان رجولة و فحولة للرجل الذي حلمت به منذ زمن بعيد ... تنفس الصبح حياة في بقية الكون و تنفس صبحها حلما بدأت تباشير تحقيقه تظهر. كان الصباح في الدكان كغيره فطورا بعد الصلاة و قراءة ما تيسر من القرآن ثم مكنسة تكنس الأرض و ترتيب غير المرتب و مسح غبار علق بالنافذة و الأبواب. أما في بيتها لم تكن نسخة صباحها كغيرها من النسخ هذه نسخة جديدة تنضح بمشاعر و احاسيس و خيالات تتموج في كيان فتاة لم تبلغ العشرين من العمر وقفت أمام مرآة تعكس صورتها فلم تكن الصورة هذه المرة ذابلة بل كانت تشع حياة و نظارة ترتب صاحبتها شعرها الناعم و تزيل بالماء و المرهم بعض ما رأته صاحبتها عيوبا و تتعطر بعطر ينعش الأنفاس و يثير إهتمام الرجل. دفعها شغف حبه خارج البيت مسرعة الى الدكان هذه المرة فالوقوف بجانب النافذة صار ماضيا و لم يعد كافيا. دخلت المحل مبتسمة محيية بتحية الصباح فرد ببراءته المعهودة مبتسما بصوته الخافت المعروف مردفا هل تستحقين مساعدة؟ تنهدت من أعماقها كأن الحياة تعود إليها بعد موت طويل. جمعت كل قواها لتسيطر على بدنها المرتعد و قالت إسمي فلانة رأيتك تشتغل هنا فأردت التعرف عليك ... غض بصره بطابشيرة كانت في يده و قال: إسمي التارزي من الجنوب التونسي أشتغل هنا ... أثناء حديثه تحولت حواسها الى اذان صاغية تسجل صوته بدقة عالية الجودة. مدت يدها مصافحة قبل المغادرة ففرضت عليه من حيث لا تشعر أن تلامس يده يدها و خرجت مسكونة فرحا و سعادة و أشياء أخرى ... مرت عطلة اخر الأسبوع أثقل من الجبال عليها ترددت خلالها مرات عديدة أمام الدكان لعلها تظفر برؤيته و تطمع في سماع صوته لكنه لم يكن في المحل. و كانت "الويكاند" تمر كالبرق الخاطف بالنسبة له لوجوده مع رفاق دربه من الذين شردتهم عصا الجبروت خارج الوطن. وقفت مرارا قبالة النافذة تناديه بإسمه متحينة في كل مرة فرصة الإلتفات إليها فتقبل يدها و تحييه فيبتسم حياء. كان يعرف أن مثل هذه الحركة دارجة في مجتمعها فلم تؤثر فيه. لكنها أرهقت من عدم تجاوبه و من غياب الإهتمام بها فقررت أن ترسل إشارة أقوى من إشارة التعارف السابقة و من كل الإشارات اللاحقة فإقتحمت المحل و عبرت عن إعجابها به. فهم المراد و لكنه لم يهتم فطفح كيلها فكرت عليه كرة أشد و أقوى و أوضح. وقفت أمامه في المحل غير عابئة بحضور صاحبه و رشته ب"رفال" رهيب قائلة ... أحبك .. أعشقك .. مابك تقتلني بتجاهلك لي... لكنها لم تدري أنها أزاحت فوهة بركان متفجر في كيانه فتدفقت حممه مشاعر ملتهبة أقضت مضجعه و أربكت بوصلته و حيرت عقله و أرهقت قلبه و علت بدنه ... و لم يعد لإتفاق " أنت تقيس و انا إنخيط" من قيمة ... قبل أن يصبح صانعا بعدما كان صحاب محلّ و يتتلمذ على يديه صنّاع. تردد على المدرسة في بلاد الألمان يتعلم لغتهم. سمع هذه الجملة "Ich liebe dich" " إِيشْ لِيبِي دِيشْ" و تعني أنا أحبك. فأضحكه نطقها ووجدها كلمات جافة بلا حرارة. فلما سمعها منها أحس بشحنتها العاطفية. فكانت كقنبلة عنقودية تتفجر مشاعر و أحاسيس في وجدانه. تداخلت عليه الخطوط التي كان قد رسمها على قطعة القماش و ارتعدت يده الممسكة بالمقص فرماه و رمى الحلقة التي كانت في إصبعه يدفع بها الإبرة على الطاولة. في هذه اللحظة كانت هي تحثّ الخطى مسرعة إلى بيتها و الدمع يتقاطر من عينيها و غصّة تسدّ حلقها. التفت إلى الدمشقي قائلا: سأتوقف عن العمل الآن و أتمّه غدا إن شاء الله. دخل غرفته في نفس اللحظة التي وصلت فيها هي إلى بيتها فارتمى على سريره و ارتمت على سريرها، كانت سعيدة بما حصل و كان مضطربا لما حدث. بدأت الانفجارات تهزّ كيانه و هو يتأمل الصّور العالقة في مخيلته. شقراء جميلة في سنّ العطاء تقول له صراحة "إِيشْ لِيبِي دِيشْ"، الشّباب في بلده يفرّطون في أعراضهم و مهنهم و عائلاتهم و وطنهم ... طمعا في سماعها من عجوز عقيم و هو يسمعها دون أن يسعى إليها من شابة يسلب حسنها عقول الرجال. مزجت مخيلته الفنية بين سماع صوتها و صورة صاحبة التنورة يوم الاتفاق فدس وجهه في المخدّة لعلها تمتص بعض معاناته. و لكن عوض أن تمتصّ شيئا ممّا هو فيه أدخلت عليه صورة عائلته العفيفة الكريمة الطّاهرة النقيّة فصاح: لن أكون الباب الذي تدخل منه الرذيلة بيتنا. لم ير فيها الجسد الجميل الجذّاب فقط، بل رأى فيها الإقامة و جواز السفر و العمل صاحبَ محلّ لا صانعا و رأى فيها التخلص من ملف اللجوء الذي مازال لم يغلق بالسلب أو بالإيجاب و كلا الاحتمالين وارد "إِيشْ لِيبِي دِيشْ". بينما كانت هذه التموّجات المتسارعة المتداخلة تهزّ كيانه أَنّ جسده يريد أن يشبع من جسدها. في اليوم الموالي طلب رخصة بيومين وغادر المدينة الصغيرة إلى كولونيا ولكنّ "إِيشْ لِيبِي دِيشْ" و تداعياتها لم تغادره. قضّاهما مع رفاق دربه طمعا في أن يخفف وجوده بينهم من أثقاله لكنّ "إِيشْ لِيبِي دِيشْ" بقيت مسيطرة عليه فأخرجته مرات عديدة من عالمهم الى عالمها... عاد الى العمل و لكنّها لم تظهر إلا في مخيلته أرادت أن تفسح له المجال ليفكر، هكذا علموها في المدرسة. انقضى يوم العمل و تراجع منسوب الانفجارات في و جدانه. فجلس يستعرض المسألة برويّة بعيدا عن الانفعالات العاطفية. فكّر في معنى أن تتّخذ المرأة صديقا عندهم فوجدها تستسلم له استسلام الزوجة لزوجها خارج الأطر الزوجية و هذه كبيرة من الكبائر يرفضها. فكر في عقد عرفي فرآه مثل فتوى التارزي، كالطبيب يجوز له جس أجساد النساء فضحك هازئا. نظر الى عائلته و بيئته فلمح فيها نشازا فتخلّى عنها. و بينما هو غارق في التفكير سمع في وجدانه "إِيشْ لِيبِي دِيشْ" بصوتها فأزورّ بدنه و وضع رأسه بين يديه... لعب تداول الليل و النهار دوره فخفّت موجات التفكير العاتية وصارت تنتابه على فترات متباعدة. و بدأ كلما حان وقت عودتها من العمل يبتعد عن النافذة لكي لا يراها و لا تراه. دبّ اليأس إليها لكنه لم يقضِ على كلّ الأمل فبقيت تحاول من حين إلى آخر فيردّ تحيتها مجاملا متماسكا في نفس الوقت رغم ما يعقب ذلك من هزات تؤرقه. كان الرجل بارّا بوالدته عندما كان معها و لما هاجر صار بِرُّه مكالمة هاتفية منتظمة يُسمعها صوتَه لتطمئنَّ، و يَسمعها ليطمئن ... وذات يوم دخل "الكابين" ليسمع و يستمع الى أمه فلمحته محصورا في صندوق ضيق، استغرق الحديث كل حواسه فاغتنمت الفرصة ... "كان في "الكابين" يتحدّث مع والدته و حواسُّه كلُّها آذانٌ صاغية لمن الجنّة تحت قدميها. لمحته فلمعت لها فكرة فتسلّلت داخل "الكابين" بهدوء. بقيت خارج التغطية فلم ينتبه إليها و هو يتحدّث حينا و يضحك حينا آخر أسعدها ما ترى. فجأة انتبه إلى و جودها فهز رأسه محيّيا فابتسمت. لم يمنعها استمتاعُها بسماع صوته و ضحكتِه و قربُها منه من ملاحظة التهام الآلة بسرعة للقطع المعدنية و تناقصها من يده. فسحبت قطعا من عندها و مدّت يدها تريد علف الآلة لتضمن إطالة اللحظة التي هي فيها أكثر ما يمكن من الوقت ... فنهاها برأسه لكنّها أصرّت فوضع يده على السماعة و خاطبها قائلا: ما عندي يكفيني لهذه المكالمة ثم شكرها. شعرت بعزّة الرجل فزادت مكانتُه علوًّا عندها، و لكنّها أصرّت فأمسكها من يدها و دفعها بقوة خارج "الكابين" وظنّ أنها ستنصرف بعد الذي حدث، غير أنّها رأت ما حدث بعين أنثى، رأته رجلا عزيزا قويّا فشعرت بأمان لم تشعر به مع أحد غيره فزاد تعلّقها به. خرج فوجدها في انتظاره فمهّد بلطفه المعهود بشرح نوع المكالمة و بيّن لها أنه غير محتاج للمساعدة ثم اعتذر عن دفعها. كانت تنظر إليه و هو يتحدث و بدنها يرتعد وعشقها له يزيد. وأنهى حديثه مستأذنا في الانصراف فصاحت "إِيشْ لِيبِي دِيشْ" "إِيشْ لِيبِي دِيشْ" . مشى و لكنّ تعبيرها عن حبّها له فجر في كيانه ما ظنّ أنّه قرب من التلاشي فإذا به يعود بقوة أكبر مما كان عليه. دخل المحلّ و أوصد الباب خلفه و تمدد على كنبة ثم ترك بدنه واخترق المدن و القرى والجبال والسهول والأنهار وقفز المتوسط ليدخل موطنه وشرع في إحصاء ما سُلِبَ منه. انطلق من الدكان فسجّله و مر بالسوق فسجل أسماء كل من يعرفهم و يعرفونه ثم عرج على بيتهم فأحصى كل أفراد الأسرة و ممتلكاتهم وأفْرَدَ صفحة لحرمانه من برّ والدته و أضاف عدد زيارات قبر أبيه التي كان من المفروض أن يقوم بها كل أسبوع. كانت قائمة المسلوبات طويلة و زوّدها بما مرّ به عندما سجن فأحس بسوط الجلاد يشوي بدنه في مركز شرطة المدينة و مقرّ المنطقة و في أقبية الداخلية و أضاف لها آلام فترة السّجن و آثارها بعد مغادرته... ثم استحضر صورتها في ذاكرته و بدأ يحصي الأرباح التي سيجنيها إذا قبل الارتباط بها فوجد السيارة و المسكن والعمل وجواز سفر ألمانيا و امرأة جميلة يتنقل معها بين المقاهي والحفلات وأماكن الترفيه ويسافر معها في العطل الى بلاد لا يعرفها و مبالغ مالية يرسلها إلى عائلته شهريا ... فوجدها خيرات كثيرة متعددة متنوعة سهلة مريحة نظر إلى حمل المسلوبات فوجدها جبالا من الرصاص الثقيل فاستغرب من قدرته على حملها طوال هذه السنوات ... و نظر إلى المكتسبات فوجدها ناعمة كأوراق الورود و الأزهار خفيفة كالريش حلوة كالعسل. إذا قبلها وجد نفسه خرج مهاجرا و يعود مرتكب كبائر. فانتفض جالسا يقلب الأمور لعله يجد حلاّ ففكر في مغادرة المكان. إذا غادرت المكان خسرت المسكن و العمل وعدت إلى مركز اللجوء أقتسم غرفة مع مجهولين و أعيش مع أناس كثيرين منهم يستهلك المخدرات أو يروجها و فيهم كثير من السراق و سأرتهن بمنحة شهرية بسيطة تعجزني عن مساعدة عائلتي ولو بمبلغ بسيط... "إِيشْ لِيبِي دِيشْ" ... بينما كان وحيدا في غرفة صغيرة في دكان صغير في شارع صغير في مدينة صغيرة يصارع أمواجا عاتية تكاد تدمره لمح بابا فطرقه ... بينما كانت أمواج تسونامي "إِيشْ لِيبِي دِيشْ" تهزّ كيانه و تفجّر براكين متنوعة في وجدانه و تعرض عليه صور التعذيب والسجن وأيّام العمل صاحب محل وزمن بِرّ والدته وزيارة قبر أبيه ونشاطه السياسي وتردّده على المسجد و صور لوحاته الزيتيّة التي كان يرسمها وصور أصدقائه وأفراد عائلته وجيرانه ... ثم تعرض عليه صورتها فيرى فيها الجمال و المال والإقامة والحرية ... وتضيف إلى ذلك صورة خروجه مهاجرا و لحظات عودته في المستقبل "خائبا" ... كانت الصور تتلاحق تَتْرَى متناقضة مصحوبة بصوتها "إِيشْ لِيبِي دِيشْ". في هذا العالم العجيب انتبه فرفع يده قائلا: اللهم اصرفها عني واصرفني عنها و أرزقني الحلال و أرضِنِي به. كانت دعوته دعوة مخلص صادق موقن في الاستجابة. شعر بسكينة عجيبة تغشاه و تزيل براكين "إِيشْ لِيبِي دِيشْ" تدريجيا من وجدانه ... واصل عمله لكنها لم تظهر إلا مرات متباعدات و لم يعد لظهورها ذلك التأثير الرهيب. أمسك بخيط حبّ جديد و سحبه متدرجا فتناغم قلبه مع قلب تسكن صاحبته جنوب المتوسط بنت عائلة أصيلة كعائلته و بنت بيئة كبيئته و بنت ثقافة عربية إسلامية مثله. فاتّفقا على الزواج بعد حصوله على اللجوء كانت وزارة العدل لم تتخذ قرارها في شأنه واحتمال رفضه و تسفيره وارد. وصلته رسالة من الوزارة فتحها وهو يتأرجح بين الخوف والأمل قرأ في مضمونها لقد منحت اللجوء السياسي على أساس المادة 16 و عليه يحق لك السكن و العمل في كامل ألمانيا و يمنحك الحق في الحصول على جواز سفر. استأجر بيتا وبحث عن العمل فوجده ثم رتّب سفرة للقاء زوجة المستقبل. لحظة خروجه من البيت إلى المطار خرجت هي من بيتها إلى المطار في بلادها ركب طائرة ألمانية وركبت طائرة عربية حلقت الطائرتان في الجو وقتا ثم بدأتا في النزول. غادر كل منها الطائرة التي كانت تقله فوجد كل منهما نفسه في مطار دمشق الدولي و في انتظارهما مجموعة من المستقبلين هيّأت لهما ظروفا تليق بحفل زواجهما. بعد عقد القران تحوّلا في لباس الزفاف إلى قاعة تجمع فيها مجموعة من رفاق دربه شرّدتهم خطة التجفيف و معهم ثلة من الشباب الذين جاؤوا لطلب العلم. لحظة دخولهما غنّى الشباب "هل تجلى القمر أم عريسنا ظهر ... ربنا يحفظو من عيون البشر". كانت اللحظة مؤثرة أجال فيها بصره بين الحضور فلم ير أحدا من عائلته فأضافها إلى قائمة المسلوبات... عاد إلى بلاد الألمان وبمجرد وصوله تناول قلما و خط على ورقة العبارات التالية " إلى السيد/ة ... هذا مطلب ضم عائلي مرفوقا بنسخة عقد الزواج و عقد عمل وعقد كراء مسكن ... أرجو الموافقة ... مع فائق التقدير والاحترام" أرسل المسؤول رسالتين واحدة إلى التارزي يقول فيها لقد قُبِل مطلبك لضم عائلتك. و الثانية أرسلت إلى سفارة ألمانيا في بلادها تقول امنحوا تأشيرة لحرم التارزي. وصلته و بمجيء بكر أولاده شعر بأنه ولد من جديد في ظروف جديدة لا قيد فيها لا إرهاب لا استخفاف بالإنسان. ساقه القدر بعدما صار أبا إلى مدينة "إِيشْ لِيبِي دِيشْ" فراها تسير مرفوقة بطفل صغير فأدرك أن الله أغناها كما أغناه فحمده و شكره على فضله العظيم. هرب راعي خطة التجفيف فعاد إلى موطنه فاستقبله كل من أضافه في قائمة المسلوبات من الأصدقاء والأهل ومعهم آخرون كثر. لحظة استقباله أجال بصره في الحاضرين فرأى كل من كان يتوقع حضوره يوم زفافه فرتق صورة يوم الزفاف باللحظة التي هو فيها و أضاف إليها صوت الشباب ينشدون. "هل تبدى القمر أم عريسنا ظهر ... ربنا يحفظو من عيون البشر". فدمعت عينه ... وآخر دعوانا أن الحمد و الشكر لله رب العالمين.
مصدر الخبر : بريد الحوار نت a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=28401&t=" أنت تقيس و أنا إنخيط ..."&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"