مررت بهذه الجملة، وهي في صفحة (صوت الحكمة) [قيل لأعرابي: لقد أصبح رغيف الخبز بدينار فأجاب: والله ما همّني ذلك ولو أصبحت حبّة القمح بدينار، أنا أعبد الله كما أمرني وهو يرزقني كما وعدني...] ----------------------------- قلت: إيمان تامّ عند هذا الأعرابيّ واحترام استثنائي للمواثيق...
وما يبئسنا في بلداننا هو عدم احترام المواثيق... والكلام حول ذلك كثير وثقيل...
واحترام المواثيق يبدأ باحترام ما جاء في الأحرف الكبيرة الأولى لها!... فقد شهدنا - نحن المسلمين - ألّا إله إلّا الله، ومعنى ذلك أنّنا لا نخاف أحدا غيره ولا نخشى أحدا غيره ولا نتزلّف لأحد غيره ولا نتقرّب من أحد غيره ولا نطمع في أحد غيره ولا نشكر أوّلا أحدا غيره ولا نحمد أحدا غيره ولا نرجو أحدا غيره ولا نتذلّل ولا نستكين لأحد غيره ولا نثق أوّلا في أحد غيره!... وقد شهدنا أنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم رسول الله، ومعنى ذلك ألّا نتّبع أوّلا أحدا غيره ثمّ لا نتّبع ولا نقتدي من بعده إلّا بمن اتّبعه واقتدى به بإحسان وألّا تكون لنا الخِيَرة في غير ما جاء به وأن نحرّم ما حرّم علينا ونحلّ ما أحلّ لنا وأن نأتي ما استطعنا ما أمرنا به وننتهي استجابة عمّا نهانا عنه!...
فإذا فعلنا ذلك علمنا أنّ الحرام وأكله مانعان للتواصل مع الله تعالى، مخلّان ببنود الميثاق، فاجتنبنا الحرام وفررنا من آلياته، مستمعين للتعاليم المحمّدية [الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من النّاس]، فاستبرأنا لديننا وعِرضنا، فارّين من منازل الشبهة الملبّسة على النّاس، فلا يكون منّا راشٍ ولا مرتشٍ ولا رائشٌ، ولا مماطل منّا ولا متعامل بربا ولا مطمئنّ منّا لدَين يرهقه فيحوّل نهاره مذلّة وليله همّا مسترسلا، ولا غاشّ منّا في تجارة يزيّن وجه البضاعة فيها ليخفي غائرها ولا في معاملة يحلّيها بمعسول كلام لاحن آسر كذوب ولا في عمل يأكل سائر وقته فيما لا ينفع ولا في علم لا يبيّنه ولا في معلومة لا يدقّقها ولا في نصيحة يجامل فيها ولا يخلصها ولا في صحبة لا يضحّي من أجلها ولا في صداقة لا يعمّقها بالتعرّف أو يصلّبها بالصراحة ولا في أخوّة لا ينقّيها بالإصلاح وبنبذ التباغض والتدابر والتنازع والتناجش... وإذا فعلنا ذلك كنّا حقّا مؤمنين، فتحوّل إيماننا وطنيّة حاميّة للوطن اقتصاديّا وأمنيّا وأخلاقيّا، فلا إضرابات حاطمة للاقتصاد ولا غفلة مشجّعة على الإرهاب ولا شذوذ طارد للحياء والمروءة... وطنيّة تزهّد في وطننا الطامعين وتُخنِس فيه الإرهابيين وتُبلِسهم وتُبئسهم ويفرّ منه المفسدون ويغيب عن شاشات تلفزاته المفتّنون والانتهازيون والملبّسون و"الوطنيون" ويُمنع فيه بيع لحوم "نسائنا" ساقطات في المزاد العلني في "دليلك ملك" أو في "عندي ما نقلّك" أو في الفنادق الإماراتيّة أو اللبنانيّة أو غيرها من مواقع الرذيلة التي لا تليق بالمؤمنين ولا تنسجم معهم!... وتحوّل إيماننا أمّة محبّة لكلّ المسلمين مهتمّين بشؤون بعضهم بعضا يسعى بذمّتهم أدناهم وهم كلّ على مَن سواهم... وتحوّل إيماننا إنسانيّة ترغّب في الخير للجميع، وتساعد على التعارف والتعاون والتواصي بالحقّ!... وكنّا كذلك أعزّة كما كانت العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، فسعينا إلى ما يؤكّد عزّتنا ويحميها، فأخذنا بأسباب القوّة، فكان رمينا دقيقا زاجرا حاميا لكياننا وكان اقتصادنا قويّا يستند على استغفارنا ربّنا جلّ وعلا وكان أمننا نابعا من احترام الغير لنا، وكان اطمئنانا كاطمئنان هذا الأعرابي الذي دفعني إلى الكتابة في شأننا!...
كانت جملة الأعرابي الكريم بمثابة مشروع ميزانيّة حافظة واقية، مبعدة عن المديونيّة المذلّة والتبعيّة المميتة والارتهان المُخزي!... ميزانيّة قد يسخر منها أعداء المسلمين ويستهين بها الكثير من المتخصّصين ممّن تخصّصوا في الحساب ونسوا يوم الحساب فخطّأت الأحداث لهم كلّ حساب!... جملة ثمينة أرى أنّه لن يكون المخرج إلّا بها!... فاعبدوا الله كما أمركم يرزقكم كما وعدكم... والله من وراء القصد...