يكتسب حدث " الهجرة النبوية " أهمية قصوى في التاريخ الإسلامي ، لأنه شكل طفرة نوعية في مسيرة الدعوة الإسلامية ، إذ انتقلت بفضله من الطور المكي بكل ما وسمه من حصار وتنكيل وتعذيب وإهانة ومنع ، إلى الطور المدني الذي عرف ميلاد ونشأة وتكون أول دولة إسلامية مستقرة وفاعلة ، فكان حدث الهجرة إذا إعلانا رسميا عن انتصار دعوة الإسلام في شخص النبي صلى الله عليه وأصحابه عن جبابرة الكفر والجحود والعناد ، ولعل هذا ما يفسر سعي كفار قريش الحثيث إلى منع النبي عليه الصلاة والسلام من الهجرة ، فنقرأ في كتب السيرة كيف أنه " لما كانت عتمة من الليل اجتمع فتيان قريش على باب بيت النبي يترصدونه حتى ينام فيثبون عليه لقتله . "(1) ، وهذا ما جعله يكلف عليا بن أبي طالب أن ينام في فراشه وأن يتسج ببرده ، تدخلت العناية الإلهية وحفظته عليه الصلاة والسلام من كيدهم ومكرهم ، إذ خرج من بيته " وقد أخذ الله تعالى على أبصار الفتيان فلا يرونه ، ثم قصد إلى دار أبي بكر للهجرة معا ، وقد عزما على اللجوء إلى غار ثور للتخفي فيه . "(2) ، وبعدما اكتشف كفار قريش " أن محمدا قد أفلت من أيديهم وأن الذي كان في فراشه هو علي بن أبي طالب ، فكانت مفاجأة لهم أذهلت عقولهم ، فحددوا مكافة أأة سخية مائة من الإبل لمن يرده عليهم ، فينطلق الطامعون في البحث عنه في كل الجهات ... "(3) . والواقع أننا ملزمون باستحضار تفاصيل حدث الهجرة النبوية ، ليس فقط احتفالا بهذا الحدث الذي اختاره عمر بن الخطاب رضي الله عنه للتأريخ الإسلامي ، ولكن لأن ثمة دروسا كثيرة يمكن استخلاصها من مختلف الأحداث التي شكلت ورافقت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، ومن هذه الدروس نذكر ما يلي : 1 _ الرضى : بعدما اشتد أذى قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أذن لهم بالهجرة إلى الحبشة ، فقال لهم _ فداه أبي وأمي _ " لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يُظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه " ، ثم كانت الهجرة إلى الطائف التي قصدها عليه الصلاة والسلام طلبا لناصر من ثقيف ينصره على قومه ، وبعد ذلك كانت الهجرة المباركة إلى المدينةالمنورة ، وهي الهجرة التي كللت بالنجاح والتوفيق ، بعدما أحاطتها العين الربانية بكامل الرعاية والعناية والاهتمام . ومعنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد شيئا ، ولكن الله عز وجل أراد شيئا آخر ، ولعل أعظم درس يمكن أن نستفيد من ذلك أننا في أحيان كثيرة نريد أشياء معينة ، أو نختار أشياء معينة ، ويريد الله عز وجل أشياء أخرى ، لذلك وجب علينا أن نختار لأنفسنا ما اختاره الله لنا ، لأنه عز وجل أعلم بمصلحتنا منا ، يقول عز وجل : " عسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " ، ويقول : " لو اطلعتم على الغيب لوجدتم ما فعل ربكم خيرا " ... إنه درس الرضى بالقضاء والقدر ، والرضى كما يقوا ابن القيم الجوزية : " الرضى باب الله الأعظم ، ومستراح العابدين ، وجنة الدنيا ، من لم يدخله لن يدخل جنة الآخرة . " ، وهو المعنى الذي عبر عنه ابن عطاء الله الإسكندري بقوله : " أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك " . 2 _ الانكسار إلى الله عز وجل : هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بداية إلى الطائف وعرض دعوته على ثلاثة إخوة من سادة ثقيف ، فلم يستجيبوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به بالحجارة حتى أدموا عقبيه ، فلم يجد ملجأ ولا ملاذا إلا الله تعالى فناجاه قائلا : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك . " ، وكل كلمة من هذه المناجاة العظيمة ، وكل عبارة ، تفيض بمعاني الانكسار لله ، والخضوع لجلاله وعظيم سلطانه ، وهذه عبادة قلبية من أعظم العبادات التي يغفل عنها الكثير من الناس . هكذا نتعلم من هذه الحدث معنى عميق مفاده أنه " متى أوحشك من خلقه فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به . " كما يقول ابن عطاء الله الإسكندري ، فإذا أراد الله عز وجل أن يؤنس عبده بذكره ويمن عليه بمعرفته وبالقرب منه أوحشه من خلقه وشغله بخدمته وألهمه ذكره وملأ قلبه بأنواره . إن الانكسار لله عز وجل عبادة قلبية تعني إظهار الضعف التام ، والخضوع الكامل أمام جبروت وكبرياء وعظمة الله العظيم ، وكفى بها نعمة أن تنكسر لله ، وتظهر له الذلة والضعف والفقر ، كلما أغلقت الأبواب في وجهك . 3 _ التوكل : من المعاني العميقة التي نستفيدها من حدث الهجرة ، التوكل ، وهو عبادة قلبية تعني أن يكون القلب متصلا بالله منقطعا عن الأسباب ، وأن تأخذ الجوارح بالأسباب بكل قوة . نقرأ في كتب السيرة كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش هذا المعنى من خلال مختلف التدابير التي اتخذها في إطار استعداده للهجرة ، فقد كلف عليا بن أبي طالب بأن ينام على فراشه ، وبأن يتسجى ببرده ، وبأن يرد ودائع الناس التي كانت عنده ، كما أنه اختار الصاحب المناسب الذي سيرافقه في هذه الرحلة وهو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وكان هذا الأخير قد أعد راحلتين لليوم الموعود ، كما استعان النبي عليه الصلاة والسلام برجل مشرك ليدلهم على مجاهل الطريق ، وفي طريقهما التجآ إلى غار ثور حيث مكثا ثلاثة أيام يئست في أثنائها قريش من العثور عليهما ، ثم أتاهما الدليل بالراحلتين وسلك بهما طريقا غير مألوف من ناحية الساحل قاصدين ( يثرب ) . ولعل أعظم وأهم ما نتعلمه من كل ذلك أن نجعل قلوبنا متعلقة بالله عز وجل ، معتمدة عليه ، مرتبطة به ، دون أن يمنع ذلك الحواس من الأخذ التام بمختلف الأسباب الواجب الأخذ بها . 4 _ اليقين : قال أحمد بن عاصم الأنطاكي : " إن أقل اليقين إذا وصل إلى القلب يملأ القلب نورا ، وينفي عنه كل ريب ، ويمتلئ القلب به شكرا ، ومن الله تعالى خوفا . وقال بعضهم : اليقين هو العلم المستودع في القلوب ، ويشير هذا القائل إلى أنه غير مكتسب . وقال الجنيد : " اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ، ولا يتحول ، ولا يتغبر في القلب "(4) ولعل من أعظم الدروس التي يمكن أن نستفيدها من حدث الهجرة قوة اليقين في موعود الله عز وجل ، وفي موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا سراقة بن مالك بن جعشم يقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم طمعا في المائة ناقة التي خصصتها قريش جائزة لمن رده عليهم ، يفشل في ذلك فشلا ذريعا ، فيعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيظهر أمره وسينتصر ، فيلقي إليهما بالأمان ، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " قل له وما تبغي منا ؟ " قال خذ يا رسول الله سهما من كنانتي وإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت فقال له صلى الله عليه وسلم : " لا حاجة لي بإبلك " فلما أراد سراقة أن يرجع قال له الحبيب : " كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسرى ؟ " قال سراقة : كسرى بن هرمز ؟ قال : " نعم " ، وهذا ما تم فعلا يوم فتح فارس على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهذا ما يعتبر تأكيدا لنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنه الصادق المصدوق الذي لا ينطلق عن الهوى .
(1) _ ( مع الأنبياء في القرآن الكريم ) / عفيف عبد الفتاح طباره / دار العلم للملايين / الطبعة الثانية والعشرين / بناير 2003 / ص : 375 . (2) _ ( المرجع نفسه ) 376 . (3) _ ( المرجع نفسه ) 376 _ 377 . (4) _ ( الرسالة القشيرية ) / عبد الكريم القشيري / تحقيق وإعداد : معروف زريق و علي عبد الحميد بلطجي / دار الجيل _ بيروت / ص : 178 _ 179 _ 180 .