كانت الخطبة الماضية حول الاندماج... نوعان سلبيان هما التخندق والذوبان، ونوع إيجابي هو المتمثّل في مخالطة النّاس تأخذ منهم وتردّ، وتضيف إليهم وتتمسّك بثوابتك، شأنك في ذلك شأن المندمجين من المسلمين الأوائل، جعفر وصحبه، في مجتمع الحبشة زمن النّجاشي... وقد تناول الشيخ سيّد عوض، اليوم 18 مارس 2016، موضوعا ذا علاقة بالاندماج، فتحدّث عن الغربة، وقيّدها بثلاثة عناصر، جريا منه وراء الاختصار وجلبا للفائدة ودعوة للتركيز، فتحدّث حفظه الله عن الغربة من حيث المصطلح والمشاعر في الغربة، وعن غربة الدّين، وعن آداب الغربة... فأمّا الغربة فهي البعد عن الوطن ومفارقة الأهل ومجافاة تراب الميلاد والانقطاع عن مألوف المشاهد... فهي إحساس بالقلّة وربّما بالوحدة... فهي إحساس بغياب الرّكن الأمين والحضن الدّافئ... فهي حالة تُرقّي فيك الحنين إلى الوطن وتُنمّي فيك قريحة الشعر، فتصطفّ مع بلال بن رباح رضي الله - وقد تمكّنت منه حمّى المدينة - تردّد: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردنّ يومًا مياه مجنة *** وهل يبدُوَنّ لي شامة وطفيل فهي كلّ ذلك وأكثر من ذلك، ولا أحد إن كان ذا إحساس، يؤاخذك بذلك وعلى ذلك... وفي إشارة لبقة، بيّن الشيخ الخطيب أنّ حنين المؤمن لا بدّ أن يكون بالأساس وفي المقام الأوّل إلى بيت أبيه آدم، الجنّة، فإنّ ذلك بيتنا... وإنّا إنّما نشهد الغربة بمبارحته، وإنّه علينا مضاعفة الجهد للرّجوع إليه بإذن الله تعالى!... وبيّن - في إشارة خفيّة منه إلى الإعلاميين والسياسيين المتطرّفين في هذه البلاد أحسب - أنّ الغريب يُترفّق به وتوضع عليه يد الحنان ويعطف عليه النازل في قومه، بدل أن يتفرّغ النّاس لمطاردته والتجسّس عليه وسكب ماء الحنظل في عجين عيشه...
وأمّا الغربة فهي عند المؤمن ضرب من العبادة... وهي تنفيذ للتوجيه السامي وهي عنده سمت ووجود ومآل... [كن في الدنيا غريبا، أو عابر سبيل]، وصيّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لابن عمر رضي الله عنهما، ذلك المعتبر من كلام سيّده، الذي ظلّ يردّد معلّما النّاس [إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]... فالمسلم لا بدّ أن يشعر في هذه الدنيا بالغربة وذلك لقلّة نوعه في البدء والنّهاية... وليس إحساسه بالغربة بصارف له عن العطاء والاجتهاد فيه ف[المسلم إذا كان مخالطا النّاس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم]... فلا بدّ أن ينمّي فيه إحساسه بالغربة النّاجم عن ندرة نوعه دافعا يحرّضه على الاجتهاد والاستمرار حتّى قيام الساعة [إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتّى يغرسها فليغرسها]... إصرار على الفعل يعلي قيمته [فطوبى للغرباء]... ولا تعلو القيمة إلّا بإدراك القيمة، فإنّ أعلى ما في الدنيا لا يقارب الغرباء في القيمة و[لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء]... [فطوبى للغرباء]...
وأمّا آداب الغربة فاستقاها الشيخ من سيّد الغرباء - كما وصفه - يوسف عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة وأزكى السلام... فكانت كلّها دروسا وعبرا وتربية للفرد المسلم ولمن أراد الاقتداء به... وقد عدّ منها خمسة أو هي أكثر من ذلك: - حفظ الحرمات... فيوسف الصدّيق وهو بالقصر الملكي، بحضرة الملكة فيه، لم يتّبع شهوته أو يركض وراءها كما يفعل اليوم ضعافنا، بل ذكر فضل ربّه عليه وحفظه في أهله رغم الفتنة والحاجة واليسر في قضاء الحاجة!... [معاذ الله إنّه ربّيَ أحسن مثواي]... أحسن مثواه، فلا أقلّ من أن يحفظه في عرضه رغم تهاون عرضه وضعفه... - حفظ الجميل وشكر النّاس، فإنّ من لم يشكر النّاس لم يشكر الله [إنّه ربّي أحسن مثواي]... وحفظ الجميل يتحقّق كما في الحالة بحفظ الحرمات... بل إنّ أرفع أنواع الجميل حفظ الحرمات... - عدم الخوض في أعراض النّاس... فرغم وضوح الأدلّة واقتناع الملك بزلّة زوجته، واعترافها للنّساء مع إصرارها على الإثم، فإنّ إدخال يوسف السجن لم يكن كافيا ليطلق لسانه خائضا في أعراض من أساء لعرضه، بل لقد اهتمّ بالمقابل بالأهمّ مثبّتا مبادئه في السجناء داعيا إيّاهم إلى أخلاق الغرباء الذين سوف ينالون طوبى بإذنه جلّ وعلا... - التأثير في المحيط بإحداث الإضافة فيه... فيوسف الصدّيق قد حوّل محيطه مدرسة يستفيد منها الجميع، يعرّف بمبادئه السامية، يرغّب فيها بسمته وسلوكه ومعاملته حتّى رآه النّاس من المحسنين... ويا ندرة المحسن في بيئة يعزّ فيها الإحسان إلى النّاس، ويا لسرعة تأثيره في النّاس!... - عدم التأخّر في الإضافة والمشاركة في الشأن العام... فنحن قوم لا نعامل النّاس بأخلاق النّاس بل نعاملهم بأخلاقنا السمحة الكريمة، اقتداء بسجيننا نبيّنا يوسف عليه الصلاة والسلام الذي لم يدّخر النّصيحة بل سارع إلى الإرشاد باتّخاذ وسائل النّجاة، وهو يفسّر رؤيا الملك التي رآها غيرُه أضغاث أحلام لا يقدرون على تأويلها أو لا ينفع بها التأويل!...
كان هذا وغير هذا من المنافع التي جاءت في خطبة الشيخ سيّد عوض، قد أعدت صياغتها بأحرفي المتواضعة سائلا الله أن ينفع بها الشيخ والقرّاء، وألّا يحرمني فضله الكريم... والله من وراء القصد
عبدالحميد العدّاسي، الدنمارك يوم السبت 19 مارس 2016