قد أرّقني، هذه الأيّام، النّظر في الإفلاس والتوقّف عنده والحديث عنه، حتّى إذا رجعت اليوم إلى معجم المعاني وجدتّ الإفلاسَ، الإعلانَ عن الخسارة مع الإقرار بالفشل... ويعني ذلك اقتصاديّا وقانونيّا توقُّف التاجر أو المستثمر (في جميع أصناف الاستثمار) عن الوفاء بديونه والتزاماته... فهو مفلس فاشل عديم النّفع، يمنعه حياؤه وخلقه - إن كان صاحب حياء وخلق - من امتهان الصنعة التي فيها أفلس إلى حين، ويُلزمه ذلك بُعدا عن النّاس المتضرّرين يضمن به على الأقل عدم إصراف النّاس في الدّعاء عليه... فهو الذي أذهب أموالهم وقد كانت قبل البدء وفيرة، وهو الذي قتل طموحهم وقد كان قبل الإفلاس كبيرا، وهو الذي أبطل سعادتهم وقد كانت على النّجاح موقوفة، وهو الذي شتّت شملهم (كاد الفقر أن يكون كفرا) وقد كان من قبل وثيقا، وهو الذي فتن ضعفاءهم وهم يرونه المثل الأعلى، وهو الذي حطّم أركان مشروعهم وقد كان التعويل عليه في استمراريّته ثابتا... وعليه أن يتفهّمهم - إن كان به حياء وحياة - إذا ما وصفوه إلى حين بالحرامي أو المجرم أو غير ذلك من الألفاظ والمصطلحات التي يفرضها الإفلاس والفشل ويقبل به العقل النّاظر في الحيثيات!... وعلى معارفه - إن كان بهم حياء وحياة - أن ينهوه عن معاودة اللعب بالأموال أو اللعب ب"الإفلاس" نفسه فإنّه لعب مَن لا مروءة له!... يخوّفونه من الأموال، يبشّعونها له، يبرزونها - كما هي عند الله يوم القيامة - نارًا تُكوَى بها الجباه والجُنوب، يقدّمونها - كما هي يوم القيامة - من العوامل التي تجعل مسيئي التصرّف فيها من الثلاثة الاُوّل الذين تُسعَّر بهم النّار... عليهم - إن كانوا له إخوة - أن ينصروه، فيضربوا على يديه؛ ليمنعوا ظلمه لنفسه ولأهله وللنّاس كي لا يدخلوا معه في شراكة الخاسرين المفلسين... عليهم أن ينأَوا بأنفسهم عن الإفلاس والخسران!... سأل الحبيب صلّى الله عليه وسلّم صحابته النّجوم عن المفلس، وقد تنبّأ بكثرة المفلسين في زماننا هذا!... [أتدرون من المفلس]؟!... قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا دينار ولا متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُقتصّ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنِيَت حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثم طُرِح في النّار]...
قلت هذا شأن الذي يأتي بصلاته وصيامه، فما بال الذي يأتي بهما جميعا وبِوَقفات على المنبر يذكّر فيها النّاس بالفتوى ويجعل بها "الإفلاس" ابتلاء يتقوّى به المفلسون وقضاء من الله لا يناقشه أو يردّه إلّا ضعفاءُ الإيمان أو المُرجِفون، فيفتن البسطاء حتّى ما يقبلوا من غيره توجيها ولا إلى غيره بعد الله تعالى لجوءً!...
هذا وإنّ وقوفا مع مال الله تعالى (المال العام والخاصّ) بخوف من الله تعالى، لن يجعل الخسارة تتسرّب إليه ولن ينقص أبدا مهما بذل الفاسدون!... فمراقبة المال لا تكون إلّا بمراقبة الله تعالى... ووالله لو راقبنا الله تعالى في جميع سلوكنا ما ترتّبت علينا متأخّرات ولا ثقلت علينا فواتير ولا آخذنا صاحب حقٍّ... ولكنّ فساد الطويّة والرّغبة فيما أيدي النّاس بدل ما عند الله تعالى وبيع الآخرة بالدنيا والعمل على بناء الصورة بدل بناء القيمة التي لا تكون إلّا بالأخلاق الكريمة وبالخشية من الله تعالى، وعدم الخوف من الله تعالى وعدم التوكّل عليه، هي وحدها العوامل التي تؤدّي في هذه الدنيا إلى "الإفلاس" الذي يحتفل بحصوله الفاسدون والمتحيّلون، وتؤدّي إلى الإفلاس والخسران يوم القيامة الذي سوف يردّد أهله بمرارة متوسّلين خزنة جهنّم [ادعو ربّكم يخفّف عنّا يوما من العذاب]!... نسأل الله صلاح الحال، والله من وراء القصد!...