أما سبق لك أن توقّفت مع [أمين المال]، متعرّفا أو متسائلا أو مستكشفا؟!... أما تنامى إلى سمعك الحديث عن [مال الأمين]؟!... أما سعيت إلى التثبّت والتدقيق فيهما لضبط الفوارق بينهما؟!... أحاول في هذه المصافحة – مستعينا بالواقع والمعايشات – مساعدة من فاته الاهتمام بهما، اتّقاء انحرافاتهما ومزالقهما ومخاطرهما!... فأمين المال هي – كما درج عليه القوم – مهمّة إداريّة يتكفّل القائم بها بمسك المال خزينة وبنكا وأوراقا ومستندات ووثائق، ويحرص على ضبطه بمراقبة الدخل والصرف فيه، وهي وظيفة أو مهمّة لا تكون ناجحة إلّا بكفاءة هذا ال"أمين المال"!... وكفاءته عندي لا تعني لباقته في الحسابات أو ذكاءه في ترتيب الأولويات أو تخطيطاته للقادم والآت، ولكنّها تعني مع ذلك معرفتَه لله تعالى ومعرفةً للمال ومخاطره وتوقّيا من كيّه ولفحه ورقابة صارمة تؤكّدها مراقبة الله تعالى في السرّ والعلن!... والحقيقة أنّ هذه الكفاءة قد باتت عُملة نادرة في أيّامنا العجاف هذه، حتّى وقع الخلط بين الحلال والحرام... حتّى باتت أختام الحلال عند البعض نُبوغ في التلاعب بالحرام!... على أنّ أمين المال – وهو يقترف ما يقترف ممّا يخلّ بالأمانة – يظلّ أقلّ خطرا في المجتمع وفي المؤسّسات المبتلاة بحمل الصفة "الإسلاميّة"، ممّا يسمّى [مال الأمين]!... فإنّ تلكم المؤسّسات قد اتّكأ جميعها أو أغلبها على أساس "الوقف"!... والوقف في الإسلام ذو شأن عظيم وله الأهميّة الكبرى في خدمة الإسلام والمسلمين!... وقد دعا الوضع دائما إلى أن يكون للوقف من يدعمه، وهو الذي يسمّى عند النّاس اليوم "المانح"!... مانح المال الذي ينشط به "الأمين"، "أمين الوقف"!... ف[مال الأمين] هو الذي يصنع عموما "الأمين"!... يصنعه صناعة تُرضي المانح وتمكّنه من تمرير أجنداته، دون نظر منه إلى أمانة "الأمين" ودون حرص منه على رغبة المسلمين في أن يكون لأموالهم (إذ الأوقاف هي أموال المسلمين) "أمين مال" يمنع اختلاط الحلال بالحرام!... ومن هنا تُرى خطورة فساد "مال الأمين" مقارنة بإمكانيّة انحراف أو فساد "أمين المال"!... فإنّ الأخير إذا انحرف غُيّر وأُبْعِد وأُتِي بالأتقى والأصلح يعوّضه، وإنّ الأوّل إذا ما انحرف أفسد دون أن يكون للنّاس – إذا ما تواكلوا - القدرة على تغيير "أمين" اختاره "مال الأمين"!... ذلك المال الذي قد يعمل حتّى على الاستقطاب، فيمنع استثمارا غير استثماره وتوفيرَ مال غير ماله، لإحكام قبضته على "الأمناء" ومن ورائهم المسلمين، فيُفسِد القلوب ويسيء الجوار ويقطع الأرحام ويُذكي الخصام ويشيع القطيعة!... يفعل ذلك وأكثر من ذلك حيثما حلّ إذا ما كان متغافلا عن تقوى الله جلّ وعلا أو مدلّسا بها على النّاس، وقد كان يمكنه بالتقوى والانصياع لله جلّ وعلا فعل نقيض ذلك والإسراف في الخير في مختلف المستويات الدنيا والرّفيعة، في المؤسّسات الصغرى أو في مؤسّسات الدّول!... ثمّ إنّه لا يكون الخلاص من الأوضاع المترديّة التي يطغى فيها "مال الأمين" حدّ استبعاد كلّ أمين، إلّا بالتعويل بعد الله تعالى على الذات وعلى المال الخاصّ المكتسب بكدّ اليد وعرق الجبين!... نعم لا يكون الصلاح والأخوّة والتباري في الخير إلّا باستبعاد كلّ "مال الأمين" الذي وإن بدا في ظاهره وبداياته صالحا خيّرا، ظلّ مهدّدا بالفساد والإفساد، وانقلب اليوم أو غدا طاغية يقول كغيره من الفراعنة "أنا ربّكم الأعلى"!... ومنه فقد وجب علينا الترحّم على الشيخ أحمد (أبو لبن) في هذه الدّيار وذكره بخير نرجو استمراره له صدقة جارية!... فقد بلغتني أخبار تحكي عن حرصه الكبير في تربية وقف الوقف من مال النّاس الذين رغبوا في الوقف دون تعويل على "مانح" ينقلب بالأيّام إلى متحكّم في الرّقاب وفي الوقف، مسيطر عليه مستحوذ!... نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممّن يقدّر أمانة المال ومال الأمانة، وأن يقينا الانحراف في الأولى والانحراف بالثانية، والحمد لله ربّ العالمين...