قبل بضع سنوات كانت طائفة من القنوات المحتكرة للساحة الإعلامية في تونس تتبارى في استضافة شيخ خرف أصابه العته ليتقيأ على جمهور شعب تونس المسلم ما استبد به من خلل العقل وخطل الرأي وانعدام الحس وفقدان البصيرة، فراح يشرع لجواز الزنا وعدم حرمة اللواط والسحاق باسم القرآن، مستهزئا بما استقر في عقول مليارات المسلمين عبر قرون التاريخ المتمادية حتى يوم الناس هذا من حرمة ذلك، وساخرًا بما نطقت به نصوصُ الشرع تصريحًا وأشارت إليه تلميحًا وتواردت عليه فهوم العلماء والعقلاء استنباطًا من أحكام منظمة ضابطة لسلوك البشر وتصرفاتهم في خويصتهم وعامة علاقاتهم وشؤونهم في معاملاتهم، مدعيًا أن ذلك كله من صناعة الفقهاء وتلبيساتهم في الدين توطيدًا لسلطانهم على عموم المؤمنين. والقصد بتلك الاستضافات المتتالية لذلك الطاعن في السن الواهن الذهن الهراف في الكلام لم يكن فقط توهينَ أمر الإسلام في نفوس الجمهور من المشاهدين والمستمعين وتجريئ السفهاء والجهلة عليه، وإنما كان الغرضُ الأساسي من نشر ذلك القيء وإشاعة تلك الغثاثات استفزازَ الضمير الجمعي وتوتير المناخ العام في البلاد وبث حالة من الغضب وعدم الرضا تُغري أطرافًا أو أفرادًا بوضع حد لذلك بارتكاب حماقة القتل والتصفية الجسدية لمن باء بذلك القيء وتلك الغثاثة، فيتباكى عليه المتباكون بوصفه ضحيةً لإرهاب الإسلام والإسلاميبن، شهيدًا من شهداء حرية الرأي والتعبير! ولا يخفى ما كان يمكن أن يبنى على ذلك من توظيف سياسي لو أنه حصل، كما لا يخفى كيف تتم عمليةُ الإيحاء للقاتل وتجنيده في الوقت المناسب. ولكن قدر الله وقضاءه كانا أسبقَ من تدبير المدبرين وكيد الكائدين، فقضى ذلك الخرفُ نحبه ومضى إلى ملاقاة حسابه العاجل في قبره انتظارًا لحسابه الآجل يوم القيامة.
واليوم تتبارى تلك القنواتُ ذاتها - معزَّزًَة بما انضاف إليها مما لا يختلف عنها وجهةً وسيرة - في استضافة خَرِف آخر من مدعي العلم والفكر يحمل لقبًا وصفة لاسمه ليس له من معانيهما نصيب، بل كلُّ حاله ومقاله ينطق بالكذب والبهتان. هذا الخرف النزق مضى إلى أكثر مما جرؤ عليه سلفُه الهالك؛ فها هو ذا يعلن وبصرح بكون القرآن خرافةً وكون ما فيه لا صلاحية له وكون النبوة أسطورة وما إلى ذلك من غثاء القول وصفيق الكلام ورذيل الرأي. وهذا المدعي للحداثة يُحظى بالرعاية والقبول والإشادة من رئيسٍ المفروض أنه يحكم شعبًا لا نعلم ولا أحد غيرنا يعلم أنه أعلن التخليَ عن الإسلام والتنكر للقرآن! ومن بؤس هذا الواهن عقلاً الخرف رأيًا المنحط خلقًا أن فرنسا التي رضع من مسموم لبنها خلال إقامته المتطاولة فيها هي نفسُها فرنسا التي نشهد فيها الآن باحثين جادين ذوي علم ومعرفة ودراية يدرسون القرآن دراسة موضوعية وينتهون إلى تقرير أصالته وثبوته تاريخًا وجدارته وتميزه مضمونًا ورسالة وتماسكه وتفرده نظمًا وخطابا. ودونه - إن كان يقدر على القراءة والفهم - ما كتبه جاك جومييه وفرانسوا ديروش وميشال كويبرز وآن سيلفي، على سبيل المثال لا الحصر. ومن وراء هؤلاء وعلى مثيل لما ينهجون كثيرٌ من المفكرين والباحثين العلماء - لا الجهلة الأدعياء - في ألمانيا وبريطانيا وأمريكا وكندا وأستراليا وغيرها. وإنما أحيله وأمثالَه إلى هؤلاء الباحثين من "أبناء البلدان المتطورة التي ضربت فيها الحداثة بأطنابها وحطت رحالها' مراعاةً لما استحكم في نفوسهم من "عقدة الخواجة" ومراعاة للقاعدة التي قررها فيلسوف الاجتماع والتاريخ الألمعي المسلم العلامة عبد الرحمن ابن خلدون والتي مفادها أن المغلوب أبدًا مولع بتقليد الغالب. وبما أنا قد ابتلينا بنفوس مسلوبة مقهورة من داخلها، فعسى أن يقلد هؤلاء شيئًا من محاسن سادتهم وجميل خصالهم. على أن ما قلتُه موجه ابتداء إلى جماهير شعبنا وخاصة شبابنا أن لا يَدَعُوا الكلامَ الساقط الذي يتقيؤه من لا صدق له وأمثالُه يجرُّهم إلى مهاوي العنف والفتنة والاحتراب، فإن ذلك بما يبتغيه أولئك الذين يحركونه ومن هم على شاكلته ممن يسيطرون على الإعلام بمالهم ونفوذهم سعيًا منهم لإشعال الحرائق في تونس وتدمير حياة أبنائها، وهي تستعد للانتخابات البلدية التي لا تبعد عنا إلا رمية رام. كما أوجهه إلى فئات من نخبة الفكر والثقافة والسياسة أن ينتبهوا إلى ما يراد ويحاك من وراء ذلك، وأن يرتقوا بوعي الجماهير في ربوع تونس بكل نواحيها حتى تُحبَط مكائدُ الكائدين ومؤامرات المتآمرين في الداخل والخارج، فتعود عليهم حسرةً ووبالا، وخزيًا وخذلانا. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.