متعفّفة عن السؤال ومدّ يدها للمارّة كغيرها كانت تجلس على حافّة الرصيف في سوق من أسواق العاصمة بعد صلاة العشاء قرب أحد المطاعم تضع بجانبها علبة لوجبة غذائيّة وتمسك بإحدى يديها علبة أخرى تملأها بأصابع البطاطا المقليّة وأطراف سندويشات تحتوي على مسحة فقيرة من المايونيز ورائحة الشاورما أو بعض الأصناف والخلطات الأخرى التي كانت فيها إضافة إلى ما قد تجده معهم من خضروات مقطّعة أو مخلّلات أو حبّات قليلات من الزيتون كانت تنتقيها من عدّة صناديق كرتونيّة جُمعت فيها بواقي طعام تخلّص منه العمّال ووضعوه على بعد أمتار من المطعم بعد أن انتهى الزبائن من تناول طعامهم.. لم أستطع أن أتخطّاها تجرّأت وتقدّمتُ نحوها فخفضت رأسها ونظرت في الكرتونة التي بين يديها وكأنّها تتجاهل وجودي قربها، حاولت على استحياء أن أمدّ إليها شيئا تأخذه فوجدتها خجلة وجلة ثم عادت وخفضت رأسها أكثر فأكثر.. أحسست في قرارة نفسي أنّ لسان حالها يقول لي ابتعدي عني واتركيني أنهي ما أتيت لأجله.. مع تمنّعها تجرّأت أكثر، نزلت إليها وجلست القرفصاء ورفعت رأسها لأعلى من ذقنها بيدي، نظرت إليها فهالني المشهد لم تكن هذه التي أمامي سيّدة هزيلة كما توقعت أو صبيّة في مقتبل العمر إنّما كانت نوّارة لم تتفتح بعد قد ألقت هذه الحياة القاسية على كتفيها ذلّا ووجعا وهموما قبل الأوان، نظرت إليّ بعينين مغرغرة بدموع حاولت حبسها وقالت لي مبرّرة ما تقوم به دون أن أسألها:" الأكل لإخوتي الصغار أبونا بالسجن.. اشتكى عليه صاحب البيت لأنّه ما دفع الأجرة لعدّة شهور مضت فحبسوه"، ثم أخبرتني وحدها أين تسكن. سألتها عن عمرها وأيضا إن كانت تأتي كل يوم وتقوم بعملها هذا فهزّت رأسها بالإيجاب.. عدت وسألتها " ما عندكم أعمام ؟" ردت " عندنا اثنين بس ما بزورونا ....". شعرت بكتمة في صدري وتخيّلت أن تقوم ابنتي أو ابني بهذا إن جارت علينا صروف الزمن، فتاة في عمر الورد تسعى لتسد جوع أمعاء صغيرة خاوية.. تقلّبت في مخيلتي صور شتى أيقظني من هذه الهواجس صوت امرأة مرّت بجانبنا تقول " هاي الأشكال كتار ما تصدقيهم"، فقلت لها " الله أعلم بأحوال الناس" ولم أزيد في كلامي أكثر.. تركت ابنة الثانية عشر من عمرها ومشيت وأنا أفكر بأمثالها سواء كانوا صغارا أم كبارا ممّن يجمعون الطعام بهذه الطريقة كي لا يمدّوا أيديهم للناس، ولكن بالي ظل مشغولا بها كيف هان على أقاربها مثل أعمامها أو أخوالها أو غيرهم أن يتركوا لحومهم وهي غضّة طريّة هكذا تجوب الشوارع في ساعات المساء يبدو أنّ القلوب باتت كأحجار الصوان بل فاقته في قساوته..