سويسرا التي عرفها العالم كبلد مسالم، ومحايد، وصاحب الوساطة الحميدة لحل النزاعات، تستعد الآن لمواجهة سنة أخرى تتصدّر فيها الأخبار المضرة بسمعتها عناوين وسائل الإعلام الدولية. خلال الإثني عشر شهرا الأخيرة، تلقت سويسرا سيلا من الضربات المهينة ذات علاقة بقضية التهرّب الضريبي التي أتهم بارتكابها اتحاد المصارف السويسرية "يو بي إس"، وبسبب تصاعد أزمتها مع ليبيا، والانتقادات الدولية بسبب الحظر الذي فُرض على تشييد المزيد من المآذن في البلاد. وفي مرحلة من المراحل خلال السنة، بدا وكأن سويسرا تحاصرها المواقف العدائية من كل بقاع العالم. لكن مع مرور فترة من التراجع أمام المشاعر الغاضبة، ومن وجود أنفسهم محشورين في زاوية، يبدو أن السويسريين استطاعوا في النهاية تثبيت أقدامهم على الأرض. وكان من الظاهر منذ البداية أن سنة 2009 لن تكون سنة سهلة بالنسبة لأي بلد مسّته الأزمة المالية التي تحولت لاحقا إلى أزمة اقتصادية عالمية. لكن الوضع لم يتوقّف عند هذا الحد، إذ ارتمت الساحة المالية السويسرية في فوضى أكبر عندما تبيّن في شهر فبراير 2009 أن اتحاد المصارف السويسرية قد ساعد مواطنين أمريكيين على التهرّب من الضريبة في بلادهم. وبعد دفعه لغرامة قدرها 780 مليون دولار أمريكي، سُمح ل "يوبي إس" أيضا بانتهاك قواعد السر الضريبي، وذلك عبر تسليم إدارة الضرائب الأمريكية كشوفا بأسماء الآلاف من مودعي أموال لديه. في الوقت ذاته كانت الحكومة السويسرية في مواجهة مع منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، ومع العديد من البلدان الأوروبية التي كانت بدورها تشتكي من دور سويسري في عمليات تهرّب ضريبي. الأزمة الليبية بصعوبة إستجاب هانس رودولف ميرتس، وزير المالية السويسري ورئيس الكنفدرالية لسنة 2009، إلى عدد قليل من المطالب الليبية، قبل أن تُحتجز الرهينتان السويسريتان كإجراء انتقامي. لكن ميرتس أجبر لاحقا على الاعتذار علنا لإقدام شرطة جنيف على إعتقال نجل الزعيم الليبي، هانيبال، خلال إقامة قصيرة له بجنيف سنة 2008. والواقع أن ذلك الاعتذار لم يؤدّ إلى تأمين إطلاق سراح الرجليْن السويسرييْن (لا يزالا إلى حد الآن رهن الاحتجاز في ليبيا)، وقد رأت وسائل الإعلام السويسرية في ذلك الاعتذار نوعا من إظهار الضعف، وتعرّض وزير المالية المحاصر نتيجة لذلك إلى ضغوط شديدة. ولا تزال سويسرا مثارا للتعليقات السلبية منذ أقدمت على إعتقال المخرج السينمائي الفرنسي من أصل بولندي، رومان بولانسكي. وقد سُمح لهذا الأخير من قبل بالتنقل عبر البلدان الأوروبية متمتّعا بحصانة، إلى حين قررت سويسرا إلقاء القبض عليه إرضاء لرغبة أمريكية. ولم يهدّأ تبرير سويسرا لتلك الخطوة بإرتباطها باتفاقية ثنائية للتعاون القضائي مع الولاياتالمتحدة، من مشاعر الغضب ضدها في فرنسا خاصة، نظرا لأن بولانسكي يحمل أيضا الجنسية الفرنسية. واليوم يخضع المخرج الفرنسي للإقامة الإجبارية في سويسرا، بينما يتواصل النظر في طلب ترحيله إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. لكن هذه الصرخات المكتومة لم تكن شيئا مقارنة بالانتقادات الواضحة التي وجّهت إلى تصويت السويسريين في نهاية نوفمبر الماضي لحظر بناء المآذن. فقد وصفت الصحف العالمية ذلك التصويت ب "عدم التسامح"، و"الحماقة"، و"العنصرية" حتى، في حين كانت عناوين الصحف الناطقة بالعربية أشد عنفا في انتقادها لسويسرا. "هيدي" صورة خيالية يدعو مارتين هوفر، أحد الموظّفين التنفيذيين بشركة بيرسون مارشتيلاّ العاملة في مجال العلاقات العامة، العموم إلى التخلّص من الصورة الرومانسية التي تعشش في أذهانهم عن سويسرا، وإلى التمسّك بالواقعية. وأوضح هوفر في حديثة إلى swissinfo.ch : "خسرت سويسرا هذه السنة الكثير من الإعجاب بصورتها الناصعة. والكثير من الناس لم يعودوا يفهمون سويسرا ببساطة لأن الصورة التي كانت في أذهانهم عنها لم تعد موجودة في الواقع. ولكن التمسّك بتلك الصور النمطية المسبقة عن سويسرا المشكّلة من الجبال الشاهقة والمناظر الخلابة، والجدوى الإقتصادية كان أمرا بعيدا عن الواقع". وأضاف مارتين هوفر: "يحتاج العالم الخارجي إلى النظر في ما هو تحت الغلاف الخارجي، وفهم الطريقة التي تعمل بها سويسرا، خصوصا، الكيفية التي تطبّق بها الديمقراطية المباشرة. عندئذ فقط سوف يصبح بإمكانهم فهم هذا البلد، ومعرفة سكانه". كذلك أثبتت سويسرا هذه السنة، وبعيدا عن صورة البلد العاجز مسلوب الإرادة على المستوى العالمي، إنها قادرة على التكشير عن أنيابها. فإعادة التفاوض حول الاتفاقية الثنائية لمنع الازدواج الضريبي مع إيطاليا، الذي كان من المفترض ان يقره البرلمان قد وقع تجميده بعد أن أثار العفو الضريبي الواسع الذي أقدمت عليه إيطاليا غضب سويسرا. وحصل الأمر نفسه مع فرنسا أيضا بعد ان استولت السلطات الفرنسية على المعطيات التي سرقها أحد الموظّفين السابقين من أحد المصارف البريطانية التي يوجد مقره بجنيف. العقلية الانفرادية كشفت سويسرا أخيرا عن خطة تزعم إتباعها في مجال القضايا الضريبية وتتلخّص في رفضها للتبادل الآلي والمباشر للمعطيات المتعلّقة بأصحاب الودائع في مصارفها مع البلدان الأخرى. وقد نُظر إلى هذه الخطوة على أنها إعلان بأن سويسرا قد ذهبت في تلبية مطالب البلدان الأخرى ما فيه الكفاية. إضافة إلى ذلك، يبدو أن الهجوم الدولي على سويسرا قد عزّز من تمسّك عامة المواطنين بحق التعبير عن إرادتهم عبر استفتاء عام، حتى لو كانت نتائج ذلك الاستفتاء جارحة لمشاعر الأجانب، وللرأي العام المحلي في بعض الأحيان. فقد بيّن استطلاع للرأي أجرته جامعة زيورخ في شهر ديسمبر الجاري أن ثلاثة أرباع السويسريين لايزالون يؤيّدون بقوة قانون السر المصرفي. لكن مارتين هوفر يحذّر من التأثيرات الخارجية على قدرات سويسرا في الدفاع عن سيادتها في مواجهة التدخل الخارجي. ويختم بالقول: "ربّما تحتاج سويسرا لإعادة النظر في موقعها داخل المجتمع الدولي. إذا كانت بلدانا أخرى لا تقف معنا عندما نحتاج إليها، فربما يكون ذلك بسبب رغبة سويسرا في آن تكون بمعزل عن الآخرين". ماثيو آلن -swissinfo.ch (ترجمه من الإنجليزية وعالجه عبد الحفيظ العبدلي)