(4) في سبيل الله: يحدّد القرآن الكريم في نصّ صريح أنّ دور الإنسان هو العبادة -بما هي تعبيد الطريق وتذليلها بإزالة العوائق منها واقتحام عقباتها وإخضاع مصاعبها- وإزاحة كل ما من شأنه أن يحول بين الإنسان وبين التقدم نحو الله "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات -56).. فما من وجهة للإنسان المسلم إلا الله، وهذا ما تؤكده الآيات القرآنية "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا له الدين الخالص "(الزمر- 2، 3)، "قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين" (الزمر- 11) "وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين" (الأعراف- 29). وإنّ في الإخلاص تأكيدا لمعان ثلاث: المعنى الأول هو انتفاء الهوى من أحكامنا باعتباره شرّا ووثنا يُتبع: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" (سورة ص- 26)، "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" (القصص -50). أمّا المعنى الثاني فهو التحرّر من الضغط الخارجي ومن كل أشكال المسايرة والنفاق الاجتماعي، وبقاء الوعي والقناعة المبدئية هي المحدّد في الفعل، ولذلك وصف الله تعالى الرساليّين بكونهم لا يخشون أحدا سواه، ولا يتملقون الناس ولا يخافون لوْمة لائم "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله" (الأحزاب -39)، "فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوْمة لائم" (المائدة- 54).. وبالمقابل فقد وصف الله المنافقين بكونهم مرائين لا تعنيهم الأخلاق وإنما تحكمهم عقليّة حفظ ماء الوجه وطلب رضا الناس بأيّ ثمن "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم" (النساء -108)، "وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا" (النساء- 142)، أما المعنى الثالث فهو تأكيد ابتغاء وجه الله بعد نفي كل شريك من داخل الذات أو من خارجها، ولذلك يصف الله عز وجل الإنسان التقيّ بكونه "الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى" (الليْل- 18، 19، 20) وإن القرآن ليمضي في هذا الاتجاه إلى حدّ القوْل بأن الذي يأخذ الصدقة ليس هو الفقير، ولكن الله سبحانه "هو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات" (التوبة- 104) وللنبيّ (صلى الله عليه وسلم) في هذا المقام تعبير رائع حيث قال: "من تصدّق بصدقة من كسب طيّب، ولا يقبل الله إلاّ طيّبا، كأنما يضعها في كفّ الرحمن يُربيها كما يُربي أحدُكم فلوّه أو فسيله، حتى تكون مثيل الجبل" (رواه الإمام مالك في الموطأ)، فمجموع هذه النصوص تهدي إلى تحديد كامل للنيّة الحسنة طبقا لمفهوم القرآن، فهي حركة تعدل بها الإرادة الطائعة عن كل شيء، طوعا أو كرها، ظاهرا أو باطنا، كيْما تتوّجه نحو الجانب الذي تتلقى منه الأمر، إنه اتصال بالمثل الأعلى، والأزكى والأكمل: الله جل وعلا. إذن فلا يمكن أن يتسلّل إلى نفس قارئ القرآن إمكانيّة النسيان العميق، أو حتى الغفلة الطويلة، ما دامت دقات هذا العلم الروحي ترن في أذنيه، وتعاوده بلا انقطاع، كيْما تردّه إلى المنبع الأول للقوة والنور، ولا نظن أن هناك تدريبا أبلغ تأثيرا من هذا حتى نبقى على انتباهنا يقظا، وحتى نجعل نيّتنا "طاهرة ونزيهة" (محمد عبدالله دراز: دستور الأخلاق في القرآن). ❍ كاتب وباحث من تونس