عبدالحميد العدّاسي تعرفون أنّ القلائد جمع قلادة، وهي ما يوضع في العنق من حليّ وغيره، وأمّا قلائد الشعر والأدب فهي البواقي على الدهر منه تُحفظُ لنفاستها... و"قلائد" الشيخ رحمه الله تعالى هي الأنفس نظرا للباسها الإسلامي الحضاري الذي أراد للشباب - بذكرها - التزيّي بها كما جاء في مقدّمته وكما نقلت عنه في الحلقة الأولى... وإنّي لازلت كثير الطمع في نموّ حبّكم للقلائد، وكلّي يقين في أنّ "القلائد" وغيرها من الكتب التي أثرى بها الشيخ المجاهد المكتبة الإسلامية، لهي من العلم النّافع الذي سينمّي حسناته بإذن الله تعالى، تصديقا وإيمانا بما أخبرنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في ما رواه عنه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية". وكم وددت أن تُقرأ هذه المنثورات بقلب ناظر وعقل فاحص ونفس مقبلة على الخير! وكم رغبت في إتباعِ بعض الكلمات أو العناوين تعليقات تتناول أحوالنا في بلداننا التي غاب أو غُيّبَ السباعي رحمه الله وأمثاله من الأفذاذ الذين رغبوا لأمّة الإسلام الخير، عنها. وقد صبرت على ألاّ أفعل ذلك لأترك للقارئ الكريم فرصة السياحة في الكلمات على الطريقة التي تزيد من انشراح نفسه واشتغال عقله واستجابة قلبه، وأيضا لئلاّ أفسِد حَبك النصّ أو أنقِص جمال الكلمة، فقراءة طيّبة لما سيأتي... لماذا سمنوا؟:
قيل لرجل رُئي سمينا: ما أسمنك؟ قال: أكلي الحار، وشربي القار (أي البارد)، واتّكائي على شمالي، وأكلي من غير مالي.
وقيل لآخر: ما أسمنك؟ قال: قلّة الفكرة، وطول الدّعة، والنوم على الكِظَّة (شيء يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطّعام(
وقال آخر لرجل رآه سمينا: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك .
يُسرّ بوفاة ابنه: لمّا مات عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز دفنه عمر وسوّى عليه التراب ثمّ استوى قائما، فأحاط به النّاسُ، فقال: رحمك الله يا بني! قد كنت برّا بأبيك، والله مازلتُ مذ وهبك الله لي مسرورا بك، ولا والله ما كنتُ قطّ أشدَّ منك سرورا، ولا أرجى بحظّي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيّرك الله إليه.
يوم الأذان: دخل رجلٌ على سليمان بن عبدالملك فقال له: اذكر يا أمير المؤمنين يوم الأذان! قال: وما يوم الأذان؟ قال: اليوم الذي قال الله تعالى فيه: [فأذّنَ مؤذّنٌ بينهم أن لعنةُ اللهِ على الظّالمينَ]، فبكى سليمان وأزال ظلامته.
طول ليل حزين:
أنشد أبو حاتم عن قائل شعر لم يسمّه: ألا هل على الليل الطويل معينُ *** إذا نزحت دارٌ وحنّ حزينُ؟ أكابد هذا الليل حتّى كأنّما *** على نجمه - ألاّ يغور - يمينُ فوالله ما فارقتُكم قاليا لكم *** ولكنّ ما يُقضى فسوف يكون وقد ذكر الفرزدق العلّة في طول الليل فقال: يقولون طال الليل والليل لم يطل *** ولكنّ من يبكي من الشوق يسهرُ
أحقّ النّاس:
قال ابن المقفّع في "الأدب الصغير": أحقّ النّاس بالسلطان أهل المعرفة (أي أحقّهم بالملك والحكم أهل المعرفة بسياسة الملك)، وأحقّهم بالتدبيرالعلماء، وأحقّهم بالفضل أعودُهم على النّاس بفضله، وأحقّهم بالعلم أحسنُهم تأديبا، وأحقّهم بالغنى أهلُ الجود، وأقربهم إلى الله أنفذُهم في الحقّ علما وأكملُهم به عملا، وأحكمهم أبعدُهم من الشكّ في الله، وأصوبهم رجاء أوثقُهم بالله، وأشدّهم انتفاعا بعمله أبعدُهم عن الأذى، وأرضاهم في النّاس أفشاهم معروفا، وأقواهم أحسنُهم معونة، وأشجعهم أشدُّهم على الشيطان، وأفلحهم بحُجّةٍ أغلبُهم للشهوة والحرص؛ وآخذهم بالرأي أتركُهم للهوى، وأحقّهم بالمودّة أشدُّهم لنفسه حبّا، وأجودهم أصوبُهم بالعطيّة موضعا، وأطولهم راحة أحسنُهم للأمور احتمالا، وأقلّهم دهشا أرحبُهم ذراعا، وأوسعهم غنًى أقنعُهم بما أوتِيَ، وأخفضهم عيشا أبعدُهم من الإفراط، وأظهرهم جمالا أظهرُهم حصافة، وآمنهم في النّاس أكلُّهم نابا ومِخلبا، وأثبتهم شهادة عليهم أنطقُهم عنهم، وأعدلهم فيهم أدومُهم مسالمة لهم، وأحقّهم بالنّعم أشكرُهم لما أوتي منها...
معنى الحكمة:
قال الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" عند قوله في الحديث "الفقه يمان والحكمة يمانية": وأمّا الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة، قد اقتصر كلٌّ من قائليها على بعض صفاتٍ، وقد صفالنا منها أنّ الحكمة عبارة عن: العِلم المتَّصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله سبحانه وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النّفس وتحقيق الحقّ والعمل به والصدّ عن اتّباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. وقال أبو بكر ابن دريد: كلّ كلمة وعظتك وزجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم، ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "إنّ من الشعر حكمة"، وفي بعض الروايات "حكما" والله أعلم.
حسن الإجابة والمحاورة:
أورد أبو طاهر البغدادي في "قانون البلاغة" كردّ على الشيخ السباعي - كاتب هذه "القلائد" - في "رسائل البلغاء": إنّ من آلة الكاتب وأداته أن يضيف إلى الإحسان في المكاتبة مثل ذلك في المحاورة والمخاطبة، حتّى تكون ألفاظه مهذّبة، وإشاراته مستعذبة، والنّفوس نحوه إذا نطق منصتة، فمن المحاورة المستحسنة قول الفضل بن الرّبيع؛ فقد قال له الرّشيد: كذبت! قال: يا أمير المؤمنين! وجه الكذوب لا يقابلك، ولسانه لا يخاطبك (يعني به الرّشيد نفسه) فإنّه لا يقابل نفسه، ولسانه لا يخاطبه. فوصله وقال: كذّبني فوصلته لحسن جوابه. ودخل سعيد بن مرّة على معاوية فقال له: أنت سعيد بن مرّة؟ فقال: أنا ابن مرّة وأنت السعيد، فوصله لحسن جوابه. وقال السفّاح أو المنصور للسيّد الباقر: أأنت السيّد؟ فقال: أنا ابن أبي وأنت السيّد، وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعمّه العبّاس: "أنت أكبر منّي"، فقال: أنا أسنّ وأنت أكبر منّي، .....
وعلى حسب ما يُستحسنُ هذا الجنس من الجواب يستقبح ما كان خلافه من الخطاب، كما يُروى أنّ رجلا مرّ بأبي بكر أو بعمر ومعه ثوب وقال: تبيعه؟ قال: لا، عافاك الله، فقال: قد عُلّمتم لو تعلمون، هلاّ قلت: لا، وعافاك الله!...
غليان القلوب:
قال مالك بن دينار: إنّ القلب إذا لم يكن فيه حزن، خرب كما يخرب البيت إذا لم يكن فيه ساكن، وإنّ قلوب الأبرار تغلي بأعمال البرّ وإنّ قلوب الفجّار تغلي بأعمال الفجور، والله يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله...
اكتب واحفظ وحدّث:
كان المأمون يوصي بعض بنيه فيقول: اكتب أحسن ما تسمع، واحفظ أحسن ما تكتب، وحدّث بأحسن ما نحفظ...
لا ينفع: قال الحافظ ابن حبّان في "روضة العقلاء": لا ينفع الاجتهاد بغير توفيق، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا السرور بغير أمن، ولا العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عمل، وكما أنّ السرور تبع للأمن، والقرابة تبع للمودّة، كذلك المروءات كلُّها تبع للعقل.
من بركة العلم:
قال القرطبي في تفسيره: فإنّه يقال من بركة العلم أن يُضاف القول إلى قائله، وكثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما لا يعرف من أخرجه إلاّ من اطّلع على كتب الحديث، فبقي مَن لا خبرة له بذلك حائرا لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم، فلا يُقبل منه الاحتجاج به، ولا الاستدلال، حتّى يضيفه إلى من خرّجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام...
لماذا لا يشمل عدله الجميع؟:
شكا أهل بلدة إلى المأمون واليا عليهم، فقال: كذبتم عليه، فقد صحّ عندي عدلُه فيكم وإحسانُه إليكم، فقال شيخٌ منهم: يا أمير المؤمنين! فما هذه المحبّة لنا دون سائر رعيتك؟ قد عدل فينا خمس سنين، فانقله إلى غيرنا حتّى يشمل عدلُه الجميع، وتريح معنا الكلَّ، فضحك منهم وصرفه عنهم.
مصدر الخبر : a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=86&t=وقفة مع كتاب "القلائد" للشيخ مصطفى السباعي رحمه الله، الحلقة الثانية...&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"