بدء، نهنئ الأمة بقدوم الشهر المبارك الذي شرفّه الرحمن دون الشهور، فاتخذه الوعاء لاستئناف الإتصال بين السماء الارض إثر انقطاع استمر لأكثر من ستة قرون،"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه" البقرة183 . ورغم أن الأمر يتعلق بشعيرة تعبدية، مما لا يتطلب التعليل، إلا أن الحكيم أبى إلا أن يكشف لعباده عن طرف من حكمته، تكريما لعقولهم وندبا الى طلب الحكمة في كل شيء، إذ لا يصدر عن الحكيم إلا ما هو حكمة ونفع. إنه تعالى لم يقل فمن كان حاضرا غير مسافر فليصمه، وإنما عبر عن هذا التشريف بالشهود وهو حضور مخصوص، حضور بتشريف، كحضور موكب مهيب أو حفل بهيج.وشهود رمضان من هذا القبيل، تشرق فيه الارواح وتمتد عموديا فتعانق السماء بالذكروالصلاة والقرآن، وتمتد افقيا بالرافة والرحمة والعطاء والسماحة، فكان رسول الله عليه السلام جوادا، وكان أجود ما يكون في رمضان ، لكأنه السحابة المرسلة. وأعظم فتوحات الاسلام تنزلت في رمضان، ففيه ابتدأ نزول الوحي على قلب الرسول الخاتم حاملا خلاصات رسالات النبوات، مصححا ومتمما، ومؤسسا لأمة ولحضارة، وكلت اليها مهمة القيام على ارث النبوات والحضارات. فما أعظم بركات هذا الشهر على الامة والبشرية، بما يحمله من تحولات عظمى: في العوالم الروحية "تصفّد فيه الشياطين وتفتح فيه أبواب الجنة ويقال فيه لطالب الخير أقبل ولطالب الشر أقصر"ومن تجديد فردي وجماعي في الحياة النفسية والعقلية والجسدية والاجتماعية والاقتصادية. إنه رحلة ممتعة زادها الاساسي الامساك عن إتيان أشياء محددة- هي في الاصل مباحة ومرغوبة- لأوقات محددة، مع تجريد القصد لله. إنها عبادة صامتة" الصوم لي وأنا أجزي به". إن القدرة على "الإمساك" مفرق الطريق بين الانسان والدابة.إنه التعبير عن امتلاك النفس وقوة الارادة . إن مشهد تحلّق الاسرة حول مائدة حافلة بمطعومات ومشروبات تهفو اليها النفوس، لكنها تمسك، في انتظار الاذن الالهي، مشهد انساني بامتياز ومشهد تعبدي من جوهر التربية التعبدية: كبح جماح نفوسنا فلا نطلقها إلا وفق القانون. وذلك هو التمدن... يأتي رمضان شهر الفتوحات ليعزز دفق هذه الصحوة العارمة، دافعا الى مزيد التوبة والتراحم والبذل والفداء، فيتكثف التواصل بين الخالق والمخلوق، فتتصلب الارادات الواهنة،وتتقارب النفوس المتنافرة، ويتعزز سلطان العقل على الغريزة، والمبدإ على المنفعة، والباقي على الفاني، والعام على الخاص، ولذة الروح على شهوة الجسد. فالحمد لك ربنا على ما تفضلت علينا وأنعمت، فمددت في أعمارنا حتى أدركنا هذا الموسم للغنائم، ونسألك اللهم من فضلك أن تجعل لنا منها فضلا ونصيبا." من صام رمضان إيمانا واحتسابا دخل الجنة".