تعود بي الذاكرة الملتهبة والمكتظة بأحداث السنين الأخيرة لأحاول فرز حدث واحد عن بقية الأحداث التي تسارعت وملأت حياتنا بالمتناقضات وشككت البعض في اعتقاداته ومبادئه. ذات يوم كمثل هذا اليوم 17 ديسمبر من عام 2010 حدث ما غيّر وجه التاريخ في تونس وفي المنطقة العربية برمتها, يوم اندلعت أول شرارة للثورة التونسية المجيدة عندما أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه. مات الشاب رحمه الله متأثرا بحروقه ولم تخمد شعلة النار التي أضرمها في جسده بل أخذت تتنقل كالشعلة الأولمبية من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى أخرى إلى أن أطاحت برأس النظام ورحل بن علي لتبدأ تونس صفحة جديدة من تاريخها المعاصر. قصة في غاية الروعة وتبعث على الكثير من الفخر والتباهي, لذلك كان الجميع يهرول يوم 17 ديسمبر نحو سيدي بوزيد مهد الثورة وكانت الاحتفالات عارمة بهذه الذكرى ولكن ذلك كان فقط في الذكرى الأولى عندما كانت الأحلام لا تزال غضة وبناء المدينة الفاضلة كان متاحا في أذهان أغلب التونسيين إلا بعض السياسيين الذين استأثروا بالحكم وراوغوا الفقراء ونكثوا عهودهم للمساكين ولم يكرموا أرواح الشهداء وأهانوا جرحى الثورة. تقاسم السياسيون الكعكة التي تحدث عنها المرزوقي وهو أحد المستأثرين بجزء من الكعكة وسكن قصر قرطاج دون أن يتقدم قيد أنملة بالبلاد وتغولت حركة النهضة وسيطرت المطامع على مصطفى بن جعفر ودخل الجميع في دوامة ونسوا هذا الشعب الذي أشعل بهذه الثورة. وكان مشهدا مؤثرا ومعبّرا أن يتمّ طرد متقاسمي السلطة من سيدي بوزيد شرّ طردة في العام الموالي, ويتمّ رفع شعارات تطالب بإسقاط حكم الترويكا الفاشلة بعد عام آخر, إلى أن وصلنا إلى ذكرى هذا العام التي تمرّ دون أدنى إشارة إلى أنه في مثل هذا اليوم منذ أربع سنوات اندلعت ثورة الحرية والكرامة. وصلنا اليوم إلى حالة هي أقرب إلى أحد أمرين: إما أننا بتنا نؤمن بما يسمى ''وهم الثورة'' وكأن هناك من استفاق على حقيقة أن هذا الشعب لم يقم حقا بثورة, أو أننا بتنا على يقين بأن هناك من خان هذه الثورة واستأثر بثمارها لنفسه فبات عدد من التونسيين يحنّ إلى جلاد الأمس القريب ويتحسر على عهد الديكتاتورية. وعلى العموم لم تعد الثورة بمفهومها الذي تداوله التونسيون في عامها الأول تثير أي مشاعر إيجابية أو تلهب حماسا معينا ولا أدلّ على ذلك من فشل أحزاب كالمؤتمر من أجل الجمهورية وحركة فاء وغيرها ممن اعتمدوا في حملتهم الانتخابية على الخطاب الثوري ورفعوا شعارات مكاسب الثورة وأهدافها.. فهذا الخطاب لم يعد مستساغا لدى التونسيين الذين فهموا أن تعلقهم بالمستقبل سيكون أكثر جدوى وأعمّ فائدة على حياتهم وحياة أبنائهم. نعم وصلنا إلى هذه الدرجة من تجاهلنا لتاريخنا القريب بفعل تتالي النكبات وبات الشعب يرزح تحت وطأة الفقر والتهميش والفساد والطبقية والجهوية والعروشية وتفجرت لدينا مشاكل وعُقد لم نكن نعلم أننا نحملها بداخلنا ولم تعالجها الترويكا بل زادت في تأجيجها. وإني لأشفق على ثورة التونسيين من التهميش والتنكيل بعد أن بات جزء كبير من الشعب التونسي يخلط بين الثورة وبين الترويكا التعيسة التي أغرقت البلاد في أوحال جهلها وأطماعها وانتهازيتها. آن الأوان لينهض هذا الشعب من جديد ويفتخر بما صنعه لنفسه ويثبّت أقدامه على الطريق التي اختارها ويفاخر بما وصل إليه على عكس باقي الشعوب التي تاقت إلى الحرية والديمقراطية ولم تدركها. أيام قليلة أيها الشعب التونسي وتختار رئيسك القادم ومعا سنبني تونس من جديد ولن نأمن أبدا لكل أولئك الذين فقّرونا وهمّشونا وحاولوا افتكاك وطننا من بين أحضاننا. المجد للثورة.. المجد للشهداء.. المجد لتونس.