صرّح السيد نور الدين الخادمي وزير الشؤون الدينية في الحكومة المؤقتة يوم الجمعة الفارط بأن المساجد في تونس في حالة جيدة وأنها لا تستعمل للدعاية سياسية وأن ما سمّاه بالإنفلات الذي حصل في الفترة التي تلت الثورة قد وقع احتوائه. ولكنني في نفس ذلك اليوم وفي الأيام التي سبقته لاحظت بشكل لا لبس فيه وبالعين المجردة عكس ما ذهب إليه وزير الشؤون الدينية في تصريحاته المطمئنة. إذ تمحورت خطبة الجمعة التي أدلى بها إمام أحد مساجد العاصمة, حيث كنت من بين المصلين, حول مسألة التنصيص على الشريعة كمصدر أساسي للتشريع في الدستور الجديد وقد تبنى الإمام بوضوح الموقف السياسي لحركة النهضة واعتبر أن من يرى عكس ما يراه فهو ضد حكم الله وضد القرآن والسنة وهو "حكم الجاهلية يبغي" وقال بوضوح أن الرجوع إلى المواثيق الدولية وإلى معاهدات متعلقة بحقوق الإنسان هو اختيار حكم الجاهلية بدلا عن حكم الله, فهل هذا الموقف سياسي أم ديني؟ وهل مثل هذا الخطاب وسطي معتدل أم أنه رافض الرأي الآخر محرض عليه؟ هل هو خطاب إسلامي تقدمي أم رجعي تكفيري؟ والجدير بالتذكير هو ما واكب زيارة الداعية وجدي غنيم إلى تونس من مواقف لأئمة المساجد وشيوخها في مختلف مناطق البلاد حيث بدى على خطبهم بشكل واضح انحيازهم إلى أفكار الداعية وإلى الجهات التي دعته ونظمت له زيارته وندواته. والغريب هو أن العديد من الخطباء في جوامعنا اعتبروا أن انتقاد تصريحات غنيم هو تهجم على الإسلام بشكل أو بآخر وأن الدعوة لرفض أفكار غنيم هو تهجم على الدين من طرف جهات اعتبروها محسوبة على اليسار والعلمانية. وقد كنت من بين الشاهدين على مثل هذه الخطب يوم الجمعة الذي تلى زيارته إذ لم يكتفي الإمام الخطيب بالتهجم على من انتقد تصريحات الداعية غنيم بل اعتبر بصريح العبارة أن ختان البنات سنة من السنن الحميدة وبأنه "مكرمة للمرأة" واستشهد في ذلك بروايات ضعيفة السند من مراجع تاريخية غير معتمدة. وقد أثار هذا الموقف المفاجئ استغرابي واستغراب الكثيرين من المصلين الذين عبروا على استنكارهم ولومهم للإمام مباشرة بعد انقضاء الصلاة. وما زاد استنكاري لهذا الموقف هو التأكيد على "المنافع الصحية" لختان البنات وعلى أن العلم والطب "يتفقان تماما" مع ما طاب للإمام تسميته "مكرمة البنات". ولقد لاحظت أن الكثير من المساجد قد عاشت ولازالت تعيين نفس الأوضاع وأن الآلاف من التونسيين المتمسكين بشعائر دينهم والممتثلين لأمر ربهم في كل ويم جمعة فقوله جل جلاله "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا لذكر الله وذروا البيع" لا يرون في تكفير من لا يدافع عن توحد الشريعة في الدستور فيه ذكر الله ولا يرون في الدفاع عن بدعة ختان البنات ذكر الله ولا يرون في السخرية من النشيد الوطني وتحقير مبادئ الجمهورية في تونس "ذكر الله". إن في هذه النمط من الخطاب الديني مؤشر هام على انزلاق جديد نحو التطرف والتعصب في جوامعنا وابتعاد متجدد على دَورِ دُور العبادة الأصلي والطبيعي كمؤسسات تعمل إلى الدعوة للإيمان بالله والاقتداء بسنة رسوله والإرشاد نحو المثل العليا ومكارم الأخلاق. فالمرور من إمام السلطة الذي يتحاشى كل أمر من شأنه أن يقلق "السلطان العظيم" والدعاء له ولأهله وذويه بالعمر الطويل والمديد لكي يبقى داهسا على قلوبنا ثم إلى إمام التطرف الذي يحمل خطاب مستندا ومتشددا بقراءة سياسية للدين تحمل في طياتها تأثيرات سلفية وبالذات وهابية لا يمكن وصفه بأي حال من الأحوال بالوضع الجيد للمساجد. فكان من الأجدر على السيد الوزير أن يبرز حقيقة ما يجري في مساجدنا وأن يقرّ بهذه الحقائق المقلقة حتى يتسنى له معالجتها بالجدية والإرادة الأزمة لا أن يكتفي بالتطمينات التي تخفض الحقيقة مغالطات المرور عليها مرور الكرام لا يزيد في الأوضاع إلا تعقيدا أو تأزما. د. إلياس درويش عضو المكتب السياسي