خلال الأيام القليلة الماضية عاود ناشطون ما يسمى ب"احتلوا وول ستريت" احتجاجاتهم في أمريكا التي اندلعت منذ أكثر من شهرين في مانهاتن في نيويورك... هؤلاء" المسحوقون" كما وصفهم الإعلام المناوئ للسياسة الأمريكية أمعن فيهم التوحش الليبرالي صبقته واحتلالا منذ أكثر من مائة سنة. وقد كشف الاقتصاديون الأمريكيون ومنذ اندلاع احتجاجات "وول ستريت" ان المجتمع الأمريكي انقسم الى طبقتين: طبقة تمثل الأثرياء ونسبتهم 1 % وطبقة تمثل مختلف الفئات الاجتماعية وقد اتسعت الفجوة بين الطبقتين في عام 2009 بشكل ملفت وأشارت دراسات هؤلاء الاقتصاديين أن المجتمع الأمريكي منظم عموديا أكثر من أي بلد آخر في العالم. اقتصاد دارويني البقاء فيه للأقوى هذا التركيز المفرط للثروة في أيدي القلة من الذين يقفون على راس الطبقة العليا بدأ منذ البداية القرن ال20 حين تركزت الثروة آنذاك في أيدي ثلاثة من أباطرة الصناعة وهم "جون روكفلر" و "اندرو غارنيفي" و"مورغن "وثلاثتهم احتكروا الثروة في أيديهم لمدة طويلة. انه عصر الجمود كما سماه مراقبون أمريكيون حيث تسيطر الطبقة العليا من أصحاب الغنى الفاحش وهي تتشكل أساسا من جملة الأسهم والمنتجات المالية وأباطرة الاستثمارات بدلا عن أثرياء النفط والسكك الحديدية الذين سبق لهم ان هيمنوا في وقت سابق. هذا وقد فضحت الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في خريف عام 2008 كل المشاكل الاقتصادية الأمريكية وأخرجتها الى العلن ووقف العالم وقبلهم الأمريكيون على حقيقة تقول أن طبقة ال1 %الأمريكية تسيطر على أكثر من نصف الأسهم والأوراق المالية مما جعل الطبقة الوسطى تعاني من خسائر في الزيادة في أجورها خلال العقد الماضي في حين ان المستثمرين في تجارة الأسهم والأوراق المالية كانوا يحصلون على دخل سنوي يقدر ب360 ألف دولار سنويا. هذا وقد اظهر عالم الاقتصاد الأمريكي "روبرت فرانك" في كتابه "الاقتصاد الدارويني" ان ما ينطبق على الاقتصاد العالمي ليست أفكار "أدام سميث" بل أطروحات "داروين" حول المنافسة الضارية والبقاء للأقوى مستدلا على ذلك بانه خلال عام 1980 كان راتب المدير في الشركات الأمريكية يساوي 44 ضعفا راتب العامل، أما اليوم فهو يساوي 300 ضعف كما أكد أن القسم الأكبر من النمو الاقتصادي خلال السنوات ال30 الماضية وقع في أيدي أغنياء أمريكا ولم يكن ذلك نتيجة قوانين السوق بل بسبب القرارات السياسية التي اتخذتها الطبقة الحاكمة على اعتبار أن أصحاب الثراء الفاحش يسيطرون على السياسة العامة في الولاياتالمتحدة وتضم تلك الطبقة مديري البنوك والمسيطرين على بورصة "وول ستريت" الذين استطاعوا دوما إملاء سياسياتهم على الدولة. والأغرب من ذلك انه وخلال الأزمة المالية الكبرى عام 2008 كان هؤلاء الأثرياء من أهم مسببيها حصلوا على قروض كبيرة تمكنوا خلالها من إعادة هيكلة مؤسساتهم وتحقيق أرباح كبرى بعدة ذلك، كما استفادت هذه الطبقة من قرار خفض الضرائب عليها والتي كانت تبلغ 40% من الأرباح ثم تصاعدت إلى 70% ولكن جورج بوش الابن خفضها إلى 35%. "أممية جديدة" بصدد التشكل ولكل هذه الأسباب وتحت شعار "لسنا بضاعة في يد المصرفيين والشركات والسياسيين" سعت بعض القوى من بعض المفكرين دوي التوجه اليساري في الغالب إلى حشد تجمع شعبي عالمي لتغيير طريقة صياغة القرارات الاقتصادية والمالية والاجتماعية لا سيما تلك التي تلقي بثقلها على الطبقات الشعبية الواسعة. وفي وقت يعتقد فيه البعض أن لهذه الحركة جذورها الأصلية المترشحة في تقاليد العمل السياسي في امريكا يؤمن آخرون بأن انتفاضة الشعوب العربية وما بات يسمى ب "الربيع العربي" وقد ساهم على الأقل في إعادة شحذ الهمم الشبابية في العالم بأسره إن لم تكن قد بادرت أصلا بإطلاقها فعليا بعدما بقيت في نوم عميق لفترة طويلة من الزمن! وفي جميع الأحوال فإن التحرك الشامل الذي جرى منذ شهر سبتمبر الماضي في كل إرجاء العالم وما زال متواصلا إلى يومنا هذا في أمريكا بالخصوص وبرغم التفاوت الكبير في درجة تمثيله الشعبي ونسبة المشاركة في المظاهرات إنما يؤشر لأمر في غاية الأهمية وهو أن ثمة محاولات جدية من قبل جميع تلك التيارات لتجميع نفسها في إطار دولي جديد قد يتمكن في مرحلة من المراحل المقبلة من مخاطبة شريحة لا باس بها من الناس وقد يكون من السابق لأوانه الحديث حاليا عن نوع من "الأممية الجديدة" على حد تعبير مراقبين غربيين وحتى عرب على غرار ما شكلته الأحزاب اليسارية الشيوعية المختلفة في أوقات سابقة لكن قد يكون ممكنا الإشارة إلى ذلك التحرك باعتباره شكلا سياسيا تعبويا جديدا قد يتبلور في المستقبل القريب في كيان إيديولوجي أوضح ولعل تحفظ بعض القوى اشتراكية أو ديمقراطية أو غيرها على المشاركة في التحركات السابقة بكل قواها يعدّ دليلا واضحا على أن تلك القوى قررت الانتظار قليلا لترصد حجم التأييد الشعبي لها على أن تحدد خياراتها انطلاقا من ذلك مع الاحتفاظ بحقها بطريقة تعاطيها مع الملفات الاقتصادية والاجتماعية. ولكن ما بدا لافتاهو أن صدى ذلك التحرك كان قويا في دول العالم الغربي الذي تجذرت فيه الممارسات الاقتصادية الرأسمالية فشاهدنا عبر الفضائيات حشودا كبيرة في أمريكا الشمالية وبريطانيا واسبانيا وايطاليا واليونان وغيرها في حين أن ذلك الصدى كان متواضعا في دول فشلت فيها التجربة الاشتراكية وقررت تبني النظريات الاقتصادية الرأسمالية المتمثل في السوق الحر مثل دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق مثل سلوفاكيا وتشيكيا وبلغاريا ورومانيا على سبيل المثال. هذا الأمر وعلى ما يبدو توقعه الغاضبون من النظام الاقتصادي الرأسمالي المتوحش كما توقعه بالخصوص منظمو تظاهره "احتلوا وول ستريت" الذين استقبلوا الحدث بالتأكيد على عدم رغبتهم بحشد جموع ضخمة بل بالسعي "لإقناع العالم بوجود بديل وإمكانية لإظهار عدم رضاهم على ما يجري في أي وقت وفي أي مكان وليس فقط عندما يحين وقت الانتخابات كل أربعة أعوام مما يجب السعي إليه وهو تحقيق تقدم معين في طريقة تفكير الناس" وفق ما ردد منظمو حركة "احتلواوول ستريت" وفي بعض الدول الغربية مثل اسبانيا والبرتغال وبريطانيا وايطاليا أعرب الناشطون الرافضون لتوحش الرأسمالية تنسيق جهودهم مع الأحزاب السياسية في بلدانهم على اعتبار أن تلك الأحزاب تستغل أنشطة مماثلة لرفع رصيدها الانتخابي ولا تسعى إلى تغيير واقع الحال الاقتصادي والاجتماعي بأي شكل من الأشكال. وفي المقابل سعت بعض القوى الشبابية في تلك البلدان إلى تشكيل تكتلات شعبية جديدة من نوعها مثل تلك التي تحمل اسم "ديمقراطية حقيقية الآن" التي تعتمد على تجمعات شعبية متفرعة منها يحاول القائمون عليها أن تكون "حرة" بالكامل ومكانا تناقش فيه كل القضايا الاجتماعية الحاسمة وفي هذا السياق قال بيان صادر عن تلك التكتلات في اسبانيا أن" اتخاذ القرار سيتم وفق مبدإ الديمقراطية المباشرة وأنه لا توجد قيادة لان الجميع يشكلون القيادة الحقيقية... نحن أنتم وأنتم نحن!"والجدير بالذكر أن الحركة المذكورة هي انعكاس لتجربة سابقة بدأت في اسبانيا تسمى "ديموكراتسيا ريال" وشكلت إلهاما للكثير من الشباب في دول أوروبية أخرى لتأسيس لحركات مماثلة أصبحت فاعلة في مناطق تواجدها وهي تصر على أنها غير سياسية وبالتالي لا تنتمي إلى اليسار أو اليمين وتشبه نفسها بالحركات الاحتجاجية التي جرت في تشيكو سلوفاكيا قبل عام 1989 والتي كانت تضم أطيافا مختلفة من التوجهات السياسية التي كانت يجمعها الطوق للحرية. "جي7 مليارات من البشر" بدلا عن "جي8" والملفت في هذه التحركات المناوئة للسياسات الاقتصادية الرأسمالية المتوحشة التي حظيت بتضامن عالمي بدأت تأخذ منحى له بعد سياسي واقتصادي واجتماعي عالمي تحت شعار "متحدون من اجل الديمقراطية العالمية"والتي لاقت صدى كبيرا في مختلف الدول العربية لا سيما تونس ومصر وفلسطين ولبنان والمغرب وموريتانيا والأردن واليمن. إذن ماذا يريد المتضامنون تحت هذا الشعار؟ بكل بساطة إنهم يريدون تحقيق شعار لا يزال حتى الآن شعبويا حكما عالميا من قبل الشعب ولأجل الشعب مع تأكيد أن الوقت قد حان لتغيير الأنظمة في كل العالم واستبدال حكم مجموعة الدول الأكثر تقدما أو ما يعرف ب"جي8" بمجموعة جديدة هي "جي7 مليارات من البشر". إن المؤسسات الدولية غير الديمقراطية مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والأسواق المالية والمصارف الدولية وتكتلات "جي8" و"جي20" والبنك المركزي الأوربي ومجلس الأمن الدولي وحسب البيان الصادر عن حركة "متحدون من أجل الديمقراطية العالمية هي " مباركنا العالمي وصالحنا العالمي وقذافنا العالمي" في إشارة إلى الرؤساء العرب الحاليين والسابقين الديكتاتوريين مما يعني أن تلك الحركة تدعو إلى الإطاحة بالمؤسسات العالمية المشار إليها والتي تعمل على ارتهان شعوب العالم. ومن الواضح أن عدة شخصيات عالمية أعلنت تأييدها لتلك الحركة مثل "...كلاين" من كندا و"...تشومسكي" من الولاياتالمتحدة وادواردو غالينو" من الاوروغواي ولاشك أن وجود هذه الأسماء سيمنح التحرك الشعبي العالمي بعدا أكثر شرعية ومصداقية.