تعيش تونس على مدى أكثر من عام على وقع تحركات عديدة للمحسوبين على التيار السلفي نتجت عنها أعمال شغب وحرق ونهب للممتلكات العامة والخاصة واعتداءات جسدية دون أن يتمكن أي كان من الكشف عن اللغز الحقيقي لمثل هذه التحركات. وفي الواقع، فإن "حكاية" السلفيين ليست بجديدة عن المشهد العام في تونس بعد الثورة، فقد سبق أن عاشت البلاد أحداثا مختلفة لها علاقة بالتيار السلفي، وبلغ الأمر حدّ حدوث مواجهات دامية وحد إدخال البلبلة والمخاوف بين المواطنين في بعض المناطق.
كما أدت وقائع أخرى إلى تدخل الأمن والجيش مما تسبب في سقوط أرواح بشرية على غرار ما حصل في بئر علي بن خليفة والروحية...
وفي المدّة الأخيرة تصاعدت وتيرة مثل هذه الأحداث، وبلغ الأمر حدّ استهداف مقرات سيادية مثل التلفزة والإذاعة ومراكز الأمن، إضافة إلى ممتلكات خاصّة مثل مقرات مؤسسات إعلامية ونزل وحانات وأماكن لها طابع تراثي مثل المقامات والمزارات.
سلفيون في الظاهر
ظاهريا، بدى أبطال هذه التحركات أشخاص ذوي خلفيات دينية إسلامية معروفة وهي أساسا التيار السلفي: أشخاص ملتحين ويرتدون لباسا معينا وتبدو عليهم الشدة في الحوار وفي كل من يخالفهم الرأي فضلا عن تحركاتهم العنيفة أحيانا والتي تثير المخاوف في صفوف المواطنين وهي تصرفات لا تقف حدّ المواطنين بل تتعداها إلى قوات الأمن عندما يتعلق الأمر بإيقاف أو سجن أحد عناصرهم.
وظاهريا أيضا، تبدو تحركات هؤلاء مبنية على قناعات دينية صارمة، إذ يدعو هؤلاء باستمرار إلى تطبيق متشدد أحيانا لتعاليم الإسلام على غرار الدعوة لمنع بيع الخمر، وبالتالي غلق الحانات والنزل والدعوة للامتناع عن اللباس غير المحتشم (بالنسبة للمرأة) إلى غير ذلك...
إلى حدّ الآن تبدو الأمور طبيعية رغم أنها غريبة بعض الشيء عن التونسيين فقد تعوّد كثيرون على التعايش معها، بل وهناك من تعود النقاش والحوار في شأنها مع المنتمين لهذا التيار السلفي في إطار حرية التعبير، كما فتحت المنابر الإعلامية أبوابها لبعض قياديي هذا التيار ليعبروا عن مواقفهم بكل حرية.
لكن ما يثير الاستغراب هو أنه كلما تحدّث هؤلاء القياديين في وسائل الإعلام أو في منابر النقاش إلا وأكدوا على رفضهم كل أشكال العنف والاعتداء على الغير واستعمال القوة في تحركاتهم، بل هم يؤكدون على أهمية الحوار والتسامح اقتداء بتعاليم الدين الإسلامي.
لكن عند النزول إلى "الميدان"، ينقلب المشهد تماما ويقف الجميع على حقائق أخرى لهذا التيار مثل التشدد والعنف المادي واللفظي، وهو ما حصل أكثر من مرة في أكثر من منطقة ، وهنا تتأتى الغرابة.
تجمعيون أم يساريون أم نهضويون؟
يؤدي ذلك في كل مرّة إلى بروز إشاعات عديدة تقول أن ما يحصل على الميدان من عنف وشغب واعتداءات على أيادي أشخاص ملتحين لا علاقة له بالتيار السلفي الحقيقي بل بأشخاص آخرين محسوبين على تيارات سياسية معينة تعتمد طريقة اللحى واللباس "الديني" لبلوغ غايات سياسية معينة.
فأنصار الأحزاب الثلاثة الحاكمة لا سيما أنصار النهضة يقولون أن هؤلاء المحسوبين على التيار السلفي هم في الأصل أنصار عناصر كانت منتمية سابقا لحزب التجمع المنحل وأنها الآن أطلقت اللحى لإيهام الناس بأنها منتمية للتيار السلفي، لكن غايتها الحقيقية هي بث البلبلة في عمل الحكومة وإرباكها ومحاولة "إسقاطها" خاصة بعد كثرة الحديث عن تحضير الحكومة لإقصاء التجمعيين في الانتخابات القادمة. لكن السؤال المطروح لماذا لا تقوم الحكومة الحالية بالقبض عليهم وردعهم في كلّ مرة يتعدون فيها على القانون والممتلكات؟
ومن هنا يأتي موقف آخر يقول أن هؤلاء هم في الأصل يساريون معارضون للحكومة وأنهم لجئوا لمثل هذه الوسيلة من أجل الغاية نفسها وهي إرباك عمل الحكومة وأساسا حزب النهضة ومنع استقرار البلاد للدفع نحو تغيير النظام الحاكم.
لكن هناك موقف آخر يزيد في تعقيد الأمور بالنسبة للمتابعين والملاحظين للمشهد السياسي التونسي. ويقول هذا الموقف أن المحسوبين على التيار السلفي هم في الحقيقة أنصار حركة النهضة أو بالأحرى ذراعها اليمنى في "الميدان" وأن الحكومة تركت لهم حرية التحرك قصد السيطرة أكثر ما يمكن على الشارع وبث الخوف والرعب في الناس وخاصة في المعارضة وبالتالي إجبارهم على الصمت وعلى القبول بالأمر الواقع فيما يتعلق بالحكم.
ويذهب آخرون أبعد من ذلك بالقول أن هذه التحركات "السلفية" هي في الواقع بدعم حزب النهضة الحاكم قصد مزيد فرض أسلوبه في الحكم ، الذي يرى كثيرون أنه لن يبتعد عن منطق التشدد الديني، ولابد بالتالي من وجود طرف في الواجهة لأن النهضة لا تريد أن تبرز في الواجهة كحزب متشدد بل تسعى دوما إلى إبراز طابعها الاعتدالي المتسامح.
ويأتي كل هذا رغم أن وزراء في الحكومة أكدوا أكثر من مرة أنه لن يقع السماح للتيارات السلفية بأن تدخل البلبلة في البلاد وأنه لا تسامح معها عندما يتعلق الأمر باستقرار و أمن البلاد.
ومن جهة أخرى ، تثير سلبية الأمن والجيش تجاه هذه التحركات "السلفية" أكثر من نقطة استفهام، خاصّة لما نعلم أن قوات الأمن قالت مؤخرا أن لديها تعليمات بعدم التعامل بالعنف مع كل محسوب على التيار السلفي وطالبت من الحكومة ومن وزير الداخلية السماح لها بالتعامل مع هؤلاء وفق ما يقتضيه القانون.
و يزداد الغموض أكثر حول هذا الموضوع لما نعلم أن قوات الأمن أوقفت طيلة الأشهر الماضية عددا من المشبوه فيهم من الملتحين و"السلفيين" بتورطهم في أعمال شغب وعنف، لكن لم تبرز إلى الآن للعموم نتيجة أي تحقيق أمني أو قضائي معهم.
وأمام كل هذه المواقف المختلفة، يبقى الأمل في ضرورة تدخل الحكومة لحسم المسألة ولتوضيح الرؤية أمام المواطنين حول ما أصبح يعرف ب"لغز السلفيين" ولتوضح للعموم نتيجة التحقيقات الأمنية التي تمت مع عدة عناصر "سلفية" لأن الأمر لم يعد يطاق فعلا ولأن البلاد أصبحت مهددة بالخطر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.