الحكم بالسجن مدة سنة في حق برهان بسيّس ومراد الزغيدي    مجلس الوزراء يصادق على مشروع قانون يتعلق بتنقيح أحكام الفصل 411 من المجلة التجارية    وزارة الشؤون الاجتماعية: خلاص 382,8 مليون دينار لفائدة كافة منظوري "الكنام" من مضمونين اجتماعيين ومسدي الخدمات في القطاعين العمومي والخاص    قفصة: تقديرات أولية بإنتاج 153 ألف قنطار من القمح الصلب هذا الموسم    اتحاد الفلاحة: الفلاحون يبيعون قرابة 150 الف اضحية فقط وفق الوزن في ظل سوق اكتسحه السماسرة    الشركة التونسية للملاحة تفتتح خطا بحريا جديدا باتجاه وجهتين ايطاليتين جديدتين انطلاقا من ميناء حلق الوادي.    إيرلندا وإسبانيا والنرويج تعترف بدولة فلسطين.. وإسرائيل تستدعي سفراءها وتتوعد    منجي الباوندي .. قصة عالم كمياء تونسي حاز جائزة نوبل سمته الخجل تتحول الى مصدر الهام المئات من الطلبة    بطولة العالم لالعاب القوى لذوي الاعاقة: برونزية لمحمد نضال الخليفي في سباق 100 متر كراسي (فئة تي 53)    اياب نهائي كاس رابطة ابطال افريقيا : وفد الترجي الرياضي يشد الرحال الى العاصمة المصرية القاهرة    مجموعة تفادي النزول : صراع البقاء يزداد تعقيدا بعد فوز مستقبل سليمان على مستقبل المرسى واتحاد تطاوين على اتحاد بنقردان    انطلاق أولى رحلة للحجيج التونسيين نحو المدينة المنورة لموسم الحج 1045 ه-2024 م    الكرم الغربي: براكاج دموي لتاكسيست باسلحة بيضاء    تفكيك شبكة للتنقيب والإتجار في الآثار بمنطقة الزهروني وحجز 240 قطعة نقدية أثرية (بلاغ)    بشخصية نرجسية ومشهد اغتصاب مروع.. فيلم عن سيرة ترامب يثير غضبا    مهرجان كان : الجناح التونسي يحتضن مجموعة من الأنشطة الترويجية للسينما التونسية ولمواقع التصوير ببلادنا    الفيلم الفرنسي "Goliath" يفتتح الدورة السابعة لمهرجان الفيلم البيئي بتونس    وزارة الصحة: جلسة عمل حول تركيز مختبر للجينوم البشري لتعزيز جهود الوقاية والعلاج من الأمراض الوراثية والسرطانية    المؤتمر الوطني العاشر لجراحة التجميل ينعقد بالعاصمة يومي 24 و25 ماي الجاري    سنة 2025: إدراج التلقيح ضد سرطان عنق الرحم برزنامة التلاقيح (جمعية طب النساء والتوليد)    "ليكيب" تكشف كواليس لقاء بين ماكرون ورئيس ريال مدريد    تضاعف المخزون الاستراتيجي للحليب مقارنة بالعام الماضي    الرئاسة الإيرانية تكشف ..تفاصيل اللحظات الأخيرة في رحلة رئيسي ورفاقه    تسجيل فائض بقيمة 1،3 مليار دينار على مستوى الميزانية    «دربي» الشغب في كرة اليد الترجي يفوز على الافريقي في ذهاب نهائي البطولة ويقترب من اللقب    خامنئي لهنية.. مخبر سيتبع نهج رئيسي وسيتحقق وعد فلسطين من البحر للنهر    المنستير: الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي المعزز في قطاع الصحة أبرز محاور الأيام الوطنية الثالثة للابتكار البيداغوجي    قبلي: حجز أقراص مخدرة والإحتفاظ بشخصين أحدهما أجنبي    غار الدماء .. حريق يأتي على هكتارين من حقول القمح    وزارة الاقتصاد.. لا نيّة لخوصصة شبكة الكهرباء أو التفويت في الستاغ    روسيا تنفي وجود مقاتلتين لها في جزيرة جربة    وفاة منصف درغوث الطبيب المختص في جراحة العظام    صفاقس : إحباط عملية تحضير لإجتياز الحدود البحرية خلسة    عاجل/ هذا ما تقرّر في حق سعدية مصباح    اتحاد الفلاحين يؤكد أهمّية احداث مجلس أعلى للسيادة الغذائية    تصريح صادم لبلينكن: لسنا حزينين لوفاة رئيسي والشعب الإيراني أصبح بوضع أفضل    بمسرح الهواء الطلق بقرمبالية ..عرض انيستي عزة" للممثلة كوثر بالحاج    وزيرة الصناعة: "لا زيادة في اسعار المحروقات حتى آخر السنة"    تونس : المخزون الاستراتيجي من الحليب المعلّب يقدر ب 20 مليون لتر    اجراء قرعة التناوب بالمجالس الجهوية بداية من 1 جوان    المرسى: منحرف خطير في قبضة الأمن    عضو بمجلس إدارة البنك المركزي : تعيين لمياء جعيدان مزيغ عوضا عن ليلى البغدادي    التونسي هيكل الشيخاوي يحرز رابع أهدافه في البطولة الاماراتية    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الاربعاء 22 ماي 2024    مسرحية "السيدة المنوبية" تفتتح الدورة الرابعة لأسبوع المسرح البلدي بتونس    عاجل : الترجي يقدم هذه التوصيات لأحبائه الذين سيحضرون مباراته مع الأهلي    غوارديولا يفوز بجائزة أفضل مدرب في البطولة الإتقليزية الممتازة لهذا العام    قفصة: حادث مرور يسفر عن وفاة شاب    عاجل/ النرويج تعلن استعدادها لاعتقال "نتنياهو"..    اليوم ..مراد الزغيدي و برهان بسيس أمام الدائرة الجناحية الثامنة بابتدائية تونس    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    انتصرت لها تونس خيمة لسينما غزّة في «قلب كان»... رغم رفض «المهرجان »    سعاد الشهيبي تستعد لإصدار "امرأة الألوان"    هل فينا من يجزم بكيف سيكون الغد ...؟؟... عبد الكريم قطاطة    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس : الحقيقة الغائبة

انتهت مؤخرا محاكمة المتهمين عن الأحداث الغامضة التي شهدتها أحواز العاصمة خلال الأيام الأخيرة من السنة الماضية و الأولى من السنة الحالية أو ما يعرف ب "مجموعة سليمان". وكما لم تجب هذه المحاكمة عن الأسئلة الحقيقية التي تطرحها هذه القضية لم تقدم الجواب الكافي لكشف الغموض حول حقيقة ما حصل. و من جانب آخر جاء التعاطي مع هذه القضية متناقضا تماما بين الطابع المتسرع و المتشنج في مرحلتها الإبتدائية و الأريحية النسبية التي شهدتها المرحلة الإستئنافية دون أن ينعكس ذلك بصفة ملموسة على حصيلة الأحكام النهائية بما يضيف تناقضا إضافيا و يزيد من إبهام الوضعية.
و للتذكير فقد كانت العاصمة و أحوازها شهدت في الأيام الأخيرة لسنة 2007 و بداية 2008 إنتشارا أمنيا غير معهود و تركيز لنقاط تفتيش على مختلف مداخل و مخارج العاصمة و المدن المحيطة بها و قد صاحبت هذه الحالة مع ما رافقها من تعتيم إعلامي سريان لإشاعات متضافرة عن تسرب عناصر مسلحة و إكتشاف مخططات لإستهداف مقرات دبلوماسية و لتفجير منشئات سياحية بمناسبة إحتفالات نهاية السنة الميلادية و حدوث مواجهات في أماكن مختلفة مما أدى إلى حصول بلبلة لدى الرأي العام وحالة خانقة من التوجس و الخوف. و قد إنتهت تلك الأحداث بعد تدخل الجيش الوطني واستعمال الطائرات المروحية بإعلان وزير الداخلية خلال ندوة صحفية على القضاء على "مجموعة إرهابية" بسقوط 12 فردا من عناصرها و أسر البقية ووفاة عنصرين من الأمن و الجيش أثناء مواجهتهم لها. و قدمت منذ ذلك الوقت عدة قراءات صحفية و حقوقية للأحداث بعضها صادر عن أوساط معارضة لم تخرج عن الرواية الرسمية أو ما ورد في محاضر البحث التي سمح للمحامين بالإطلاع عليها مؤخرا تمهيدا للمحاكمة المتولدة عن هذه القضية.
و الأسئلة الأساسية التي تطرحها هذه القضية و تعطيها أهميتها تتعلق بمعرفة ما إذا كان قد حصل فعلا بناء تنظيم مسلح في الداخل لمواجهة السلطة القائمة؟ و هل أن هذه المجموعة إرتقت في بناء تنظيمها إلى حد استشعار القدرة على مواجهة السلطة بالسلاح؟ و هل تمت مواجهات مسلحة تجاوزت طاقة المؤسسة الأمنية بحيث تطلبت تدخل الجيش؟ و هل أن هذا التنظيم كان يخطط فعلا لقلب نظام الحكم و له من الطاقات ما يمكنه من تولي السلطة؟ و هل لهذا التنظيم خلفية الدينية و إديولوجية ناضجة ولها من الإنسجام و العمق ما يؤهلها للحكم؟
في الحقيقة هذه هي الأسئلة التي تطرحها نصوص الإتهام التي بنيت عليها هذه المحاكمة. و بعبارة أخرى هل أننا بعد خمسين سنة من دولة الإستقلال مع كل التضحيات التي بذلت في سبيلها مازلنا في مستوى نظام يمكن أن يسقط لقمة سائغة لحفنة من المغامرين لا هوية سياسية لهم و لا صلة تجمعهم بكل مكونات الدولة و المجتمع المدني القائمين؟ و هذا لسوء الحظ ما أوحت به طريقة التعامل مع هذه الأحداث و مع المحاكمة الناجمة عنها.
إن ما نعرفه اليوم بوجه التأكيد لا يتعدى تسرب ستة عناصر مسلحة أحدهم أجنبي كانوا على صلة بالمجموعات المسلحة في الجزائر منذ شهور قبل الأحداث إلى تونس ذكر وزير الداخلية أن مصالحه على علم بهم. كما تبين أن الأسلحة المتوفرة لديهم لم تتجاوز 6 رشاشات و بعض القنابل البدائية المصنعة محليا لم يقع عرضها طبق ما يقتضيه القانون. كما أن جميع المتهمين الرئيسيين بمن فيهم المتسللين قد قتلوا و لم يقدم للمحاكمة إلا من إتصلوا بهم بحكم القرابة أو علاقات الدراسة و التوجه العقائدي و جميعهم لا يملكون إي خبرة في استعمال الأسلحة أو هيكلة سياسية و قد تم إلقاء القبض عليهم إثر فرارهم و مطاردتهم أو بعد التفتيش عنهم ولم يؤسروا إثر مواجهات مسلحة مع مطارديهم كما بينت محاضر بحثهم.
لا شك أن حجم القضية كان سيتغير بشكل كبير لو أنها قدمت منذ البداية على هذا النحو. كما أن القضية نفسها ستصبح مختلفة نوعيا لو جرى تقديمها طبق حقيقة وقائعها و الوسائل المتوفرة لفاعليها. و يتجلى اليوم بشكل لا يدع مجال للشك حصول مغالطة من الخطاب السياسي المعتمد حول هذه الموضوع وأنه وقع توظيف متعمد للإعلام حول هذه القضية بهدف إثارة الرأي العام الداخلي و الدولي للإيحاء بأن البلاد التونسية مستهدفة بصفة جدية من قبل شبكات الإرهاب الدولية و أن نظامها قابل للسقوط بمثل هذه العملية. كما يتبين أن حالة التعبئة التي حصلت لم تكن متناسبة مع طبيعة التهديد و أن إقحام الجيش الوطني بالشكل الذي حصل لمطاردة هؤلاء البؤساء المذعورين لا يجد تفسيرا منطقيا له سوى كونه يندرج في إطار التهويل المتعمد لحقيقة ما حصل.
لذلك نجد أنفسنا منذ البداية أمام قضية سياسية بامتياز لم يتعدى دور القضاء فيها دور الأداة المسيرة لخدمة أهداف لا علاقة له بها شأنه شأن بقية المؤسسات من مؤسسات إعلامية و مؤسسة عسكرية و إدارة عمومية و أمن وطني و غيرها من الوسائل العمومية التي وقعت تعبئتها لحبك السيناريو و تنفيذ الخطة المقصودة منها. وهكذا بقدر ما تتضح بساطة الوقائع الحقيقية للعملية تبرز و تتضخم التسائلات حول وجود مؤامرة خفية على الدولة و المجتمع لم تكن القضية سوى ستارا لها. لذلك فإن أي قراءة تغفل خلفية الأوضاع السياسية التي تمر بها بلادنا في تناول هذه القضية لا يمكن أن تكون عديمة الموضوعية (1) كما أن النتائج المترتبة عنها لم تزد المأزق السياسي و الحقوقي إلا خطورة و تعميقا. (2)
* * *
لو حاولنا اليوم على ضوء المعطيات النهائية المتوفرة لدينا إيجاد تفسير لطريقة لتعامل النظام مع هذه القضية لما وجدنا أكثر من إحتمالين لا ثالث لهما:
الاحتمال الأول: أن النظام يكذب و لم تكن لديه أدنى معلومات عن تسرب عناصر مسلحة من الحدود الجزائرية و دخولها العاصمة و نجاحها في جمع مجموعات لتدريبها بمنطقة عين طبرنق. لذلك تصرف بحالة ذعر و تعامل مع القضية بما تتطلبه أقصى الحلول من تعبئة لجميع الطاقات المتوفرة لديه للدفاع عن نفسه. و نكون بذلك أمام حالة قصور أمني وإستخباراتي خطيرة شبيهة لما حصل في حوادث قفصة في عهد بورقيبة. و لو أن ذلك ما حصل لكان من المحتم أن يتجلى لا حقا في إعادة هيكلة وتغيير جذري في القيادات الأمنية. وهو ما لم يحصل مما يجعلنا نسقط فرضية هذا الإحتمال.
الاحتمال الثاني: أن النظام يكذب و أنه كان على علم تام بتسرب المجموعة و محدودية الوسائل المتوفرة لها و حقيقة التهديد الذي يمكن أن تشكله و كان بإمكان الأجهزة الأمنية إلقاء القبض عليهم و محاكمتهم دون ضجة مثل ما يقع يوميا في كثير من المحاكم بموجب قانون الإرهاب و لكنه تغافل إن لم نقل سهل مأموريتها في انتظار الظرف الزمني و الإطار الذي يلائمه لإعطاء القضية الوقع و الضجة التي يبحث عنها. و هو الإحتمال الأقوى و المنسجم مع حقيقة ما حصل.
ذلك أنه لبلادنا تقاليد عريقة مع هذا النوع من المحاكمات السياسية و المناورات و المؤامرات التي تختفي خلفها. و لو عدنا إلى تاريخ دولة الإستقلال منذ نشأتها لوجدنا أنه كلما إشتد الضغط الداخلى على السلطة ووجدت نقسها في مأزق يفرض عليها مراجعة منظومتها الشمولية و فتح مجال المشاركة تحت ضغط مكونات المجتمع المدني الصاعدة التجأت إلى الإدعاء بالمؤامرة لحسم الصراع السياسي و تغليب ميزان القوى لصلحها أمنيا باستعمال القوة العامة ضد المجتمع على حساب القانون و السير العادي للمؤسسات الدستورية. و نكتفي لذلك بالحالتين الأخيرتين:
فقد وقع الإلتجاء إلى هذا السيناريو عندما إندلعت الأزمة بين النظام و الإتحاد العام التونسي للشغل منذ ثلاثين سنة ووصلت إلى حد القطيعة بانسلاخ النقابيين عن الحزب الحاكم و قرار الإتحاد العام إعلان الإضراب العام في البلاد لفرض تحقيق مطالبه و برز كقوة معادلة للحزب. وكان جليا أن النظام لم يعد بإمكانه البقاء دون القبول بتنازلات من شأنها أن تغير من طبيعة السلطته المطلقة و منطق الحزب الواحد الذي حكم به البلاد منذ الإستقلال و انحصر الخيار أمام النظام بين القبول بأن يقع مشاركته في السلطة أو الحد منها أو القضاء نهائيا على التهديد الذي تشكله المركزية النقابية.!--[if !supportFootnotes]--[1]!--[endif]-- و اختار النظام إتهام قيادة الإتحاد بالمؤامرة و تقديمهم للمحاكمة.
و بعد خمسة عشر سنة من ذلك بعد الإطاحة بالرئيس السابق الحبيب بورقيبة و صدور بيان 7 نوفمبر و العفو على الإسلاميين المعتقلين وقبولهم بتغيير اسم حزبهم و الإمضاء على الميثاق الوطني و بمساندة الرئيس بن على في الإنتخابات الرئاسية و الرضا بالمشاركة بقوائم مستقلة في الإنتخابات التشريعية و تحت الضغط الذي أصبحت تمارسه حركة النهضة على النظام للقبول بها و انتقالها إلى تنظيم المظاهرات و المسيرات الجماهيرية في عملية لي للذراع بينهما و جد النظام نفسه مرة أخرى في مأزق بين القبول بتنازلات تغير طبيعته و تجسد الوعود التي بنى عليها شرعيته أو القضاء على الإسلاميين و خلق حالة رعب توجس من مخاطر محدقة بالبلاد تطلق يديه. و هذا ما حصل بتنظيم المحاكمة الشهيرة أمام المحكمة العسكرية و إطلاق حملة المطاردات على مدى 15 سنة كما حصل بالنسبة للنقابيين على مدي الخمسة عشر سنة التي سبقتها.
و ما يحصل اليوم ليس سوى محاولة تكرار لنفس السيناريو رغم تغير المعطيات بحيث إعتقد بعض النافذين داخل النظام أن التلويح بوجود مخاطر كبيرة و تنظيم محاكمة ضخمة و حملات مطاردة ومحاكمات يومية بدعوى مكافحة الإرهاب تعيد النظام إلى شرعية المدافع عن الأمن و الأستقرار و تسهل شق صفوف مناوئيه من المعارضة و الإسلاميين و تضييق الحصار و زيادة التنكيل و التشويه لكل من يتصدى للمخطط التقليدي في البحث عن عهدة جديدة قائمة على شرعية المنقذ للوطن و حامى الحمى بعد أن اشتد الضجر و الضيق في جميع الأوساط من هذا النموذج المتخلف للسلطة.
و عندما تتحول المحاكمات على هذا المنوال إلى قاعدة متواترة أحرى بنا أن ننتبه لحقيقة ما يحصل حولنا. لأننا نعرف اليوم كم هو مدمر أن نعيش تحت كابوس سلطة لا تحمل أي إعتبار لقيم العدالة و لا تقيم وزنا لأي مؤسسات كلما تعلق الأمر بها. كما إنكشف بكل وضوح الدور الخطير الذي يضطلع به جهاز القضاء في وضعه الحالي في تكريس نظام الإستبداد و الدفاع عن الطابع الشمولي للسلطة منذ الإستقلال.
* * *
يمكن القول من الآن أن هذه المحاكمة فشلت سياسيا و أظهرت أن الشعب التونسي لم يعد من السذاجة لينخدع بمجرد إيهامه بوجود مؤامرات و أن الفعاليات الحية رغم نيل الإضطهاد من كل ما حاولت جاهدة لبنائه من تنظيمات لازالت قادرة على تحمل المسؤولية في أقسى الوضعيات. لذلك لم تجلب هذه المحاكمة لمن خططوا لها سوى الإستهجان من الداخل و الخارج و زادت من تعميق عزلتهم و توسيع الشكوك حول حقيقة طريقة ممارستهم للسلطة و مسؤوليتهم عن الأوضاع التي أدت إلى مثل هذه القضية إظافة إلى الخطر الذي أصبحو يشكلونه على كيان الدولة نفسها. و هي ليست تعبير عن شماتة معارض و لكنها تلخص الشعور الذي يحمله كل تونسي لا يريد غير الخير لبلده و مجتمعه مهما كان موقفه و موقعه من السلطة نفسها.
لذلك لاحظنا كيف وجد نفسه النظام نفسه في وضعية وأمام الضغوط مجبرا على تغيير تعامله كليا في تسيير هذه القضية في الطور الإستنئنافي و لكنه تحول تحول شكلي لم يعي تماما حقيقة ما حصل لذلك لم تتغير نتيجة المحاكمة و هو مازاد الأمور تعقيدا. فلئن سمح هذا التغيير في التعامل مع القضية بكشف الخروقات و بطلان الإجراءات و الممارسة المنهجية للتعذيب و فضح حضر رموز من السلطة لممارسته فقد أقام الدليل أيضا على عدم حياد القضاة الذين تعول عليهم السلطة و تغاضيهم عن إستخلاص النتائج المنطقية التي يقتضيها القانون عن مداولات المحاكمات التي تتم أمامهم. و هذا ما كان نبه إليه التقرير الأخير لمنظمة هيومن واتش بقوله " يفتقر القضاء إلى الاستقلالية، وكثيراً ما يتغاضى النواب العموميون والقضاة عن مزاعم التعرض إلى التعذيب حتى عندما يقدم المحامون شكاوى رسمية بهذا الشأن. ويصدر قضاة الحكم أحكامهم على المتهمين استناداً، فقط أو بشكل أساسي، إلى اعترافاتٍ منتزعةٍ قسراً أو إلى أقول شهود لا يحظى المتهمون بفرصة مواجهتهم في المحكمة." و عكسته حدة البيان الأخير لمنظمة العفو الدولية الصادر إثر هذه المحاكمة الذي تضمن تصريح مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة بأن "هذه القضية تشكل انحرافاً عن مجرى العدالة ولا يجوز السماح بتمرير الإدانات والأحكام"، و أنه "ينبغي على السلطات التونسية الآن تصحيح سوء تطبيق العدالة هذا وإصدار أمر بإحالة القضية إلى إعادة المحاكمة، حتى تتسنى إقامة العدل". و لا شك أن تصريحات كهذه تنسف أحد الركائز الأساسية للنظام لأنه لا يمكن لأي نظام في الوقت الحاضر المحافظة على شرعيته الدولية إلى ما لا نهاية له بواسطة مؤسسات شكلية منحرفه على النحو الذي أصبح عليه قضائنا و مؤسساتنا.
كما زاد الوضعية المترتبة عن هذه المحاكمة تعقيدا تنزلها ضمن سلسلة من المحاكمات أعطت الإنطباع بأنها لم تكن سوى تصفية لحسابات أوعزت بها السلطة للقضاء لتصفية بعض خصومها.
فقد جاءت محاكمة الصحفي المعارض سليم بوخذير تحمل جميع مواصفات الكمين المرتب لاستفزازه بقصد خلق المبررات اللازمة لاعتقاله. و هو ما تم صبيحة يوم توجهه من صفاقس إلى تونس بقصد إستخراج جواز سفر بناءا على إتصال جرى معه في اليوم السابق يدعوه للقدوم لحل الإشكال بشأنه بعد أن كان قد أنهى إضرابا عن الطعام للمطالبة بحقه في جواز سفر منذ مدة قصيرة.
ثم جاءت قضية المنشط الفكاهي الهادي أولاد باب الله الذي ألقي عليه القبض بعد أن قام بتقليد الرئيس بن على بصورة فيها الكثير من الجرأة خلال حفل سبق ذلك ببضعة أيام و حوكم بتهمة عثور أعوان المرور على مواد مخدرة و عملة مزيفة في السيارة التي كان يتسوغها. و هو ما لم يصدقه أحد عدى القاضي الذي حكم بسجنه.
كما أن القضية التي يتواصل إعتقال الصديق السابق للرئيس بن على و منافسه في الإنتخابات الرئاسية عبد الرحمان التليلي المضرب على الطعام حاليا منذ أكثر من شهر لا يرى فيها الرأي العام سوى عملية تصفية حسابات على خلفية خلافات سياسية بقطع النظر عن ثبوت وقائعها خاصة وأن ظاهرة الإثراء من السلطة متفشية وليست مقتصرة عليه لو اتجهت الإرادة لوضع حد لها.
لذلك نجد الشعور السائد اليوم يتلخص في وجود حالة تعفن تضافرت القرائن على تأكيد خطورتها. و لا نشك في أن الكثيرين في السلطة نفسها شعروا بمستوى التردي الذي بلغته حالة نظام أصبح لا يجد غير محرز الهمامي شهر "محرز بوقة" يتستر ورائه و يتركه يصول و يجول في قصر العدالة و يعبث بالقضاء و يدوس القوانين و يهين العميد و المحامين غير مكترث بمصير أبناء عشرات العائلات من التونسيين. و لعل في الإستجابة السريعة لرئيس الدولة لكل المطالب المزمنة للمحامين و استقباله السيد البشير الصيد و منح نادي المحامين للهيئة علامة على الوعي بخطورة ما حصل و محاولة لجبر بعض الضرر.
* * *
إننا لا نرمي إلى الإستهانة بخطورة الأفعال التي تعلقت بها هذه القضية و لا إلى التهوين من مسؤولية المتهمين عما إقترفوه بل إلى الدعوة إلى الإرتفاع إلى مستوى الدولة التي تحترم مواطنيها و تلتزم قوانينها تعلي شأن مؤسساتها و هو ما تضمنته بيانات كل المنضمات الحقوقية الوطنية و الدولية التي تابعت هذه القضية و ليس لنا ما نضيف عليه.
و لكننا نهدف من هذه القراءة إلى تجاوز الموقف الحقوقي و محاولة ملامسة التبعات السياسية المحتملة لهذه الوضعية في مجرد ومضات حتى لا نستبق الوعي العام لنخبنا و مجتمعنا الذي هو بصدد التفاعل و التشكل حاليا.
الملاحظة الأولى تتعلق ببروز شكوك جدية حول صلابة الدولة الوطنية و مستوى الثقة فيها و هنا لا نتحدث عن النظام القائم لكن عن الدولة نفسها التي أصبحت تتحمل نفس المطاعن التي توجه للنظام و تكاد تندمج فيه و هي وضعية لا تشرع سوى للمواجهة المسلحة و التي أصبحت مستساغة بما كشفته هذه القضية من السهولة التي تمكن بها المسلحون من إستدراج كل هؤلاء المتهمين.
الملاحظة الثانية تتعلق بالتحول العميق الذي تشهده الساحة السياسية الداخلية بين توجهين رئيسيين يكادان يقلبان كل الموازين المعهودة رأسا على عقب و لا فرق بين وضع السلطة و وضع المعارضة بهذا الشأن.
تيار يبحث عن تجاوز الإحتقان وعيا بالتحديات و يحاول بناء جسور لحوار وطني شامل بقدر الإمكان بحثا عن الحلول اللازمة لتجاوز مأزق مرحلة النظام الشمولي المتسلط نحو مستقبل لا يقوم على الإقصاء ولا على الإضطهاد و تتحقق فيه قيم العدالة المساوات و الحرية التي يحلم بها مجتمعنا و القضية هنا لا تتعلق بتخفيض سقف المطالب و إنما بالبحث المشترك عن تقييم موضوعي مشترك لما يمكن أن يبدأ تحقيقه منها أعتقد شخصيا أن هذا التيار يحمل من الوعود ما يجعله قادرا على تقويض منظومة الإستبداد كليا.
و تيار في السلطة كما في المعارضة يستشعر أيضا مؤشرات التحول ولكنه يراهن من كل جهة على ضعف و مأزق الجهة المقابلة للإجهاز عليها بكل طاقاته ممنيا نفسه الإنفراد بالساحة و انتهاز الفرصة التاريخية بما توفرت له من طاقات ذاتية. و لاشك أن هذا التوجه لو تغلب فسيقودنا مباشرة إلى المواجهة و سيدخل البلاد في دوامة لا يمكن لأحد التنبئ بنهايتها و هو في كل الحالات سواء تغلب شق الإستبداد في السلطة أو شق الإنتهازية في المعارضة لن تكون غلبته إلا بدعم قوى أجنبية.
و تبدو المرحلة رغم تشابك معطياتها سائرة نحو توضح الرؤيا و تحقيق شفافية سياسية غير معهودة قد تؤسس لوعي سياسي جديد و سليم يعيد للقيم مركزيتها بما سيساعد على تعزيز جانب النزاهة و المكاشفة و النقد الذاتي و يفتح مرحلة المشاركة السياسية و الوعي بقيمة عامل القوى البشرية في بنائنا الحضاري و هي مقومات لا بد منها في بناء أي ديموقراطية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.