تسبّبت في تسمّم 11 تلميذا: الاحتفاظ بصاحب كشك ومزوّده من أجل بيع حلوى مجهولة المصدر    قريبا: اقتناء 18 عربة قطار جديدة لشبكة تونس البحرية    مصر.. مفاجأة جديدة في قضية "سيدة بورسعيد"    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كاس تونس: النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي ويتأهل الى ربع النهائي    مديرو بنوك تونسية يعربون عن استعدادهم للمساهمة في تمويل المبادرات التعليمية    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    الهيئة الإدارية للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس تدعو إلى عقد مجلس وطني للمنظمة خلال سبتمبر القادم    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    تسمّم تلاميذ بالحلوى: الإحتفاظ ببائع فواكه جافّة    افتتاح معرض «تونس الأعماق» للفنان عزالدين البراري...لوحات عن المشاهد والأحياء التونسية والعادات والمناسبات    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قابس: نقل 15 من تلاميذ المدرسة الاعدادية ابن رشد بغنوش بعد شعورهم بالاختناق والإغماء    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    سبيطلة : القبض على مجرمين خطيرين    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    مصر: رفع اسم أبوتريكة من قائمات الإرهاب والمنع من السفر    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    عاجل/ القصرين: توقف الدروس بهذا المعهد بعد طعن موظّف بسكّين امام المؤسسة    تحذير: عواصف شمسية قوية قد تضرب الأرض قريبا    كرة اليد: الاصابة تحرم النادي الإفريقي من خدمات ركائز الفريق في مواجهة مكارم المهدية    صفاقس اليوم بيع تذاكر لقاء كأس تونس بين ساقية الداير والبنزرتي    بنزرت: جلسة عمل حول الاستعدادات للامتحانات الوطنية بأوتيك    صفاقس: المناظرة التجريبية لفائدة تلاميذ السنوات السادسة    مدير عام الغابات: إستراتيجيتنا متكاملة للتّوقي من الحرائق    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    بلاغ مروري بمناسبة مقابلة الترجي والأهلي    المنستير: إحداث أوّل شركة أهليّة محليّة لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    عاجل/ القسّام: أجهزنا على 15 جنديا تحصّنوا في منزل برفح    ليبيا: إختفاء نائب بالبرلمان.. والسلطات تحقّق    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى تأسيس حركة النّهضة : الحلقة الخامسة : قراءة في الخطاب


...
تعرّضنا في الحلقة السّابقة إلى عنصرين اثنين من عناصر ستّة لخطاب حركة النّهضة، وسنتعرّض في هذه الحلقة إلى عنصر مهمّ وخطير استدرجت إليه الحركة ضمن ميكافيليّة تساوم في كلّ شيء بما في ذلك العقيدة، وفي تماه تام في العلمانيّين عبر القبول بصفقة معهم لإبعاد العقيدة من العمل السّياسي. وعنونت هذا العنصر تحت:
1 إسقاط العقيدة من التّدافع واختزال المشروع الإسلامي في مقاومة القهر السّياسي:
لقد اقتحم سياسيّو حركة النّهضة فتنة العمل السياسي دون ضوابط شرعية ففرّطوا في كثير من حقائق الدّين وقطعيّاته، وخلّطوا الحقّ الشّرعي بباطل الأهواء، وجاملوا على حساب الدّين تحت فتن مصلحة الحزب، وأخضعوا الشّريعة التي مبناها على التّسليم والانقياد إلى المخاصمة والاعتراض. والمدهش أنّ القوم يزعمون بهرطقاتهم تلك أنّ هذه هي الوسطيّة، ونسّوا أنّ الله تعالى قد حذّر رسوله ونهاه من أن يفتنه خصومه ويطيعهم في مسائل جدّ فرعيّة و"جزئيّة" منها تحليل "الميتة"، وعدّ القرآن فعل ذلك شركا، فقال لرسوله:" وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ"1. قلت: فكيف بتصريحات قيادة حركة النّهضة التي تصرّح أكثر من مرّة طاعنة في الثّوابت والقطعيّات والأصول، منها ادّعاؤهم أنّ العقيدة عقبة تقف أمام العمل السّياسيّ في تونس وجعلوها صخرة تتحطّم عليها آمال الشّعب التّونسيّ في الحرّيّة والإنعتاق ؟؟؟2، ذلك أنّ العلماني اللاّديني والملحد بزعمهم هو أقرب إليهم من الإسلاميّ العقائديّ لأنّ الأخير يعطّل مسيرة الإصلاح الدّيمقراطيّ بطرحه مسائل العقيدة، ولقد تجسّد قولهم هذا في سلوك سياسي انتحاريّ برز بشكل سالخ فاضح في إمضاء مهين على إعلان هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحرّيّات حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين" الصّادرة بتاريخ 08/03/2007م.
ودون مناقشة مستفيضة لهذه"الهرطقة" المحرّفة لهويّة المشروع الإسلاميّ العقائديّ، والمبيّنة لطبيعة مشروع القوم السّياسيّ "العلمانيّ"، لعدم علمي أنّ عالما معتبرا متحرّرا من التّعصّب قال بمثل ذلك القول الشّنيع الشّاذّ، وإذا كان هذا الأمر شاذّا فلا عبرة به لأنّه أقرب إلى الهوى، ومعلوم أنّه إذا شذّ أحد في قول وندر من وافقه عليه كان ذلك أدعى لتركه وعدم اعتباره، إذ لا يعقل أن ينفرد "حزبيّ" بالحقّ دون غيره، قال ابن تيمية:".. فإنّ العلم رواية ودراية، كلّما كثر فيه العلماء واتّفقوا على ذلك كان أقوى وأولى الاتّباع"3، هذا فضلا على أنّ كلّ عاقل يقرّ بأنّه ليس هناك شيء يحدث في دنيا النّاس من عمل عسكريّ أو سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو إعلاميّ أو رياضيّ، بل حتّى أبسط عمل علميّ إلاّ وله خلفيّة عقائديّة وهويّة فكريّة معيّنة، فكيف تغيب هذه الحقيقة عن عقول حركة النّهضة.
ثمّ أفلا يعدّ ذلك القول الخطير اتّهاما للعقيدة و تهوينا من شأنها وتبخيسا من قدرها؟ وهل يجرؤ عاقل أن يتلفّظ بهذه الكبيرة الخطيرة القاسية؟ فإذا رجّحنا حسن الظّنّ في القوم وهو المطلوب، ونقول إنّهم يمارسون التّقيّة، فإنّه لا يعقل أن يغلوا فيها بما لم يسبقهم فيها أحد، والحال أنّه قد تضافرت الأخبار عن السّلف والخلف في عدم إعطائهم التقيّة في العقيدة، بل دعوا إلى الثّبات عليها ومتعلّقاتها رغم الإكراه الذي يسوغ لهم إعطاؤها، ومن تأمّل سيرهم وجد ذلك مليّا، فهل يثبت سحرة فرعون على عقيدتهم وقد تبنّوها لساعات قليلة وهم ينتظرون السّلخ والصّلب والقتل، أفلا يكون هدهد سليمان أعقل من هؤلاء عندما انتقد نظام حكم سبأ دون نظر إلى منهجهم السّياسي وحكمهم المستقرّ العتيد؟ وهل يكون هدهد سليمان أفهم لمسائل السّياسة من هؤلاء لأنّ أولويّة التّقويم والإصلاح عنده عقائد النّاس وأديانهم لا حرّياتهم وتعدّد أحزابهم؟ أليس الشّرك أظلم الظّلم" يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"4. "وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ 24 أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ 25 "5.
لقد أخضع السّياسيّ المختطف لحركة النّهضة كلّ شيء بما في ذلك العقيدة إلى شرعهم البدعيّ الهشّ وهو ما يسمّونه فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، وكأنّ العقيدة تخضع لذلك الفقه؟ وهو ما يدلّل على اضطراب أولويّات الأصول والفروع عندهم واستعدادهم للتّخلّي عن الثّوابت وقابليّتهم للذّوبان وتقديم الصّفقات السّياسيّة على حساب العقيدة والدّين. فهل ثمّة ضلال أعظم من تنحية العقيدة من العمل السّياسي، وهل ثمّة زيغ أعظم من اتّهام العقيدة والحال أنّ العلمانيّين الذين يمضون معهم المواثيق المذلّة والمهينة لم يتخلّوا عن عقائدهم الباطلة القائمة على الطّعن في ديننا وتجريد السّياسة من الدّين وتجويف الدّين من السّياسة.
وسبحان اللّه كيف تنقلب العقول! فلقد جعل اللّه العقيدة آصرة التّجميع، فيتعمّد الأهوائيّون إلى التّفريق بها، وما أمر الله من أجله الفداء والتّضحية بكلّ غال ونفيس يجعلونه موطن مساومة وصفقات!!!
إنّي والله لأشفق على هؤلاء الذين يقولون هذا القول العظيم، وإنّي أخشى أن لا تكون العقيدة قد ملأت قلب قائلها، لأنّه لو ملأت قلبه اعتقادا ومحبّةً ودعوة لم يدع إلى تجاوزها مهما كانت الأحوال، ذلك أنّ إبعاد العقيدة وإهمالها من المنهج يرشّح الوقوع في ضدّها، وهذا لا يدركه إلاّ فقيه ذاق حلاوة فقه أبي ذرّ الغفاري في قوله:" كان النّاس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير وكنت أسأله عن الشّرّ مخافة أن يدركني"، وعلى مثل هذا سار الذين يحتاطون في دينهم، قال يحيى بن معاذ الرّازي:" اختلاف النّاس كلّهم يرجع إلى ثلاثة أصول، لكلّ واحد منها ضدّ، فمن سقط عنه وقع في ضدّه: وذكر منها : التّوحيد ضدّه الشّرك ... "6
إنّ اتّهام العقيدة بأنّها صخرة تجنّ عظيم وقهر لا يتحمّل، لأنّه ليس هناك آصرة تجمع في الدّنيا خير من عقيدة الإسلام العظيمة، وليست هناك ضمانة تحفظ النّاس من الزّيغ والضّلال والإفساد خير من العقيدة، وليس هناك منهج أعظم من العقيدة لمقاومة الظّلم والعلوّ والاستكبار، فما لهؤلاء لا يفقهون؟ فهل صارت السّياسة عندهم أعظم من العقيدة؟ وهل السّياسة عندهم هي آصرة تجمّع والعقيدة صخرة تفرّق؟ إنّ هذه المقولة الكبيرة مخالفة لمنهج القرآن والسّنّة وعمل الأنبياء عليهم السّلام، وما أجمع عليه علماء الأمّة، وما يعتقده حتّى عوامّ المسلمين.
لقد تاه المنظّر النّهضويّ في تعارض المصالح، فصرعته المصالح السّياسيّة الفرعيّة على المصالح العقائديّة الأصليّة، وتوهّم أنّ مصلحة التّجمّع الموهوم مع السّياسيّين غير العقائديّين أنفع من أيّة مصلحة أخرى، وهذا المنطق لا يعرفه بل لا يفهمه من هو على مذهب أولي العزم من الرّسل، فهذا هارون قد بنا اجتهاده على مصلحة التّجميع السّياسيّ على حساب العقيدة،"فلم يفارق الضّالّين الذين عكفوا على العجل ورأى من المصلحة أن يظهر الرّضى عن فعلهم وكان اجتهاده ذلك مرجوحاً لأنّ حفظ الأصل الأصيل للشّريعة أهمّ من حفظ الأصول المتفرّعة عليه، لأنّ مصلحة صلاح الاعتقاد هي أمّ المصالح التي بها صلاح الاجتماع، كما بيّنّاه في كتاب «أصول نظام الاجتماع الإسلامي». ولذلك لم يكن موسى خَافياً عليه أنّ هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم، فإنّ حرمة الشّريعة بحفظ أصولها وعدم التّساهل فيها، وبحرمة الشّريعة يبقى نفوذها في الأمّة والعملُ بها كما بيّنته في كتاب "مقاصد الشريعة"7.
لقد طالبنا القوم منذ سنتين أو يزيد يوم أعلنّا حركة الإصلاح على مواقع الإنترنت أن يتعقّلوا و يلتزموا غرز الشّرع في تنظيراتهم وأن يلتزموا بالمعلوم من الدّين بالضّرورة في أدائهم السّياسي، ولكنّهم أصرّوا وعاندوا وافتخروا بما هم عليه، وضربوا أصل أصول التقاء المسلمين وتجمّعهم وهو العقيدة من أجل وَهْم أن يُرضوا أعداء العقيدة ويغالبوا السّلطة ويُقبلوا طرفا سياسيّا. لقد قدحوا في أصل جليّ من أصول الدّين من أجل فرع خفيّ ، فهل يقدح عاقل في أصل الأصول المتّفق عليه والجامع للأمّة والمؤلّف بينها من أجل وهم تحصيل فرع من فروع وسائل العمل للدّين مختلف حوله؟
لقد أصرّت مؤسّسات الحركة منذ تأسيسها على أولويّة العقيدة والدّعوة، وعلى تأصيل مواقفها بما يوافق الشّرع، فهل للعقل المختطف المنقلب على أصالة المشروع أن يمدّنا بدليل شرعيّ واحد على هذه البدعة الخطيرة التي ابتدعتها في عملها السّياسي.
وكيف تتحدّث حركة النّهضة بعد ذلك عن صفة إسلاميّة وهي تبعد أصله المتين وركنه الأعظم وقيمته الرّاسخة و صفته المركزيّة و طبيعته السّرمدّيّة.
إنّ تلك المقولة القاسية توافق أقوال الذين يعادون العقيدة، فإذا كانت الأطروحة العلمانيّة تدعو إلى فصل الدّين عن الدّولة، فإنّ أطروحة حركة النّهضة تدعو إلى أخطر من ذلك، وهو اتّهام العقيدة وهو وجه أشدّ تشنّجا من مقولات العمانيّين.
إنّها كلمة كبيرة موافقة صريحة للنّمط السّائد لدى أعداء الشّريعة والمغرضين والجهلة الذين يقولون: إنّ الدّين هو سبب الاشتباك بين الإيمان والسّياسة وأنّ إقحام العقيدة والدّين في السّياسة هو سبب البلايا والحروب والصّراعات الدّينيّة والتّخلّف في العالم، وأنّ العلمانيّة القابلة للتّعدّد الدّينيّ وللحرّيات المطلقة هي الحلّ.
إنّه خطاب أخرج العلم الشّرعي من المعادلة السّياسيّة في البلاد، وأبعد القرآن والسّنّة وعمل الرّاشدين وأقوال أهل العلم المعتبرين، وأنشأ شرعا له حسب مصالحه، والله المستعان!!!
لقد تورّطت حركة النّهضة في التّحزّب إلى العنق ولم تخرج منه إلى الآن وانزلقت إلى العلمنة، وحصرت عملها السّياسي في مقاومة الاستبداد وأغفلت أعظم القهر وأشرس الإستبداد، وهو الشّرك، بل أسقطوا العقيدة من منهجهم، ويشكّكون أن تكون أكبر سلاح يقاوم الاستكبار والطّغيان.
فالحاصل أنّ إبعاد العقيدة مدخل يهدم الشّريعة ووثنيّة هلاّكة تسرّع في زوال ذلك الفكر المطبّع مع الطّاغوت والمخترق من طرف اليسار الذي سيّر سياسيّ حركة النّهضة في سكّته التي ستورده إلى البوار. ومن ثمّ لا تعجب أن يصدر عن رئيس تلك الحركة قوله"لماذا تنصّبون أنفسكم مدافعين عن الإسلام؟ للإسلام ربٌ يحميه، إنّما نحن جماعة سلّطت علينا مظلمة نريد أن نرفع المظلمة عن أنفسنا"8.
واللَّهَ اللَّهَ في الكريم يوسف الذي لم يتنازل عن العقيدة وهو مسجون وهو في أشدّ الحاجة إلى المساومة، واللّهَ اللّهَ في موسى وهو بين يدي أكبر طاغوت ولم يساوم، واللّه أسأل أن يحشرني مع شفيعي الذي لم يساوم في العقيدة وهو في أحوج ظرف للتّقية و"عقد الصّفقات" وحاشاه سيّد الخلق، ولم تلجئه وحدته وضعفه أن يفعل ذلك أو أن يعد كذبا أو يراوغ كما يفعل السّياسيّون، وقد كان وحيدا لا سند له ولا نصير ليبلغ رسالة ربّه، و قد كانت بعض القبائل تعرض عليه النّصرة و تشترط لذلك شروطاً تخلّ بثوابت سياسيّة فضلا أن تكون عقائديّة، فيرفض النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك مع شدّة حاجته لذلك، من ذلك عندما قال بَحِيرة بن فِراس وهو رجل من بني عامر بن صَعْصَعَة لرسول الله:" والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثمّ قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال له الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان أمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه"9.
إنّ العقائديّ المتّبع لا يساوم في العقيدة أبدا، لأنّ العقائديّ الأسوة لم يساوم عليها، ولا يستمع إلى من يخالف سنّته لقوله صلّى الله عليه وسلّم: "فإنّه من يعش منكم فسيرى اختلافا، فعليك بسنّتي".
إنّني والله لم أر جرأة على الدّين أعظم من جرأة منظّر حركة النّهضة على ربّه وهو يريد أن يوهم المغفّلين أنّه مصلح ومجتهد، فهل يجرؤ امرؤ لم يضمن لنفسه الجنّة فيقول على الله هذه القولة العظيمة في أنّ العقيدة عقبة و"صخرة تتحطّم عليها آمال الشّعب التّونسيّ في الحرّيّة والإنعتاق" قال ابن تيمية:"كما أنّ خير النّاس الأنبياء، فشرّ النّاس من تشبّه بهم من الكذّابين وادّعى أنّه منهم وهو ليس منهم. فخير النّاس بعدهم: العلماء، والشّهداء، والصّدّيقون، والمخلصون، وشرُّ النّاس من تشبّه بهم يُوهم أنّه منهم وليس منهم"10.
إنّه ليس هناك منفعة أعظم من التّمسّك بالعقيدة في كلّ الأحوال، ولقد قطّع النّاس بالمناشير من أجلها وصبروا. و هل ما أُخرجنا من بلادنا و ديارنا وأموالنا وأهلينا ومساجدنا إلاّ من أجل العقيدة؟
لقد أخطأ القوم الصّواب يوم توهّموا أنّ العقيدة حقّ نهضويّ خاصّ يأخذون بها ليخنقوا من عارضهم، و يلتفّون عليها ويصيغونها بما يخدم مرحلتهم وخطّتهم ومصالحهم مع أعداء الدّين، وصدق اللّه القائل:" وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ "11.
الجمعة 16 جمادى الثّانية 1429
20 / 06 / 2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.