يبقى مسلسل “ أبو جعفر المنصور” من أهم الأعمال الدرامية الجديدة التي نتابع أحداثها خلال هذا الشهر الكريم ولعل خير دليل على ذلك حلوله في المراتب الأولى في عمليات قياس نسب المشاهدة في كثير من العواصم العربية، وهو يستحق ذلك لما وجدناه فيه من حبكة درامية وحسن اختيار للممثلين الذين نجحوا في أداء الشخصيات التي أسندت إليهم، كما أن المخرج المتميز شوقي الماجري نجح في صياغة الصورة التي تحيلنا الى تلك الفترة بشكل متخيل كما أنه حقق نجاحا تقنيا وفنيا جديدين في حسن إدارته للممثلين وتجديده في اختيار زوايا التصوير ووصوله إلى درجة كبيرة من التماهي مع نوعية الصورة السينمائية، وهي في اعتقادي علامات تميز وتفوق فني تحسب لصالح فريق العمل بأكمله. لكن مثل هذه النجاحات التي تحققت في مسلسل أبي جعفر المنصور الذي يعرض على أغلب الشاشات العربية لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تجعلنا نغض الطرف على بعض الثغرات التاريخية خاصة وأننا بصدد عمل فني يكتب التاريخ، حيث تم التغافل عن فترة هامة من حياة الشخصية المحورية للعمل كان قد قضاها في تونس وتحديدا في القيروان في ضيافة منصور بن عبد الله بن يزيد الحميري الذي وصل القيروان في سنة 110 ه واتخذها له وطنا. وفي القيروان التقى أبي جعفر بأروى بنت منصور الحميري وتزوجها، وحجتنا في ذلك ما ورد في كتب المؤرخين، ولعلني هنا أجد في كتاب المؤرخ التونسي الراحل حسن حسني عبد الوهاب الذي قلب الكتب والمصادر والمراجع ليخلص بنا إلى كتابه المميز “شهيرات التونسيات” الذي تحدث فيه عن “أروى” زوجة أبي جعفر المنصور وعن علاقات أبي جعفر بأهل إفريقية التي هي تونس. ويذكر المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب أن والدة المنصور هي سلامة بنت بشير، وهي جارية بربرية من قبيلة نفزةالتونسية، تزوجها أبوه محمد فولدت له أبا جعفر سنة خمس وتسعين للهجرة بمدينة البصرة، فنشأ بها، وقرأ على أعلامها، ومن رفقته في مدارسة العلم زمن الصغر : عبد الرحمن بن زياد بن انعم الإفريقي الذي قال عن نفسه : كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور، قبل أن يلي الخلافة، فأدخلني يوما منزله في الكوفة : فقدم طعاما ومريقة من حبوب ليس فيها لحم، ثم قدم زبيبا، وقال : يا جارية عندك حلوى؟ قالت لا، قال : ولا تمر؟ قالت : ولا تمر. فاستلقى أبو جعفر ثم قرأ هذه الآية : عسى ربكم يهلك عدوكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون. ولما كبر أبو جعفر وترعرع، اقتفى خطا أخويه الكبيرين إبراهيم المعروف بالإمام. وأبو العباس الذي اشتهر فيما بعد بالسفاح، فجرى مجراهما في دعوى استحقاق الخلافة، فأذكت الدولة الأموية العيون عليه، وأوعزت إلى العمال والأعوان أن يتتبعوه، وأن يتعرفوا ما يكون منه، وأن يقبضوا عليه إذا لزم الأمر، فكان هو وأهل بيته يختفون ما استطاعوا، ويسرون دعوتهم بكل سبيل، ويلوذ منهم لائذون بالبقاع القاصية، مثل خراسان ببلاد فارس، وصنعاء باليمن. وما عتم أبو جعفر أن توخى إفريقية لما بينه وبينها من رحم واشجة، فان ابن عمه عبيد الله بن العباس كان قد طرأ على القيروان وتزوج فتاة تسمى أروى وتكنى أم موسى، وهي ابنة منصور بن يزيد الحميري، فأولدها بنتا ومات نحو سنة عشرين ومائة للهجرة، فبقيت أروى في بيت أبيها وتقلبت بها الأيام، حتى كان مقدم أبي جعفر يستلحق ابنة ابن عمه في ظاهر الأمر، على حين أن حقيقة الغرض من مقدمه هي التماسه سبيل النجاة من طلب بني أمية له. حل أبو جعفر ضيفا عزيزا على منصور بن يزيد الحميري، وفي أثناء مقامه عنده، شهد من وسامة أروى ما بهر بصره وخلب لبه، فخطبها وتزوجها، وتعلق بها أكبر التعلق طول حياته، وقد اشترط لها أبوها في عقد زواجها ألا يتزوج عليها أبو جعفر غيرها وألا يتخذ السراري معها، فان تسرى عليها كان طلاقها بيدها كما جرت بذلك عادة أهل القيروان من عهد قديم، حتى سميت تلك الطريقة بالصداق القيرواني. مكث أبو جعفر في كنف منصور بن يزيد الحميري والد زوجه أروى حتى كتب الخليفة هشام بن عبد الملك إلى عامله على إفريقية يطلب منه القبض على أبي جعفر، فلما أحس الخطر اضطر أن يستخفى في بيت ختنه بشير بن خالد (صاحب الشرطة بافريقية وصهر منصور الحميري حيث تزوج البشير أخته) وهو قصر يقوم في وسط ضيعة خارج القيروان على طرق سوسة. ومن آثار أروى التي خلدت لها ذكرا دائما وحسنة باقية على الدهر ما رواه الجاحظ نقلا عن معاصره علي بن محمد بن سليمان قال : أبي يقول : كان المنصور اشترط لأم موسى أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابا أكدته وأشهدت عليه بذلك، فبقي المنصور على عهده حتى ماتت ببغداد، فأتته وفاتها وهو بحلوان ... وكان المنصور اقطع أم موسى الضيعة المسماة بالرحمة فأوقفتها قبل موتها على المولدات الإناث دون الذكور، فهي وقف عليهن إلى هذا الوقت (حدود سنة 250 ه). وقصدت أم موسى بالمولدات الأميرات من بني العباس اللواتي لم يتزوجن أو اللواتي مات عليهن بعولتهن وتركهن أرامل، وفي غالب الوقت لم يكن للخلفاء المتولين عناية كافية بشؤونهن والقيام بنفقاتهن بالرغم من منزلتهن الرفيعة، فيجدن حينئذ في ريع ما أوقفته جدتهن المحسنة ما يصون عفافهن، ويحفظ كرامتهن، ويغنيهن عن الالتجاء إلى الأمراء وغيرهم، والإلحاف بالسؤال فيما يعوزهن من الضروريات. أعتقد أن كثيرا مما ورد في هذه المقتطفات من كتاب المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب (شهيرات التونسيات) والذي تحدث فيه عن أروى القيروانية وزوجها المنصور لم نجد له أثرا في المسلسل الذي نحن بصدده الآن أو أنه ذكر برواية أخرى، لذا وجب التنبيه إلى مثل هذه النقائص حتى تكتمل الصورة لدى المشاهد العربي الذي اختار متابعة هذا العمل الجيد الذي يوثق لمرحلة هامة من تاريخنا العربي.