وُلدت الأنترنات على إثر رغبة وزارة الدفاع الأمريكية في الستينات صُنع شبكة معلوماتية تقطع مع وسائل الإتصال التقليدية آناذك, و القائمة على مركزية المعلومة من حيث التخزين و النشر. و كان الهدف مجابهة هجوم عسكري على مراكز تخزين معلومات الجيش الأمريكي من خلال شبكة تتيح التواصل بين أجهزة الجيش و الدولة حتى في ظل تدمير مراكز الإتصال الرئيسية. و قد شهد يوم 2 سبتمبر1969 أوّل عملية إتصال بين جهازي كمبيوتر, وهو اليوم الذي عُيّن فيما بعد يوم عيد ميلاد الأنترنات. لقد كانت الفكرة الأساسية هي حماية المعلومة من التعمية و التغطية و جعلها مفتوحة للجميع. كما ساهمت الأنترنات و الفضائيات فيما بعد في تقريب الشعوب و أصبح العالم " قرية كونية" بالفعل. .إن خروج الأنترنات عن السيطرة الرسمية للدول و الحكومات و اكتساحها للطبقات الشعبية جعل من أمر تعمية الحقيقة أو تزييفها أمرا صعبا بل مستحيلا في بعض الأحيان. و لكن إفلات هذا الفضاء من كل القيود كان له آثارا سلبية على قيمة المادة المنشورة. فبالإضافة إلى المواد التي لا تحترم العقل و الذوق و الأخلاق, و المواد التي تدعو إلى قيم الشرّ عموما, فإن كثيرا من المواد المنشورة على هذه الشبكة الناشئة, لا تخرج عن كونها "بروبغندا" تحاول قتل الحقيقة. الحقيقة التي هي جوهر و رمز و القيمة الصميمية للأنترنات. و المتأمّل في بعض المواقع الإلكترونية التونسية يلاحظ أن النصوص المنشورة لا تخضع للتدقيق و لا الغربلة. فبالإضافة إلى الأخطاء اللّغوية فإن مضامين هذه النصوص تحوي في كثير من الأحيان على عديد من المغالطات و التزييف لكي يتحول الخطاب في هذه الفضاءات إلى خطاب خشبي مسطّح بعيد عن كل موضوعية و إنصاف. و تُخلط الكتابة العلمية المعقلنة فيها بالكتابة الإنطباعية المشوّشة. إن النصوص المنشورة لا تعدو في كثير من الأحيان نتاج فكرة عابرة مرّت بذهن أحدهم أو تصفية حساب بين طرفين متخاصمين أو في أسوأ الحالات كونها لبعضهم " أكتب إذا أنا موجود". و قد رأينا في في" الأنترنات التونسي" أحزابا و جمعيات تشكّلت لا يفوق عدد أعضائها الفرد الواحد, و رأينا أشخاصا يمطروننا ليليا بالصفحات الطوال التي يمكن إختزال مضمونها في أقلّ من السطر الواحد, و رأيناأخبارا عُجابا لا يمكن التحقّق من صحّتها و لا من كاتبها. لقد أنشأ الأنترنات بالفعل حالات مرضيّة يتوهّم بعضهم فيه بأنّه من المفكّريين العظام القلائل الذين جاد بهم التاريخ, و لبعضهم كونه رئيس حزب أو منظّمة بحقّ و حقيق, أو للآخر كونه زعيما ملهما للجماهير, و للأخير قاضيا يصدر الأحكام على الناس من دون محاسب و لا رقيب. إن بعض المواقع التونسية هي مواقع إفتراضية بإمتياز, ولئن كان من المستحب ترك مساحة للحلم فإن الواجب هو العيش في الواقع و النظر إلى الأمور كما هي و تسمية الأشياء بمسمياتها. و للأسف أن يتحوّل الأنترنات عند بعضهم بوتقة أو مفرّا من عالم الواقع و العالم المحسوس ليعيش الفرد في عالم إفتراضي مع أفراد إفتراضيين و ما في ذلك من من سهولة التعرّض إلى أمراض نفسية كإنفصام الشخصية و إزدواجها و غيرهما. إن الدقّة و الموضوعية هما إلتزام أخلاقي مع الذات و المثيل و المغاير " لا يغيّر الله مابقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم" - اية قرانية كريمة لقد تحوّل الخطاب في كثير من الأحيان إلى خطاب نمطي . '' خطاب ضحايا لنظام لا يحترم الحريات في بلد كلّه مساوئ ‘‘. و الخارج عن هذا التوصيف, هو خارج عن الملّة مأواه النار أو منافق متزلّف إلى السلطان. إن هذا الخطاب الذي يتمترس كثير من رافعيه وراء حصانة اللجوء السياسي أحيانا أو حصانة الإسم المستعار أحيانا أخرى, لا أعتقد أنه كان سيكون بمثل هذه الكثافة أو الحدّة لو أنه كان من داخل تونس أو خضع لقوانين النشر المعمول بها دوليا. لقد آن الأوان كي نتجاوز خطاب الهدم و القدح و الذمّ إلى خطاب بنّاء, مسؤول و رصين. خطاب يحاول إعطاء حلول للمشاكل بدل إحداث المشاكل لهذه الحلول. خطاب وطني تجميعي بدل الخطاب الفئوي التفريقي. ليس المطلوب قطعا قتل الإختلاف في التفكير و لكن المطلوب هو التفكير في أن الإختلاف في الرأي رحمة.