إن البيان المقتضب والمؤلم الذي أصدرته أخيرا مجموعة من القاضيات التونسيات بمناسبة اليوم العالمي للمرأة و الذي نشرته جريدة الموقف ووقع تداوله بشكل واسع في الجرائد الأسبوعية في تونس وفي كثير من المواقع السياسية والنسوية في العالم يعيد مرة أخرى إلى واجهة الإحداث واحدا من أخطر الانقلابات التي تعرضت لها جمعية مستقلة في بلادنا. وهو انقلاب صارت تفاصيله معروفة لدى الرأي العام التونسي ولا نظن انه من المفيد أن نتوقف مجددا عند حلقاته. نريد فقط أن نشير إلى الوقع النفسي والدلالات الأخلاقية التي يشير إليها هذا البيان الذي أمضته خمس نساء من المسؤولات في المكتب المنقلب عليه أو من العناصر القاعدية . لم يكن البيان تحليلا نظريا أو بحثا في أصول وفصول الانقلاب بل كان جردا سريعا ولكنه مكتنز ومعبر أيما تعبير عن حجم الإهانة التي ألحقت بمجموعة من القضاة. لقد امتلأ البيان بألفاظ من نوع "حيف و ميز و استهداف و قسوة ومرارة و شدة وجرّ " وهو قاموس لم نتعود أبدا أن يكون موضوعه قاضيا أو مجموعة من القضاة . بل لا احد منا كان قادرا أن يتمثّل إلى وقت قريب جدا صورة أخرى للقاضي غير تلك المنتشرة لدى عامة الناس أي نصير السلطة القوي و الموظف المهاب الجانب الذي يحظى بكل التبجيل ويتمتع بكل الامتيازات . وهي صورة افلح بيان النساء الخمس في كسرها ومخالفتها تماما بل افلح في رسم لوحة هي اقرب إلى المأساة في تأكيدها مع الجانب السياسي المتعلق بالانقلاب على الجمعية على تفاصيل الواقع الشخصي المهني والأسري لمجموعة من النساء القاضيات لم يجدن السند الكافي من احد تقريبا . غريبة حلقات هذا المسلسل الذي يسردن تفاصيله علينا . غريب أن يستفرد الحكم بمجموعة من النساء القاضيات فيشردنهن في أركان البلاد الأربعة ويسومهن شتى أنواع الإهانة والحيف انه لعجيب حقا ان يصل الأمر إلى محاربتهن بشكل ملتو ومتخف باستعمال التفقدية العامة لوزارة العدل وحقوق الإنسان من اجل إعطاء صبغة قانونية مزيفة لاقتطاع قدر كبير من أجورهن ومحاصرتهن وإهانتهن كما ذكرن هن أنفسهن في بلاغهن. وانه لمؤلم حقا أن تضطر هؤلاء النساء إلى مخاطبة الضمائر الحية طلبا للمساندة وان يقلن في بعض كلمات تختصر مشروعهن إن كل ذنبهن أنهن طالبن بانضباط جدير بالقضاة بما يقره دستور البلاد وقوانينها وما تؤكد عليه الأعراف والمواثيق الدولية . إن ما يحدث لهؤلاء النسوة يستحق التوقف حقا. و إن صرختهن المؤلمة تدعو إلى أكثر من سؤال .فمن المسؤول عن تعفن الأوضاع في قطاع كان لا يخرج أبدا من أسوار ناديه بسكرة . ولا كان أحد يعلم بما له وما عليه؟ وما الذي حدث إذا ؟ وهل نجح الانقلاب حقا في إسكات أصوات القضاة الأحرار ؟ لقد حدث العكس تماما : تحول الخلاف إلى قضية وتحولت القضية شيئا فشيئا إلى دراما يندمج فيها السياسي بالذاتي . انه مثال آخر يشير إلى عجز السلطة عن محاسبة نفسها ومسؤوليها و يجسد بكل المعاني عمق الشرخ الذي تحياه سلطة الحاكم القائمة على فصام الخطاب الرسمي المتبجح بأرقى صور الحداثة المعلبة والموجّهة للتصدير والتي جعلت من قضية المرأة وسيلة لتجميل صورتها. في حين تستفرد بمجموعة من النساء تجبرهن أن يقلن ما لم يقلنه بعد أربع سنوات من الصمت و الصبر ، إذ بدأ مسلسل العذاب حسب ما جاء في نصهن منذ 2005 .. لا شك أننا بإزاء حالة عجز عن ستر سلوك سياسي يستعيض عن سلطة القانون بقانون سلطة لا تتحرج أن تنشر ضمن القضاة أنفسهم، حماة القانون، منطق الإفتكاك والغصب و الانقلاب أولا ثم منطق الابتزاز والتخويف والإهانة والتجويع ثانيا ضد مجموعة قليلة من النساء في آخر ما تفتقت عنه عبقرية من سمح أو آذان أو بارك أن تمسسن في أرزاقهن وأقوات أطفالهن كما جاء في البلاغ . وانه أمر عجيب وما نظنه يحصل إلا في بلاد حرية المرأة أن يتطاول رجل في حرم المحكمة على امرأة قاضية تحقيق يدخل عليها في مكتبها ليقول لها ما خطط لقوله ثم لا يغادر المكتب إلا بعد أن يجبر على ذلك. لا شيء أكثر من إجباره على مغادرة المكتب، إذ انه انصرف بعد فعلته إلى حال سبيله . وهو ما جعل القاضيات يطالبن " بإلحاح باتخاذ الإجراءات الفورية المعتادة في مثل هذه الحالات لردع المعتدي ولرد الاعتبار إلى القاضية كلثوم كنو صونا لهيبة القضاء ودفاعا عن حرمة المحاكم ". أين نحن من واقعة يحكم فيها على محام أربعة أشهر سجنا مع النفاذ العاجل ، فيحمل مباشرة من المحكمة إلى السجن بعد أن طوى عباءته السوداء أمام قاعة مصعوقة وسلمها إلى زوجته وهي دامعة العين ،كل ذلك لأنه طلب من جناب المحكمة أن تسكت قليلا لتمكّن لسان الدفاع من إتمام مرافعته . هل هي سياسة المكيالين ؟ هل أن المعتدي على القاضية كلثوم كنو فعل فعلته لأنه رجل ولأنها قاض امرأة ؟ أم أن هناك من أوعز إليه بمنطق القبيلة الذي ما يزال يعيش فينا أنها معزولة ومبعدة وانه لا احد يحميها لا وزارتها الصامتة ولا أهلها الذين فرضت عليها وزارة العدل مفارقتهم ؟ وفي الحالتين لا نريد أن يعيد المشهد البائس إلى أذهاننا صورة الرجل القوي الذي يبرز سواعده المفتولة المتأهبة للضرب و يمارس فحولته ضد من يظن أنها تبقى امرأة حتى ولو حازت حكمة سقراط وملك سليمان.أي بلاد هذه وأية عدالة تلك .في الأخير لعل أبلغ ما نجح البيان في ترسيخه لدى قارئه هو انقلاب الأدوار في ما يشبه التراجيديا المفزعة إذ يبدو القاضي هنا أمّا تمسّ في أمومتها بأن تعزل عن أبنائها وتستهدف في قوتها وقوتهم ، وموظفا مطعونا في كرامته يتحول من قاض يحقق أو يستجوب إلى موظف محاصر ومهان . ما أفدح أن يتحول القاضي في نص البيان إلى امرأة ضحية في بلادها لا تجد من يحميها في حين يتعيّن أن تصان أمومتها وتحفظ هيبتها و أن تكون هي ملاذ كل ضحية، لها يشتكي الجميع، وبها يقام العدل وتسرد الحقوق المغتصبة !!! عفاف بلحسن