إذا أمعنت النظر وتأملت جيدا المشهد السياسي داخل القطر ستصاب حتما بالإحباط وتترحم على السياسة ومفهومها ورجالاتها بما أنها "فن تفعيل الأخلاق في الواقع" بعد أن تم إغتيالها إغتيالا منظما وممنهجا من قبل النظام فأضحت السياسة في تونس مرادفة لمفهومين متناقضين هما الإنتحار والمصلحة الشخصية التي لا صوت يعلو فوق صوتها ،أحزاب معارضة في أغلبها لا تعارض وتحولت إلى أجهزة تنفذ مخططات النظام ، ومن أراد منها ممارسة دوره الطبيعي كحزب معارض حقيقي حاصرته القوانين وكبلته ،ووضعت أمامه الخطوط الحمراء وبقي أسيرا مقره المتواضع وجريدته المطاردة والقابلة للحجز والمصادرة في كل وقت، فقط نجح النظام في إيهام العالم بوجود تعددية سياسية وأنه سائرا على درب الديمقراطية،نخب ضائعة تائهة وهي مكبلة بأعباءها الخاصة اليومية ...،مثقفون تعبوا من طريق النضال الطويل ضد الإستبداد فأدخلوا حظيرة النظام جريا وراء مكاسب زائلة وتعويضا عن ما فاتهم من مكاسب شعارهم في ذلك "تعلم كيف تأكل الحلوى دون أن تتسخ أصابعك " وفقدوا بذلك إحترامهم وإعتبارهم بعد أن فقدوا دورهم الريادي والتاريخي ولم يعد يسمعهم ويصدقهم أحد، حتى وإن علا صوتهم اليوم ضد الفساد والإستبداد ،وجمعيات ونقابات تم تهميشها قسرا وخلقت لها صورا مشوهة والبعض منها موجود على الورق فقط . مفارقة عجيبة وغريبة تلك التي تعيشها تونس ،فبالرغم من وجود ثمانية أحزاب معترف بها إضافة إلى الحزب الحاكم ،وبالرغم من تنظيم إنتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية كل خمس سنوات ،وبالرغم من توفر مجلسين تشريعيين واحد للنواب وآخر للمستشارين ومئات المجالس الجهوية والبلدية فإن الحياة السياسية منعدمة ،فلا تداول على السلطة ،فالحزب الحاكم جاثم على دواليب الدولة منذ خمسينات القرن الماضي دون منافسة حتى وإن غير إسمه سنة 1988 فقد بقي إطارا جافا لا تمارس داخله السياسة بل ينخرط فيه كل من كان صاحب مصلحة شخصية إما ردا للبلاء أو طمعا في إحدى المناصب البيروقراطية أما السياسة داخله ففي أسفل الإهتمامات وقام بتسريب هذه العدوى للأجهزة الحزبية التابعة له والتي تدعي أنها أحزاب معارضة بعد أن رفع في نسبة تمثيلها في البرلمان مؤخرا إلى 25 بالمائة فإزداد التكالب والتطاحن داخلها على رئاسة القائمات الإنتخابية التي تضمن مقعدا بالبرلمان وتنشط تجارة المناصب وظهرت فئة جديدة من المرتزقة وهي فئة الأعضاء الجوالة الذي ينتقلون من جهاز حزبي إلى جهاز آخر طمعا في رئاسة قائمة من القوائم الإنتخابية فتكثر الإنشقاقات والإنسحابات داخلها والبيانات والبيانات المضادة قبل كل إنتخابات تشريعية ضاربة عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية والمبادئ السياسية مثلما ما نشهده اليوم تحضيرا للإنتخابات التشريعية أكتوبر 2009. موحش ذلك الصمت الرهيب تحت قبتي مجلسي النواب والمستشارين وكأنه صمت القبور.. فلا مسائلة للحكومة أمام البرلمان ولا محاسب ولا رقيب ،تظهر عبر التلفزيون الرسمي أحيانا مقاعد بعضها شاغرا وبعضها الآخر يستعلمه "نواب الشعب " كرسيا وثيرا للنوم ،لا تسمع لهم صوتا وإن صادف وان نطقوا سال كلامهم المعسول عن معجزات الحكومة الخارقة وكان لسانهم سيفا حادا ضد كل من تسول له نفسه التشكيك في المعجزات ولا يسلم من تهم العمالة للخارج وأنهم ليسو سوى فئة ضالة تصطاد في الماء العكر !!. أما المواطن العادي فقد أصيب بمرض العزوف المطلق عن المشاركة السياسية والمساهمة في الشأن العام وإنتشرت ثقافة الإتكال واللامبالاة وتغليب المصالح الشخصية الضيقة على المصلحة العامة وغذتها وسائل الإعلام الصفراء التي حولت بعض القضايا الخاصة لقضايا رأي عام ،وإنعدم الشعور بالإنتماء الوطني ليستعيض عنها بالإنتماء إلى جمعية رياضية أو العشيرة والجهة ....ولم يعد للأمة والأرض من يغير عليهما . أمام هذا الموات والجمود في الحياة السياسية تتبجح أبواق النظام ليلا نهارا بأن ما نعيشه اليوم هو العهد السعيد وهو نتيجة الإستقرار والأمن والأمان التي تمتاز بهم تونس دون غيرها من دول العالم فتسعى إلى المستحيل بتصوير الموت كأنه حياة بعد ضمنت موت السياسة ودقت في نعشها المسمار الأخير .فهل نحلم يوما بإعادة إحياء السياسة في تونس ،وبعثها من جديد ؟؟أم أن الله وحده سبحانه وتعالى هو الذي يحيي العظام وهي رميم! .