بعد غزة" تحولت أمطار الصيف" الى " طوفان الصيف " وجاء دور لبنان ، القذائف تتساقط على الجنوب اللبناني برا وبحرا وجوا ، والبنيات التحتية للجنوب تتهاوى لتتحول الى غبار كثيف ودخان يغطي سماء عروس المتوسط في عز الموسم السياحي ، والجسور الرابطة لأوصال الجنوب تمزقت كما تمزق المشهد السياسي اللبناني والمشهد العربي الرسمي ، والخطوط الحمراء تحولت الى خضراء ، ولا أحد أصبح بامكانه تقدير ما ستؤول اليه الأوضاع في أسخن المناطق الشرق أوسطية في خضم العدوان الصهيوني وصمود المقاومة الاسلامية الفلسطينية واللبنانية قد تكون المقاربة العسكرتية ضرب من ركوب الموج لمن لا يجيد السباحة ، وقد سبق " لجورج كليمنصو " خلال الحرب العالمية الأولى أن قال " الحرب مسألة جدية كي نترك العسكريون يقررون شؤونها لوحدهم " ولكن ماذا لو نأى العسكريون بانفسهم عن شؤون الحرب وتركوا لحركات المقاومة مسؤولية التقرير؟ ، فهل يستقيم المنطق العسكري ؟ وهل تصدق التحليلات العسكرية ؟ ما أشبه اليوم بالأمس ، خلال نكبة 1984خاضت الجيوش العربية الحرب ضد عصابات " الهاغانا " المدربة على القتال وحرب العصابات من خلال تجربة عناصرها في الحرب العالمية الثانية ، وكانت معركة " صفد " وقتذاك اهانة كبرى للعسكرية العربية التي جرعت الهزيمة والخيبة ، واليوم مدينة " صفد " على مرمى الكاتيوشا اللبنانية ، والمعادلة أصبحت معكوسة فقد أصبحت المقاومة الاسلامية مجسدة في حزب الله تحارب بالنيابة عن الجيوش العربية وتواجه جيشا نظاميا حديثا يمتلك آلية عسكرية رهيبة وأصبح " توازن الرعب" مفتاح فهم المعادلة أنا لا أراهن على الحكام العرب بل على الله وعلى الشعوب " هكذاعلق الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله على المواقف الرسمية للسعودية ومصر والأردن التي حملت المقاومة الاسلامية مسؤولية العدوان الصهيوني على غزة وبيروت ، واعتبرت عملية أسر الجنديين تم وفق أجندة خارجية تحمل توقيع ايران وسورية ، مما أباح تفسير هذه المواقف الرسمية كتبرير ضمني للهمجية الصهيونية ، واعطائها غطاء عربيا رسميا، فلمصلحة من جاء هذا التوافق الرسمي للحكومات العربية على ادانة عمليات المقاومة ؟ ووفق أية أجندة جاء هذا الاستباق في المواقف ليلة انعقاد القمة العربية لوزراء الخارجية العرب ؟ السؤال المحوري الحقيقي يتعلق بغياب الجيوش العربية والسبات العميق الذي تغط فيه وعكس دورها بتوجيه بنادقها نحو شعوبها ! فما فائدة انفاق 200مليار دولار على الجيوش العربية في ظل رفعها لشعار " قوة الجيوش العربية في ضعفها " ، ولو كانت هذه الجيوش تلعب دورها المفروض في حماية الحدود العربية وخوض معارك التحرير واسترجاع الأسرى ، لكانت حركات المقاومة الاسلامية جزءا من هذه الجيوش لامتلاكها ما تفتقده الجيوش النظامية وهي العقيدة القتالية عملية أسر الجنديين أعادت للواجهة بعض طروحات النخب العربية ودعوتها الى عقلنة الفكر السياسي العربي بتوخي الواقعية والتخطيط العلمي ومرحلية التغلب على التحدي الصهيوني ، فاذا كنا نتفهم بعض التصريحات الصادرة عن وليد جنبلاط ومروان حمادة وغيرهما من الفاعلين في الساحة اللبنانية لارتباطهم الحزبي في مواجهة مشروع المقاومة وفق أجندة حزب الله ، فان ظهور بعض الأقلام الصحفية المطالبة بالاعتبار بما حصل من نكبات عام 1948 وعام 1967 وعام 1973 يوحي بنجاح الدوائر الغربية في استمالة أقلام وقنوات عربية عبر الاختراق والتجنيد والتوجيه المباشر وغير المباشر ، بل وانشاء وتمويل صحف وفضائيات موجهة ناطقة بالعربية لالهاء الرأي العام العربي ، وفرض منطق التخذيل والتطبيع وكشف ظهر المقاومة ، وهذا ما يخدم المشروع الصهيوني الثابت رغم تعاقب الحكومات في كون أقصر الطرق الى اجهاض المشروع الفلسطيني المقاوم هو عزله عن محيطه العربي الاسلامي ، والبداية كانت بتحييد مصر وتحويل دورها من قيادة المواجهة العربية الى مجرد سمسار اقليمي يعمل لحساب السياسة الامريكية في المنطقة ، ثم الفصل بين سورية ولبنان لاضعاب الدور السوري ، فبدون مصر تكون سورية ولبنان في موقف أضعف ، وبدون مصر وسورية ولبنان والاردن تصبح القضية الفلسطينية اسهل للمضغ منذ عدة سنوات عند قرائتي لمذكرات كمال حسن علي رئيس وزراء مصر الأسبق والقائد العسكري ورئيس المخابرات السابق استوقفتني اشارته الى أن المشكلة الأساسية في نكبة 48 تكمن في تأثير الشخن القومي والديني على قرارات الحكومات العربية في اتخاذ قرار الحرب وهي غير مستعدة لذلك ، ورغم فساد هذا التبرير الا انه يعبر عن قوة الرأي العام العربي وقتذاك ، أما الآن فقد أصبحت أصوات الشعوب العربية تواجه بالهراوات والسجون ، وتحولت قوة الشحن والدفع الى مجرد مظاهرات في الشوارع والجامعات تتبعثر بعد سويعات من انتهائها كما تتبعثر الرغوة فوق الماء ، فالتعبئة الحقيقية هي تعبئة الرأي العام التي تحدث عنها الشيخ يوسف القرضاوي في مذكراته قبل حرب العبور ، وهي التفاف الشعوب حول قياداتها الحقيقية ، ومساهمة كل فرد ايجابيا في المجهود الحربي والدعم اللوجيستيكي والتصبير المعنوي المشكلة الحقيقية تكمن في الهوة الفجة بين الحكومات العربية ونخبها والشعوب ، والأمر المخيف حقا هو شعور هذه الشعوب بأنها لا حول لها ولا طول وانها " تحمل السلم بالعرض " بلا جدوى ، وتكتفي بالتسمر أمام الفضائيات لمشاهدة ما يحدث ، مما يعيد طرح الاستشكال الأساسي حول غياب الحرية والديمقرطية وانعدام دور مكونات المجتمع المدني واضمحلال فرص تخليق الحياة السياسية بما يكفل لهذه الشعوب تقرير مصيرها وتأثيرها في المواقف الرسمية لحكوماتها وعود على بدء يحق لنا القول بأن " امطار الصيف " التي تهطل على غزة والجنوب اللبناني ليست ببعيدة من حيث الأسباب غير المباشرة عما يحدث في الدول العربية من تكميم للاصوات الحرة المطالبة بتحرير الفرد قبل الأرض وتفجير طاقاته ، كما أن السجون العربية المكتظة بالمساجين السياسيين خاصة في تونس ومصر أحد المظاهر المعطلة لارادة الشعوب العربية ، فالمظلة الحقيقية الواقية من " أمطار الصيف " الصهيونية تمر حتما عبر بوابة تغيير التركيبة السياسية للدول العربية بأخذ الشعوب لمصيرها بيدها