بطاقتا إيداع بالسجن في حق رئيس جامعة السباحة السابق ومدير عام وكالة مكافحة المنشطات    وزارة الصحة تنتدب 3000 خطة جديدة خلال السداسي الثاني من 2024    المعهد الوطني للاستهلاك: 5 بالمائة من الإنفاق الشهري للأسر يُوَجّه إلى أطعمة يقع هدرها    صفاقس : ايقاف المنحرف الذي قام بطعن تلميذ امام اعداديّة الافران    طقس الليلة.. امطار متفرقة ورعدية بعدد من الجهات    جراحة التجميل في تونس تستقطب سنويا أكثر من 30 ألف زائر أجنبي    ضمن تصنيف الجامعات العالمية..جامعة تونس المنار تحتل المرتبة 948 عالميا والأولى وطنيا    ''قطاع التأمين: ''ندعم قانون المسؤولية الطبية.. فلا بد من تأطير قانوني    مجلس وزاري مضّيق للنظر في قانون تنظيم الجمعيات    العثور على جثتي راعيين : الاذن بإيقاف شخصين من دول إفريقيا جنوب الصحراء    سعيّد: "أكثر من 2700 شهادة مدلّسة.. ومن دلّسها يتظاهر اليوم بالعفّة"    حجز أكثر من 4 ألاف لتر من الزيت المدعّم وأطنان من السميد والفارينة بمخزن في هذه الجهة    جراحة التجميل في تونس تستقطب سنويا أكثر من 30 ألف زائر أجنبي    واقعة حجب العلم الوطني بمسبح رادس.. فتح بحث تحقيقي ضد 9 أشخاص    بنزرت: ضبط ومتابعة الاستعدادات المستوجبة لإنجاح موسم الحصاد    في أكبر محاولة لتهريب الذهب في تاريخ ليبيا: السجن ضد مسؤولين كبار    سوسة: سائق سيارة تاكسي يعتدي بالفاحشة على قاصر    سليانة: تقدم عملية مسح المسالك الفلاحية بنسبة 16 بالمائة    إتحاد تطاوين: سيف غزال مدربا جديدا للفريق    البنك التونسي ينفذ استراتيجيته وينتقل الى السرعة القصوى في المردودية    كأس تونس: برنامج النقل التلفزي لمواجهات الدور ثمن النهائي    سيدي بوزيد: توقّعات بارتفاع صابة الحبوب بالجهة مقارنة بالموسم الماضي    المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات: الشركة التونسية للبنك تدعم مقاربة الدولة للأمن الغذائي الشامل    من هو وزير الدفاع الجديد المقرب من فلاديمير بوتين؟    جمعية القضاة تستنكر استهداف المحاماة والإعلام..    الكرم: القبض على افريقي من جنوب الصحراء يدعو إلى اعتناق المسيحية..وهذه التفاصيل..    عاجل : الكشف عن وفاق اجرامي يساعد الأجانب دخول البلاد بطرق غير قانونية    الديوانة التونسية تضرب بعصا من حديد : حجز مليارات في 5 ولايات    5 جامعات تونسية تقتحم تصنيفا عالميا    تفاصيل جديدة بخصوص الكشف عن شكبة إجرامية دولية للاتجار بالمخدرات..#خبر_عاجل    مسؤولة بالستاغ : فاتورة الكهرباء مدعمة بنسبة 60 بالمئة    مغني الراب سنفارا يكشف الستار : ما وراء تراجع الراب التونسي عالميا    نور شيبة يهاجم برنامج عبد الرزاق الشابي: ''برنامج فاشل لن أحضر كضيف''    إيران تعلن عن مفاوضات لتحسين العلاقات مع مصر    تصفيات أبطال إفريقيا لكرة السلة: الإتحاد المنستيري يتأهل الى المرحلة النهائية    ليلة ثالثة من الأضواء القطبية مع استمرار عاصفة شمسية تاريخية    وفاة أول متلقٍ لكلية خنزير بعد شهرين من الجراحة    رئيسة لجنة الشباب و الرياضة : ''لم تحترم الوزارة اللآجال التي حددتها وكالة مكافحة المنشطات ''    نائبة بالبرلمان : '' سيقع قريبا الكشف عن الذراع الإعلامي الضالع في ملف التآمر..''    راس الجدير: ضبط 8 أفارقة بصدد التسلل إلى تونس بمساعدة شخص ليبي..    بطولة ايطاليا: تعادل جوفنتوس مع ساليرنيتانا وخسارة روما أمام أتلانتا    عاجل/ بعد الاحتفاظ به: هذا ما كشفه محامي الاعلامي مراد الزغيدي..    بين الإلغاء والتأجيل ... هذه الأسباب الحقيقة وراء عدم تنظيم «24 ساعة مسرح دون انقطاع»    المالوف التونسي في قلب باريس    نتنياهو: نناقش "نفي قادة حماس.."    مصر: انهيار عقار مأهول بالسكان في الإسكندرية وإنقاذ 9 أشخاص    دربي العاصمة 1 جوان : كل ما تريد أن تعريفه عن التذاكر    أرسنال يستعيد صدارة البطولة الإنقليزية بفوزه على مانشستر يونايتد    دراسة تربط الوزن الزائد لدى الأطفال بالهاتف والتلفزيون..كيف؟    مئات الحرائق بغابات كندا.. وإجلاء آلاف السكان    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مدنين: نشيد الارض احميني ولا تؤذيني تظاهرة بيئية تحسيسية جمعت بين متعة الفرجة وبلاغة الرسالة    سيدي بوزيد: تظاهرات متنوعة في إطار الدورة 32 من الأيام الوطنية للمطالعة والمعلومات    سيدي بوزيد.. اختتام الدورة الثالثة لمهرجان الابداعات التلمذية والتراث بالوسط المدرسي    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفصلان الأول والثاني من كتاب : "يوم أدركت أن تونس لم تعد بلد حرية"...


1
تجابه تونس اليو...م تحديات كبرى ومقتضيات دقيقة تفرضها "الحداثة" و "العولمة ".
"فقد انخرط عالمنا، وبدون رجعة، في بناء الديمقراطية . وأصبحت هذه القيم الكونية اللغة المشتركة التي لا محيد عنها للبشرية جمعاء . وأضحى الاحترام الفعلي لهذه القيم والالتزام الصادق بها والخاضع للمراقبة القاعدة الذهبية لجميع أعضاء المجموعة الدولية . وأخذت المنظمات الدولية وكذلك المؤسسات غير الحكومية ووسائل الإعلام والرأي العام العالمي تبث، بنسق سريع جدا، كل المعلومات الموضوعية حول الوضع الحقيقي لكل بلد وتحدد بالتالي مصداقيته السياسية والاقتصادية الحقيقية . ولم تعد صورة أي دولة هي الصورة التي تريد تلك الدولة أن تقدمها عن نفسها، بل صارت صورتها هي تلك التي تقدمها عنها المنظمات الدولية الرسمية أو غير الرسمية . وأضحت الدولة التي لا تحترم هذه المقتضيات معرضة لأن تجد نفسها على هامش المجموعة الدولية أو على الأقل، تتم معاملتها بشكل لا يسوي بينها وبين غيرها، فتتضرر من ذلك مصالحها الوطنية بصو رة عميقة وطويلة المدى . ولهذا فلا محيد عن الد يمقراطية الفعلية ولا عن سيادة القانون بصورة ناجعة ومراقبة. وتمثل العولمة التحدي الكبير الثاني لتونس القرن الحادي والعشرين ؛ فبلادنا مقبلة على لحظة حاسمة من تاريخها المعاصر : هي لحظة بلوغها مكانة الدولة الشريكة للاتحاد الأوروبي ، وهي البلد الأول المرتبط مع أوروبا باتفاقية "للتبادل الحر "، وتتطلب هذه التحديات من بلادنا تغييرات عميقة في النسيج الاقتصادي وطاقات تنموية جديدة من شأنها أن تمكنها من الاندماج بنجاح في الاقتصاد العالمي وفي دائرة التنمية المشتركة التي يحر كها الاتحاد الأوروبي. وهنا أيضا لا يمكن لتونس أن تتفص من الشروط والمقتضيات الجديدة التي تفرضها عليها مجابهتها لاقتصاديات أكثر تطورا بفضل قدراتها الاقتصادية والمالية وبفضل مستوى تطورها العلمي والتكنولوجي الرفيع جدا.
ولا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتقدم العلمي والتكنولوجي إلا ضمن مناخ سياسي صالح بالفعل وملائم لمقتضيات العالم المعاصر جميعها، إذ أن التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية أمران مترابطان ولا سبيل لأن يتحقق أحدهما بمعزل عن الثاني.
2
ليست تونس اليوم قادرة على رفع هذه التحديات مثلما تزعم ذلك الدعاية الرسمية، فقد قضت الثلاثين سنة الأولى من نصف القرن الذي مر على استقلالها عام 1956 في البحث عن "الإ قلاع الاقتصاد ي" ، إلا أنها تتمكن من تحقيقه كما ينبغي. والسبب البعيد الكامن وراء هذا الإخفاق هو نقائص السياسة الاقتصادية التي اعتمدتها البلاد على مدى هذه الفتر ة. ولكن يوجد وراء هذا الإخفاق أيضا وخاصة عيوب أسلوب الحكم السياسي التي ما فتئت تتفاقم بصورة موازية لتمادي نظام الحكم القديم في العجز وانغلاق مسار التنمية السياسية .
و منذ 1987 ، وفي حين أن "بيا ن" السابع من نوفمبر قد بدا منه أن الأمور ستتجه إلى استخلاص العبر من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الطويلة التي مرت بها البلاد والى إعادة الأمور إلى نصابها في اتجاه تطوير القدرات التنموية الاقتصادية والاجتماعية لفائدة جميع التونسيين، نلاحظ أن السياسة الاقتصادية الحالية هي أبعد ما تكون عن تحقيق الأهداف التي كانت قد رسمتها لنفسها. وباعتراف النظام الحالي نفسه، تحتل المرتبة 87 ضمن سلم التنمية البشرية العالمي، وهي لا تزال ، تنتمي إلى صف البلدان "الصاعدة " فقط حتى وان كانت ضمن المعدل العالي لهذا الصنف . ولا تزال مؤهلات تونس الاقتصادية دون التحديات التي عليها أن تجابهها. وقد سبقتنا حاليا سبقا واضحا بلدان كثيرة كانت تنتمي مثلنا إلى نفس صنف "الاقتصاديات الصاعد ة" هذه. ويجب أن تضاف إلى الإخفاق هذا في مجال السياسة الاقتصادية ، النتائج السلبية التي نلاحظها في المستوى الاجتماعي. فقد مرت البلاد، في فترة زمنية وجيزة، من حالة توازن اجتماعي مقبول إلى حالة بروز وتوسع طبقة من "الأثرياء الجدد" وضعف الطبقة المتوسطة والطبقات الشعبية. و بما أن حوالي ثلاثة أرباع الثروة الوطنية باتت توجد اليوم بين أيدي أقل من خمس السكان التونسيين ، فإننا لا نستطيع والحال هذه أن نقول عن تونس اليوم إنها بلاد "الوسط".وأسباب هذه الاختلالات ذات طبيعة اقتصادية إلى حد بعيد، ولكنها أيضا سياسية بالخصوص . وكما هو الشأن في ظل النظام السابق، فان التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تتحقق في غياب تنمية سياسية فعلية. وعلى هذا الصعيد، يبدو النظام الحالي نسخة طبق الأصل من النظام القديم بكل عيوبه ونقائصه وإخفاقاته . "فالسابع من نوفمبر " لم يف بوعوده في التجديد والتنمية السياسية. وانغلق في الازدواجية بين الخطاب الرسمي والواقع وبين الخيال والأوهام. على أن الواقعة التي يجب على تونس أن تعي يوما ما خطورتها هي أنها محكومة من طرف نظام سياسي يفعل عكس ما يقول ويغطي على نقائصه بواسطة سيل من الإسهاب الإعلامي المغلوط أو الكاذب ويخنق كل إمكانية لدمقرطة الحياة السياسية للأمة ، أي للأداة الوحيدة الناجعة للتنمية والتقدم. والنظام القائم، شأنه شأن النظام السابق ، بعيد جدا عن أن يكون قد وضع الإطار الملائم لدمقرطة البلاد. فمع التحو ير الأخير للدستور الذي نص على إمكانية انتخاب رئيس الجمهورية لدورات غير محدودة أعيد العمل بنظام الرئاسة مدى الحياة وهو ما يتضارب بشكل صارخ مع "بيا ن" السابع من نوفمبر ذاته ويسيء به النظام إلى نفسه إساءة بالغة ويفقده ثقة الشعب التونسي . ولم يحدث على أرض الواقع تجديد للمجتمع السياسي، وهو أمر يتوقف على الاعتراف بحرية إنشاء الأحزاب وحرية عملها، فقد احتفظ النظام القائم بالغالبية العظمى من الطبقة الحاكمة القديمة دون أن يقع أي تقييم لمسؤولياتهم في إخفاقات النظام ا لسابق . ولا تزال تونس تعيش تحت حكم "الحزب الواحد" واحتكار القرار السياسي من طرف طبقة تمثل أقلية عدديا ولكنها مهيمنة سياسيا واقتصاديا، وان تمت محاولة إخفاء ذلك، دون جدوى طبعا، بعبارة " الحزب المهيمن" أو "حزب الأغلبية. " أما الأحزاب السياسية المعترف بها رسميا فهي مرسومة على المشهد السياسي للبلد قصد الإيهام بوجود تعددية سياسية، في حين أنها في واقع الأمر مقزمة ومهمشة تماما ولا يبرر وجودها إلا ما يعتقد النظام أنه "واجهة صالحة " للطابع الديمقراطي للبلد . ثم إن الانتخابات، في جميع المستويات، مفبركة كالعادة وموجهة إلى أبعد الحدود أحيانا. والنظام الحالي لم يكلف نفسه حتى إخفاء أعمال التدليس التي تجعل النتائج الانتخابية غير معقولة وتكسب بلادنا امتيازا غير مرغوب فيه وفاقد للمصداقية وهو "تصويت الأغلبية " الذي يصل إلى 96 % بل إلى 99% ويجعل كل عملية انتخابية تتحول إلى استفتاء حول النظام وحول قيادته العليا والحريات السياسية، التي هي أمر ضروري لكل ديمقراطية فعلية للحياة والسياسة ولكل ممارسة تعددية حقيقية، مطوقة بالقيود ، والمعارضة السياسية محاصرة ومصادرة من طرف جهاز شرطة متعسف ومتهور بحيث غالبا ما يتعرض أفرادها لاعتداءات قمعية ويلقى بعدد منهم في السجون من غير أي ضمان فعلي لاحترام حقوقهم الأساسية . والصحافة ووسائل الإعلام وحرية النشر والاجتماع وحرية التعبير جميعها مقيدة وموضوعة تحت مراقبة بوليسية دائمة الحضور والضغط . والهياكل الصحفية الوحيدة المسموح لها بالعمل هي هياكل الصحافة الرسمية، وهي ممولة ومشجعة بجميع الوسائل الشرعية وغيرها. أما وسائل الإعلام الأجنبية فهي موضوعة تحت مراقبة بوليسية شديدة، وهي معرضة "للعقا ب" كلما صدرت عنها تعليقات تنتقد النظام القائم . وحرية إنشاء الجمعيات وهمية بحكم أن العديد منها لا يمكن أن ترى النور بسبب المنع الذي تواجه به منذ و لادتها، وهذا بالرغم من الإجراءات القانونية التي توهم بالحرية ولكنها لا تطبق إلا لفائدة المبادرات المنسجمة مع رغبات السلطة القائمة . و "دولة القانون " التي يتباهى النظام بإرسائها إنما هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة . بل إن الظروف الكفيلة بتكريسها غير متوفر ة في تونس اليوم. فمصير السلطة السياسية يمتلكه رئيس الدولة بصورة شبه مطلقة . ولئن نص الدستور على التفريق بين السلط ، فإن ذلك غير مطبق في الواقع. ولا يمارس مجلس النواب ولا مجلس المستشارين إلا وهم سلطة تشريعية . وقد أنتجت مختلف التعديلات الدستورية التي تم تبنيها منذ 7 نوفمبر اختلالات بين السلط كانت دائما لصالح سلطة رئيس الدولة . فإذا أضفنا إلى ذلك السلطة التنفيذية المخولة له أصبح يملك، بشكل مباشر وغير مباشر، كامل السلطة . وليست الحريات العامة والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات مكفولة بصورة فعلية، و لا يمكن لسن القوانين الخاصة والتشريعات "الحداثية" أن يغتر به المتابعون للنظام الحقوقي التونسي . والشعب التونسي لا يمارس فعلا حقوق "المواطنة " التي شرعها الدستور ونصت على كفالتها بنود ه. أما مشاركته في الحياة السياسية فهي شبه منعدمة وهي على كل حال وهمية وخادعة . ومن هنا جاء عدم اهتمام التونسي بالحياة السياسية واستهانة غالبية التونسيين بالنشاط السياسي وحياة المواطنة .
ثم إن مؤسسات مراقبة دستورية القانون واحترام التشريعات والتراتيب الإدارية له غير ناجعة . والمجلس الدستوري هو في واقع الأمر أداة مجسمة للحرص الظاهري على احترام القانون و "دولة القانون ". والنظام القضائي منزوع في جملته من السلطة الضرورية لكي يقوم بمهمته الأساسية ضمن أي نظام سياسي ولا سيما في الأنظمة السياسية التي تدعي الديمقراطية . فالقضاء ليس مستقلاّ بأتم معنى الكلمة . والإدارة العمومية متسلطة ولكنها غير ناجعة في النهوض بمهمتها الأساسية وهي مهمة الإسهام في التنمية. وهي تعيش منذ أكثر من نصف قرن تحت حكم البيروقراطية والرداءة وعدم الجدوى لطول ما تمكنت منها وفي كل المستويات تقاليد الرتابة وقدامة وسائل العمل وتعاظم سلطة الإداريين والخضوع لتدخلات المؤسسات والقوى السياسية والمنظماتية وتمكن الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ والفساد الإداري، وهي أمور من شأنها أن تحد من مساهمتها في تنمية البلاد، إن لم تجعلها عقيمة بل قريبة من المستحيلة . ويجب أخيرا أن نشهر بالظهور والاتساع الذي لا ينفك يتعاظم للفساد والتسلط والمحسوبية والاختلال الطارئ على سير مختلف آليات هيكل الدولة التي بلغت مستويات مثيرة للانشغال حقا وأضحى من باب الخديعة والخطر مزيد التستر عليها. ولا يجب أن يصرفنا إنكار النظام القائم لهذه الممارسات إلى الاستهانة بالظاهرة أو نقلل من خطرها. وفي إطار سياسي ضعيف كهذا، ليس من المستغرب أن تبقى الانجازات الاقتصادية والمكاسب الاجتماعية في مستوى متواضع بالرغم من مزاعم النظام القائم . فما ينبغي لفت النظر إليه هو واقع الإخفاقات ومظاهر التأزم الملحوظة في المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ويدل تكون ثروات طائلة لحجمها وغموض مصادرها على أنها لا يمكن أن تكون، من الناحية الاقتصادية، إلا موضع ريبة، وهو مسار رافقه إفقار للطبقات الوسطى والشعبية التي تمثل غالبية السكان والتي تجد نفسها عزلاء أمام غلاء المعيشة وتجميد الرواتب والأجور وتآكل القدرة الشرائية ورفع الدعم العمومي عن جميع ا لمواد وخاصة مواد الاستهلاك العادية والوقوع في شرك التسهيلات الخادعة لقروض الاستهلاك والتورط في الديون الثقيلة. و ينذر هذا الخلل الاقتصادي والاجتماعي بمخاطر عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي ويشكل مناخا طبيع يا لأشكال التطرف الإيديولوجي والديني والسياسي التي نلاحظها في عديد البلدان الأخرى التي لم تقرأ حسابا، في الوقت المناسب، لمثل هذه الأخطار، ولم تتخذ ما كان يتوجب عليها اتخاذه من أسباب إعادة التوازن وإجراءات التعديل المفروضة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي . وتبقى البطالة مشكلا مؤلما من بين مشاكل السياسة الاقتصادية والاجتماعية للبلد تتّصل جذوره ا بشباب المجتمع التونسي، ولكنها تتمثّل بصورة أخص في نقص ملاءمة السياسة لمتطلبات البلد ومقتضيات نموه . وينجر عن هذا عدد من المسائل الشائكة : المآسي الاجتماعية والانهيارات النفسية للأشخاص المحرومين من الشغل والمتحملين غالبا لمسؤوليات عائلية ثقيلة وقاهر ة، ولجوء هذه الفئات الاجتماعية المعدمة لحلول اليأس كالهجرة، ولا سيما الهجرة السرية التي تتسبب يوميا تقريبا في فواجع بشرية ذات نتائج وخيمة متعددة المظاهر . ولا يمكن لهذه الثغرات الظاهرة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية للنظام القائم إلا أن تتسبب بل وتنمي الشعور بالحيف وبالغضب ضمن المجتمع التونسي في جملته، ولا سيما
في صفوف الفئات الأقل حظا.وتستفحل المشكلة ا لأكثر مأساوية بالنسبة إلى الأمة بكاملها عندما يمس الشك في المستقبل لدى النخب الحاملة للشهادات من جميع المستويات الدراسية وخاصة حاملي شهادات التعليم العالي، وذلك أولا لأن الأمة دفعت لتكوين حامل الشهادة "العليا" ثمنا غاليا، وثانيا لأنه يمثل طاقة مهدورة وفرصة ضائعة لخلق مواطن شغل وثروات جديدة للوطن . وتزداد الوضعية خطورة عندما يغادر هؤلاء الشبان أصحاب الشهادات البلد، وهو ما بدأ يصبح أمرا معتادا، دون برنامج عودة أحيانا وفي موقف عدم اكتراث شبه كلي من سلطات بلدهم سواء في ما يخص المساعدة التي يفترض أن تقدم لهم في الخارج أو في ما يتصل ببرمجة عودتهم المحتملة إلى أرض الوطن . هذه المشكلة مرتبطة وثيق الارتباط بنقيصة أخرى من نقائص السياسة الاقتصادية والاجتماعية للنظام القائم في مجال التربية والتكوين والإعداد لاندماج الشباب في الحياة العملية . والذي يلفت الانتباه في هذا الميدان هو كثرة "الإصلاحا ت" في ظل غياب شبه كامل لأي إستراتيجية تربوية متكاملة مخطط لها على المدى المتوسط وعلى المدى الطويل ومدعومة دعما قويا باستمر ارية في التجسيم وبوسائل مادية وبشرية ملائمة. فقد كانت المدرسة التونسية، بجميع مستوياتها وطوال عقود، محكوما عليها بأن تمثل حقل تجارب لإصلاحات مزعومة قائمة في العمق على سوء تصور وتنقصها المثابرة والاستمرارية الكافية للقيام بتقييم موضوعي ضروري كفيل بإجراء التعديلات الملائمة في الوقت المناسب . وقد انجر عن هذا انهيار خطير لمستوى التعليم وخسارة محققة لمصداقية الشهادات التونسية اليو م. وغني عن البيان في الوقت الحاضر، أكثر من أي وقت مضى، أن الأمة التي تعجز عن أن تضمن مستوى رفيعا جدا من التنمية البشرية لشبابها، بل لجميع أجيالها، هي أمة محكوم عليها بالتخلف والتقهقر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي لا يمكن أن تزيده " العولمة" إلا استفحالا . وعلاوة على هذا، فان التربية والتكوين لا يمكن أن نكتفى بهما اليوم لضمان نمو بلد ما إذا لم تصاحبهما سياسة وطنية قوية في مجا ل البحث العلمي والتكنولوجي تتطلب استثمارات هامة في المجال البشري والمالي والقانوني والمؤسسي وتشريكا فاعلا ودائما لكل القوى المنتجة العمومية والخاصة وكذلك للجامعيين في وضع برامج البحوث وتنظيم مراحلها والتخطيط لها وترشيد أولوياتها. ومن الصعوبة بمكان أن نقول إن هذه الإمكانيات متوفرة اليوم في بلادنا. فالبحث العلمي والتكنولوجي التونسي أبعد من أن يكون قد وجد الاندفاع الضروري، فضلا عن الحديث عن النسق التطوري الضروري الذي يمكن البلا د فعلا من التعويل على إسهامها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتشكو السياسة الاجتماعية من نقائص هامة . فالسياسة في مجال الصحة العمومية سيئة في مستوى نوعية الخدمات المقدمة للمرضى بالرغم من الإصلاحات التي تم إدخالها على أساليب التصرف وبالرغم من الزيادة الهامة في سعر الخدمات التي تقدمها المستشفيات العمومية . ومن جهة أخرى ، يطرح تحمل هذه الخدمات اجتماعيا مشاكل فعلية في مستوى الثقل المالي الذي تمثله. على أن الإصلاح الأخير المتعلق بالصندوق الوطني للتأمين على المرض أبعد من أن يزيل جميع المخاوف المتعلقة بهذا الموضو ع. ثم إن تونس بلد قد بدأ يهرم ديمغرافيا، غير أن معالجة هذا الوضع الجديد لم تبرمج ولم تطرح السلطة على نفسها إلى حد الآن مسألة رصد الإمكانات المالية والمادية وخصوصا البشرية الضرورية لذل
3
إن تونس في ظل النظام الحالي شبه غائبة عن الساحة الدولية ، فهي لا تلعب أي دور ظاهر في الهيئات الدولي الأكثر أهمية لمستقبل البلد سواء على الصعيد المغاربي أو العربي أو المتوسطي أو على صعيد الهيئات العالمية. والحال أن حضور أي بلد ودوره النشيط لدى كل هذه المنظمات والمؤسسات الدولية أمر في غاية الأهمية لا لكي يبلغ هذا البلد صوته فحسب، بل وبالخصوص لكي يتمكن من خدمة مصالحه وبناء التحالفات الضرورية الأكثر نفعا لمصالحه الوطنية الأساسية. وتزداد هذه الحقيقة وضوحا وتأكدا إذا استحضرنا ما سبقت الإشارة إليه من أن الكرة الأرضية أصبحت تعيش اليوم عصر العولمة أي عصر المنافسة الشاملة وتسابق أقوياء العالم كل على توسيع نطاق هيمنته، وهو ما يفضي حتما إلى تهميش الكيانات الضعيفة التي ليس لها شأن كبير على ركح السياسة العالمية . 4 - إن جميع المعطيات والتحاليل تؤدي إلى الملاحظة التالية التي تبدو لنا أساسية بالنسبة إلى مستقبل بلادنا في مواجهت ها لتحديات الحداثة والعولمة . لم تستجب السياسات الوطنية المتبعة إلى حد الآن لانتظاراتنا التي أنيطت بها في أكثر المجالات حيوية وضمانا لاستقلال الوطن ونموه وازدهار ه. ولم تكن الأنظمة التي تتابعت منذ الاستقلال وعلى مدى 52 عاما أي منذ جيلين ، في مستوى الآمال المشروعة للشعب التونسي وهو ما يتطلب مراجعة عميقة وجذرية لكامل الإستراتيجية الوطنية للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد . وتتحمل الهياكل المسيرة التي تتابعت على البلد مسؤولية ثقيلة جدا في هذه الإخفاقا ت. ونظرا إلى أن هذه الهياكل معوقة بأكثر من خمسين سنة من الفشل صارت عاجزة عن تحقيق آمال البلد وعلى رفع التحديات التي هو مقبل على مواجهتها خلال العقود المقبلة. ومن واجبها أن تعترف بذلك أمام الشعب . كما أنه من الضروري أن يتم تغيير المسؤولين عن التأطير السياسي بصورة جذرية . ويجب أن تضطلع حركية سياسية جديدة حاملة لهذه الآمال بهذه المهمة العظيمة التي تتمثل في تسيير البلد على درب التنمية الفعلية، العادلة والمستديمة لشعبنا . ويجب أن تتأسس على برنامج عمل واضح وشفاف ومسؤو ل، تكون ابرز ركائزه كالتالي
.
1 -
أظهرت تجارب ما يفوق النصف قرن من "الحزب الواحد" أو "الحزب المهيمن"أو "التعددية" الزائفة والرئاسة الأحادية أن هذه الممارسات مضى وقتها، وبان فشلها في إرساء ديمقراطية حقيقية ببلادنا ، و تسببت في تأخر مأسوي لصحوة الوعي السياسي للمجتمع برمته وفي لا مبالاة الغالبية العظمى للمواطنين التونسيين الذين فقدوا كل ثقة في دعاوى "الديمقراطية " في الانتخابا ت الرئاسية والانتخابات التشريعية والانتخابا ت ا لبلدية . إن التونسيين ضجر وا من الانتخابات التي تكون نتيجتها 99 % ومن الانتخابات "الحر ة" التي يتم إعدادها بشكل كامل وتوجيهها وحسم نتائجها بشكل مسبق والتي يتندر بها العالم بأسره ولا تخدم صورة
تونس الدولية بل تسيء إلى مصا لحنا الوطنية والى علاقاتنا بالأمم الأخرى .
2-
منذ الاستقلال ، وبعد تجارب فاشلة في مجال التنميةلاقتصادية والاجتماعية، قطعت تونس أشواطا في هذا الميدان . وينبغي أن نتذكر هنا أن التطورات التي تحققت كانت قبل كل شيء ثمرة تضحيات جميع التونسيين، ولم تكن، على عكس ما تدعي بعض الأوسا ط، نتيجة جهود طبقة "رجال الأعمال " أو نتيجة ملاءمة السياسة الاقتصادية والاجتماعي للدولة وحكمة نخبها الحاكمة . على أن التطور الاقتصادي، وهو ثمرة جهود جميع مكونات الأمة ، لم ينتفع به جميع المواطنين بصورة عادلة، بل هو وضع في خدمة طبقة من حديثي الثروة ومن الوصوليين الذين اغتنموا ضعف تنظيم الطبقات الاجتماعية الأخرى وضعف التنظيمات النقابية وهياكل التمثيل السياسي بشكل مفضوح كي يكونوا لأنفسهم ثروات طائلة مشوبة في الغالب بعدم الشرعية وبالمحاباة والفسا د. ومن ثم فإن تونس قد شقتها في ظرف ثلاثين سنة فقط قطيعة اجتماع ية تشكل تهديدا خطرا ومتزايدا للسلم الداخلي للبلد وتوازن الطبقات الاجتماعية و تم ثّل بيئة ملائمة لانتعاش أنواع التطرف الإيديولوجي والسياسي والأزمات الخطرة جد ا. 3 - وإذا كان النظام السياسي الأول لتونس المستقلة قد برر وجوده بمبدٳ "الشرعية التاريخية " لمؤسسه، فإن النظام الحالي قد تأسس على "بيان 7 نوفمبر 1987 " الذي ينص على ما يلي: "لقد بلغ شعبنا مستوى من المسؤولية والنضج يمكّن كل أفراده ومكونا ته من تقديم إسهامهم البناء في تسيير شؤون البلاد طبقا لمبدأ الجمهورية التي تسند للمؤسسات تمام صلاحياتها و تضمن الأسباب لديمقراطية مسؤولة تحترم سيادة الشعب مثلما تضمنها الدستور ..." وما من شك في أن الشعب التونسي بكل شرائحه وفئاته، يتمتع بالنضج السياسي مهما كان المستوى الاجتماعي والسياسي أو الثقافي لمكوناته. وما من شك أيضا في أن الشعب التونسي كافة قد انخرط في مسار النظام الجديد على اعتبار أنه أنصف عن طريق الاعتراف بالوعي السياسي الذي بلغه منذ أمد بعيد وبقدرته على تحمل مسؤولياته السياسية وغيرها كاملة وأنه قد منح ثقته لتحول السابع من نوفمبر على هذا الأساس . كما أنه ما من شك أن مآل نظام "السابع من نوفمبر " بمرور السنوات اتجاها مغايرا جدا لما كان أعلنه عام1987 جعل عموم الشعب التونسي يشعر – بالرغم من صمته – بخيبة أمل عميقة ناتجة عن ضياع فرصة قيام نظام حكم ديمقراطي حقا يحترم الدستور والقوانين ويستطيع أن يمنح جميع الطبقات الاجتماعية الحظ في المساهمة في التنمية الاقتصادية والسياسية والاج تماعية والثقافية وأن يعود عليه ذلك في المقابل بالمنفعة بصورة عادلة وفي نطاق الشفافية الكاملة. ولئن كان الشعب التونسي يشعر بخيبة أمل عميقة من السياسة ومن الطبقة السياسية التي تحكمه حالي ا، فإنه لا يزال يطالب بالتطبيق الكامل للدستور وبجميع التغييرات العميقة اللازمة اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ الاستقلال وبحقه في تقرير مصيره بحرية من أجل بناء تونس ديمقراطية جديدة حرة مستقلة متطورة اقتصاديا واجتماعيا وقادرة على بلوغ الرخاء الشامل والمستديم وعلى الإسهام في الحضارة الإنسانية بازدهار ذاتيتها وثراء تراثها الثقافي . إن جميع الشعب التونسي يبارك هذه المطالب و ينخرط فيها تماما ويلتزم بالعمل على تحقيقها ويكرس جهوده في هذا الأفق مقتنعا بأن كل مواطن تونسي يمتلك، بمقتضى الدستور، حقا يساوي حق غيره من المواطنين التونسيين في الإسهام في ازدهار بلاده وفي المساهمة في حسن سير الشؤون العامة للوطن . ولهذا فان أولوية العمل السياسي ستتجه نحو هذا الأفق وبعزم وثبا ت. شروط تحول ديمقراطي حقيقي في تونس
I
تنتمي تونس إلى كوكبة من الدول التي تزعم، من باب الدعاية ، أنها أنظمة ديمقراطية. وهي مثل تلك البلدا ن، تعرض أمام الرأي العام العالمي مظاهر من الديمقراطية والتعلق بحقوق الإنسان واحترام القانون . والدستور التونسي له جميع مظاهر دستور ديمقراطي ، فهو يعلن عن الحقوق والحريات الفردية المقبولة عالميا وأن الشعب هو صاحب السيادة الوطنية وأنه يمارسها بحسب المبادئ الديمقراطية عبر انتخابات حرة ودورية ونزيهة. والدستور التونسي يؤكد احترامه الكامل لحقوق المواطنين في مجال ضمانات حسن سير القضاء واستقلاله وشفافية عمل المحاكم وسير مصالحها العمومية. وهو يتضمن مبدأ الفصل بين السلط وينظم مظاهر تو زيع شكلي للصلاحيات مطابقة للمثل الأعلى المطلوب في التوازن بين الأجهزة الحاكمة للدولة التي هو ضامن لاستقلالها. وينص على أن السلطة التشريعية تنبع من الشعب وأن الشعب يمارسها بواسطة نوابه أو عبر الاستفتا ء، ويضمن انتخابات حرة وعامة وديمقراطية... غير أن الواقع هو أن هذا كله ليس إلا واجهة مضّللة وبهرجا زائفا.
أ - "الحريات الفردية" و "الحقوق الأساسية ":
إن هذه الحقوق التي هي الأساس الذي لا محيد عنه لكل ديمقراطية ولكل تنظيم عادل لأي مجتمع بشري ليست محترمة في بلادنا، وهو أمر تشهد عليه أكثر المنظمات الدولية موضوعية ومصداقية. وبلادنا تتعرض دوريا للإدانات من اللجان والمنظمات ا لدولية لحقوق الإنسان، وهي تحتل ترتيبا سيئا جدا على قائمة الدول من ناحية احترام هذه الحقوق الأساسية . لذلك يجب على كل عمل سياسي أن يكون مركزا بالأساس على تنفيذ ضمن الواقع اليومي لهذه الحريات والحقوق الاساسية كما وقع التنصيص عليها بوضوح ضمن دستور سنة 1959 والتي أكدتها القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية الممضاة من قبل تونس . إن الممارسة الفعلية لهذه الحقوق والحريات الأساسية يجب أن تخضع إلى مراقبة فعالة وناجعة أي، قابلة للعقاب الذي يجب أن يكون موكولا لمحاكم مستقلة، نزيهة ومحايد ة. كذلك يجب حماية ممارسة هذه الحقوق بالمراقبة الفعلية من طرف المنظمات الدولية المختصة التي سوف تشهد بأن بلادنا أصبحت حقا دولة تحترم الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين التونسيين وكل الآخرين من بقاع العالم الذين يستقبلهم هذا البلد بصفة قانونية . ب - "العد ل" و "احترام القانون .
لقد أصبح البشر يعرفون جيدا، خاصة منذ ابن خلدون ، أنه لا يمكن لأي مجتمع بشري أن يتطور وأن يبلغ أرقى درجات الحضارة دون أن يكون له نظام قضا ئي عادل يتعالى على كل شبهة ويتمتع باستقلال تام إزاء الدولة وإزاء المتقاضين . وأي دولة، مهما كانت قوتها، مآلها التراجع إذا هي لم تفرز حكومة قادرة على سن قوانين عادلة وإذا هي لم تش يد محاكم مؤلفة من قضاة أكفاء ونزهاء ومتح ّلين بمكارم الأخلاق في أداء مهامهم لا يشعرون إزاء السلطة السياسية التي عينتهم بأي شكل من أشكال الولاء أو الخوف. والمجتمعات العصرية التي اضطرت إلى تبني نظام حقو قي يزداد تعقدا يوما بعد يوم كي يستجيب لمقتضيات المعاصرة، تتحمل مسؤولية أثقل تجاه كافة مواطنيها وفي مجال العدل وفي مجال التطبيق العادل والنزيه للقانون . والدولة التي لا تحترم قوانينها، بكل حيادية وبكل استقلالية، مآلها السقوط في الاعتباطية والظلم والرشوة والفساد واختلال التوازن الاجتماعي والسياسي والقطيعة بين المجتمع وا لهيئة السياسية في كليته، وأخيرا التراجع الحضاري . ولهذا فإن سن قوانين جيدة وتطبيقها بكل عدالة ومساواة وشفافية، إنما هو واجب أساسي على كل دولة وعلى كل دولة عصرية، وهو في الوقت نفسه ضمان لازدهار ا لمجتمع بأسره على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، ولكن على الصعيد السياسي والثقافي والحضاري أيضا. والدولة العادلة دولة مزدهر ة؛ أما الدولة الظالمة فهي دولة لا مستقبل لها، وإنما مآلها الانهيار والخراب والسقوط في النسيان، وهو ما يقدم التاريخ العربي الإسلامي شواهد كثيرة دالة عليه ... لهذه الأسباب الأساسية يتحتم النضال الدائم والقوي من أجل إصلاح عميق للمؤسسة القضائية ببلادنا من أبسط مستويات العدالة إلى أرفع مستويات السلم القضائي . سيدعم مراجعة سير المؤسسة القضائية برمتها من أجل إعطائها أكثر نجاعة وحيادية وشفافية ومز يدا من الاستقلالية بحيث تكون فوق كل شبهة وفوق كل ريبة في نظر المواطني ن. وينبغي أن تتم مراجعة القانون الأساسي الخاص بالهيئات القضائية الكبرى أو إتمامه كي يسمح ذلك للقضاة القيام بمهامهم كلها في كنف الاستقلالية وراحة الضمير وبعيدا عن أي تدخل للسلطة التنفيذية . إن "دولة القانو ن" على صلة وثيقة بحسن سير "القضا ء "، ولكنها لا تعني المؤسسة القضائية فحسب، فالتجاوزات قد تصدر عن هياكل أخرى لسلطة الدولة يجب مكافحتها بكل قو ة. ولهذا السبب فإن تحقيق "دولة القانو ن" يعد من ضمن أهم الأهدا ف. فمن الضروري أن تتم مكافحة التجاوزات القانونية التي هي من نتائج سوء سير السلطة ، سواء كانت سلطة الحكومة أو سلطة الإدار ة. وتقتضي "دولة القانو ن" أن تقف هاتان السلطتان عند حدود صارمة يقيمها القانون شريطة أن يكون هو نفسه قد تم تبنيه في ظروف طبيعية من حسن سير المؤسسات التشريعية الديمقراطية، وأن الت جاوزات، مهما كان مأتاها وطبيعتها وخطرها، يقع زجرها من قبل السلطة القضائية بكل استقلالية . إن "دولة القانون " تقتضي أن يحترم الدستور بكل دقة ومن قبل الجميع وأن ينظر إلى القوانين المتبناة من قبل السلطة التشريعية والمطبقة من قبل السلطة التنفيذية في كنف الاحترام الدقيق للدستور في حرفيته وفي روحه بالخصوص . ثم انه يجب أن لا يغيب عن الأذهان أن "دولة القانون " هي أثمن حماية للمواطن من تجاوزات السلط الحكومية والإدارية خاصة . ولهذا من الواجب على الجميع النضال بأكبر قدر ممكن من المثابرة والجد لكي ينعم المواطنون، مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية، بفوائد "دولة القانون " ومن أجل أن لا يكون هذا الوضع، بالنسبة إليهم طوباويا أو حلما بعيد المنال.
من أجل إرساء ديمقراطية فعلية في تونس : . II
أ المبادئ الأساسية للديمقراطية
قل من يعتقد اعتقادا جادا أن تونس ما بعد الاستقلال، دعك من تونس اليوم أو "تونس التغيير "، قد خاضت حقا تجربة الديمقراطية . والديمقراطية نظام مؤسس على مبادئ أساسية يجب أن نقتنع بأنها لم تحترم بصورة دقيقة. فان الأنظمة التي تدعي أنها "ديمقراطية" إنما تعمد إلى مصادرة فعلية واعتداء صارخ على مكسب من أهم مكاسب الإنسانية وإضافة من أبرز إضافات الحداثة ، وهذه المبادئ الأساسية للديمقراطية هي التالية : السيادة ملك فعلي، لا شكلي أو اسمي فقط، لكامل الهيئة السياسية، بل لكافة الأمة دون وصاية أو غصب، السيادة تمارسها الهيئة السياسية إما مباشرة عن طريق الاستفتاء، أو عن طريق التمثيل وبشروط تقبل بها .
يجب أن يكون الاستفتاء سبيلا طبيعيا للتعبير عن رغبة الهيكل السياسي ويجب أن يكون استخدامه متاحا في نفس الوقت للمواطنين وللهيئات الشرعية في ظروف يحددها القانون بصورة واضحة ومتوازنة . أن يعين الهيكل السياسي بحرية ممثليه في المؤسسات المدعوة إلى ممارسة السيادة باسمه ويمتلك سلطة مراقبة نشاط ممثليه، يتم تعيين نواب الشعب بواسطة الاقتراع العام في انتخابات حرة وشفافة ومباشرة وسرية وعادلة وتحترم تنوع الآراء وحرية التعبير عنها. هذه المبادئ الأساسية للديمقراطية تفترض أيضا: ضمان الحريات والحقوق الأساسية للمواطن بصورة تمكنه من المشاركة، دون رهبة أو ضغوط، في الحياة السياسية وفي التعبير عن رغبة الفريق السياسي المستقل الذي ينتمي إليه ، حرية إنشاء وتنشيط مؤسسات تأطير اجتماعي وسياسي وخاصة الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات بشرط أن تلتزم هذه المؤسسات باحترام القانون ومقتضيات الميثاق الوطني،ضمان حرية التعبير والاجتماع لمؤسسات التأطير الاجتماعي والعمل السياسي التي لها وجود قانوني، مراجعة نظام الانتخابات بما يجعل ممارسة الحريات السياسية ممكنة، وضمان المشاركة في العمليات الانتخابية في كنف المبادئ الديمقراطية المذكورة أعلاه وفي كنف سائر المبادئ المقترنة مباشرة بهذا الحق، تنظيم عمليات الاستشارة الشعبية أو العمليات الانتخابية في جميع المستويات في كنف احترام قوانين جميع المؤسسات المؤهلة قانونيا للمشاركة فيها وتحت مراقبة هياكل وطنية مستقلة تمتلك سلطات خاصة لضمان الشفافية الكاملة وكل الشروط اللازمة لحسن سير عمليات الاستشارة الوطنية والجهوية والمحلية دون استبعاد حضور ملاحظين دوليين مستقلين ومحايدين، إرساء نظام تقاض حر ومؤهل لزجر كل التجاوزات التي تتم ملاحظتها في العمليات الانتخابية وفي الاستشارات، مع منح هيكل المراقبة هذا سلطة صريحة تخول له اتخاذ الإجراءات الزجرية الملائمة والقابلة للتنفيذ فورا وبلا استئناف، وتتضمن هذه المبادئ الأساسية الديمقراطية أيضا مطلبا جوهريا آخر هو "إصلاح الدولة" الذي ينبغي أن يؤدي إلى تغيير النظام السياسي التونسي من "نظام تبعية " هو الآن خاضع له، وقد استمر منذ الاستقلال، إلى نظام ديمقراطية تشاركية ومسؤولة. وينبغي للهيئة السياسية في نطاقها أن تمسك بزمام مصيرها وأن تحسم في شأن الاختيارات السياسية والحضارية التي تسطرها بحرية ووعي ودر اية. ذلك أن تونس صارت اليوم "أكبر " من أن تواصل العيش تحت وصاية أنظمة سياسية فرضت نفسها إلى حد الآن بتعلات مخادعة من نوع "من غيرنا نحن سيسود الأمة الشقا ق" أو من نو ع "من غيرنا نحن ستحل الفوضى واضطراب الأمن". هذه المبادئ الأساسية ستكون لها انعكاسات في غاية الأهمية تتطلب ضرورة تطبيقها، وهي أمر لا محيد عنه، إصلاحا عميقا للدولة في تأطيرها القانوني وفي مؤسساتها وفي ممارساتها وفي علاقاتها بالمواطنين . ومن بين هذه الانعكاسات الهامة جدا والضرورية يجب تحقيق الأهداف الكبرى التالية بشكل عاجل :
ب - إصلاح الدولة
هناك مبدأ أول يجب أن يتأسس عليه كل شيء وأن يعاد على أساسه النظر في كل شيء : هو أن الدولة التونسية يجب أن تعتبر بمثابة التجسيد للأمة التونسية والتجسيد لكافة المواطنين التونسيين الذي ن تتألف منهم، لا أن تكون أداة موضوعة بين أيدي طبقة اجتماعية، مهما كانت أهميتها، و لا يمكن أن تكون الدولة، بأي صفة كانت وبأي تعلة كانت، ملكية فئة معينة، فضلا عن أن تكون في خدمة فرد، كائنا من كان . يجب أن تقطع تونس مع ذلك التصور الضار الموروث عن عصور الخلفاء والبايات والمؤسس على ادعاء أن هذا البلد، بكل إمكاناته البشرية و ثرواته، قد سخره القدر لخدمة فئة اجتماعية أو عشيرة أو أسرة أو شخص ما. ينبغي أن تعود الدولة التونسية حينئذ إلى حظيرة الأمة التونسية، وينبغي أن يعتبرها التونسيون وأن يحسوا بأنها ملكيتهم المشتركة لعموم الأمة، والمؤسسة التي أنشأها كل التونسيين كي تخدمهم في حاضرهم ومستقبلهم، لا لكي تسمح للبعض باستخدامها للز يادة من ثرواتهم الشخصية ومصالحهم السلطوية وامتيازاتهم الفرد ية الأنانية . إن هذه الأرض الطيبة التي وهبها الله للتونسيين يجب أن توضع في خدمة أبناء هذه الأمة التونسية، لا في خدمة جزء ضئيل من المجتمع التونسي، ويجب أن تكون محكومة من طرف عموم هذا المجتمع الذي يسمى الأمة التونسية . ومن واجب كل مواطن تونسي أن يجعل من هدف المصالحة بين الدولة التونسية وعموم الأمة التونسية هدفا أساسيا ذا أولية مطلقة في عمله وطاقته ومطالبه، وأن يبذل الجهد نفسه من أجل القضاء على آثار التصور الأبوي والإقطاعي الذي أنتج كوارث عديدة في تاريخ شعبنا وفي تاريخ عموم الأمة العربية الإسلامية . ج - د الاعتبار إلى الدستور لكو نه "القانون الأساسي " للدولة
انه من باب البساطة الشديدة أن ينظر إلى الدستور كما لو كان لوحة زخرفة قانونية ومجرد "شارة" للزينة أو بهرجا وقناعا تنكريا يوضع لكي يسمح لصاحبه بالدخول إلى نادي الأمم العصرية. إنما الدستور هو صورة الأمة في المستقبل ؛ ولا يمكن لأمة لا تحترم دستورها، في حرفيته وخصوصا في أهدافه وروحه، أن تعتبر نفسها أمة ديمقراطية ولا أمة حققت " دولة القانون ". وهي بالتالي قابلة لأن تصبح ضحية لكل أشكال "المغامراتية السياسية " ولأن تتعرض لأخطر الأزمات السياسية . يجب أن يكون دستور البلاد إذن البوتقة التي تنصهر فيها جميع عناصر الوفاق السياسي والاجتماعي والثقافي لعموم الأمة وأن يكون أيضا المعيار الأعلى الذي يحكم البلاد وجميع مؤسساتها مهما كان موقعها ضمن التراتبية العامة . وينبغي لمقتضياته أن تطبق بكامل الحرص وأن تحترم سواء من قبل عموم المواطنين أو من قبل هياكل الدولة التي أنشأها والتي هي أحرى باحترامه بسبب ذلك . وعدم احترام مقتضيات الدستور يجب أن يعاقب من قبل مؤسسات مستقلة يضعها قانونها الدستوري وتكون "فوق الجميع". فإذا تعذر العمل الصارم بهذا الشرط الأول لن تتوفر في البلاد ديمقراطية حقيقية ولا "دولة قانو ن" فعلية ولا أي شكل لحياة سياسية من شأنها الاستجابة للمقاييس الديمقراطية التي انخرطت فيها جميع الأمم المعاصر ة. ولهذا السبب، ولأخذ العامل التاريخي بعين الاعتبار أيضا، فقد تم الوعي بالمطالبة الدستورية، منذ السنوات ا لأولى للنضال من أجل الاستقلال . على أن الدستور هو الأساس المطلق لكل إعادة بناء وطني لأ ي أمة عصرية، ولهذا السبب أيضا، يتعين على كل عمل سياسي أن يضع المبادئ التالية على رأس الأولويات ضمن عمله السياسي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتضامن الوطني .
د - مراجعة هيكل السلطات في اتجاه إرساء ديمقراطية حقيقية
ورث النظام السياسي الحالي عن النظام الأول لتونس المستقلة جميع مظاهر الخلل العميق في هيكل السلطة. والأدهى من ذلك، وعلى عكس الوعود التي جاء بها "بيان 7 نوفمبر" ، أن "التعديلا ت " الكثيرة ، عوض أن تحقق وعود ديمقراطية الحياة السياسية للبلاد، لدستور 1959 زادت الخلل الأصلي استفحالا . فالهوة التي تفصل اليوم واقع البلاد المؤسساتي والسياسي من جهة والقرارات التي أدرجت شكليا في الدستور، من جهة أخرى، هي من العمق بحيث أمكن للملاحظين أن يصفوا النظا م التونسي الحالي بأنه نظام يعاني من الانفصام . وفعلا فالنظام الحالي بعيد جدا، على صعيد سير السلطة السياسية، عما ينص عليه الدستو ر. ومن هذه الزاوية ، فالنظام الحالي في قطيعة تامة مع التزاماته الخاصة. أما من زاوية الإصلاح الضروري للدولة وعصرنة سير مؤسساتها الحاكمة، فإن "بيان 7 نوفمبر 1987 " يشكل فشلا ذريعا. ولهذه الأسباب الأساسية، فقد آن الأوان للقطع مع الخرافة التي
اختلقها النظام الحالي لأهداف دعائية، ولوضع حد للإ خلالات الحالية، وذلك شرط أساسي لتعصير البلاد وتحديث نظامها السياسي. وستظهر المواد المحللة في ما يلي خطورة الوضع الحالي وتأكد الحاجة إلى العمل على إزالة مظاهر الخلل الحالية...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.