رغم أن معلومات عديدة، كشفها الأستاذ أحمد بن صالح، ل«الشروق» عبر ركن «مذكرات سياسي في الشروق» حول حشاد الزعيم، وحشاد المناضل وحشاد صاحب الرؤية المستقبلية، المؤمن بحقوق الفرد والجماعة وحقّ الوطن في العزّة والاستقلال والكرامة، رغم كلّ ذلك، فإن حديثا مطوّلا يتناول خفايا أخرى، لم تذكر من قبل، تكشف النقّاب عن حياة المناضل فرحات حشاد الذي وإن لم يقلها هو وقالها بعده عبد الناصر فقد مارسها وطبّقها، بأن عمل بالقول: «ارفع رأسك يا أخي».. في هذا اللقاء الخاص، وبمناسبة الذكرى السابعة والخمسين لاستشهاد الزعيم فرحات حشاد، يكشف الأستاذ أحمد بن صالح، كيف أن الاتحاد العام التونسي للشغل، بقيادة حشاد، بالوطن كاملا، بعمّاله وشغّاليه ومناضليه السياسيين ضمن الحزب الحرّ الدستوري.. لم يكن حشّاد زعيما نقابيا يركّز على المطلبيات فقط، بل إن رؤية الرجل كانت تمتدّ إلى الآفاق العريضة والبعيدة.. آفاق تضمن الكرامة الوطنية والتحرير من ربقة الاستعمار وضمان الظروف المعيشية للعمّال والشغالين، وفوق هذا كلّه، يرصد حشّاد أن الوضع السياسي الفكري لتونس ذاك العهد (آخر الأربعينيات وبداية الخمسينات) كان هشّا، فكان اقتراحه المدروس والسابق لعصره: «لجنة الدفاع عن الحقوق الديمقراطية والتمثيل الشعبي».. جوانب عديدة، يكشفها هذا اللّقاء الخاص، مع الأستاذ أحمد بن صالح، الذي يفخر أيّما فخر أنه سليل فرحات حشاد.. فكريا ونضاليا.. البداية كانت مع السؤال التالي: أستاذ أحمد بن صالح، في هذا اللقاء الخاص، والمعزول عن فحوى المذكرات، وبمناسبة الذكرى السابعة والخمسين لاغتيال المناضل فرحات حشاد، أسألك سؤالا تقليديا بل هو مرتبط شديد الارتباط بما تردّده دوما من مناقب سياسية وفكرية ونقابية وأخلاقية لحشّاد: كيف عرفت فرحات حشّاد.. وما هي الظروف التي قرّبتك أنت بالذات من الرّجل؟ عندما تأسس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 (20 جانفي) كنت طالبا في باريس، ورئيس شعبة في العاصمة الفرنسية.. بطبيعة الحال، كنّا كطلبة مبتهجين بتأسيس الاتحاد.. ولكن عندما رجعت من فرنسا مع جثمان المنصف باي، وبدأت أدرّس في سوسة، حيث عُيّنت للتدريس هناك.. وكنت وأنا مدرّس (أستاذ) في سوسة، مسؤولا في الاتحاد الجهوي للشغل بسوسة، حيث كنت أمينا عاما للفرع الجهوي للتعليم الثانوي والفرع الجهوي لجامعة التعليم، التابع للاتحاد الجهوي للشغل بسوسة.. في ذاك الوقت، أي سنوات 1949 و1950 و1951، كانت الأجواء مثقلة.. وكانت أول صدمة حصلت لنا حوادث النفيضة.. وهي مجزرة بأتم معنى الكلمة، ارتكبها أحد الاستعماريين في حق العمّال، حيث قتل العديد منهم برشاشه «الخاص».. وكانت المجزرة، وكما يُقال بالعامية «في وجوهنا» نحن أعضاء الاتحاد الجهوي بسوسة.. أذكر أننا كمسؤولين نقابيين لم نكن نستطيع أن نتحرّك أو ندخل مدينة «النفيضة» وقد حدث أن أقرّ مجلس قومي (وطني) للاتحاد العام التونسي للشغل وذلك بالخلدونية، بتونس العاصمة (المدينة العتيقة).. وخلال ذلك المجلس أراد فرحات حشاد ومسؤولون في المركزية النقابية أن يعبّروا عن عناية خاصة بجهة سوسة، فأسندوا لنا رئاسة جلسة من جلسات المجلس الوطني.. وكنت أنا الذي عيّنوني رئيسا لجلسة تتطرّق إلى موضوع هام، وهو الخروج من المنظمة العالمية للنقابات الشيوعية FSN، وخلافا لما قيل، فقد كان الاجماع قويا من القاعة، ومن المؤتمر من بعد المجلس، للخروج من هذه المنظمة.. وبدأ الحديث، طبعا، عن الدخول إلى السيزل CISL.. ولكن هذا الموضوع لم يحصل حوله إجماع..إلى حدّ ذاك التاريخ، كنت أعرف حشاد عن بعد.. ولم يكن لي أيّ شعور سلبي تجاه شخص فرحات حشاد كنقابي وكدستوري في نفس الوقت.. الذي فهمناه كنقابيين وكدستوريين مثله، هو أن حشاد أراد في تلك الفترة أن يحرّك المشهد السياسي والناحية السياسية في النضال ككل.. وكان الضغط الاستعماري على أشدّه بين سنتي 1949 و1951.. وهنا كوّن فرحات حشاد «لجنة الدفاع عن الحقوق الديمقراطية والتمثيل الشعبي»، وتكوّنت لها فروع عبر الجهات، وكان لها فرع في سوسة.. وكنت أحد المسؤولين في هذه اللجنة بسوسة.. وقد حضرت اجتماعا للجنة، أشرف عليه فرحات حشاد، أظن كان ذلك في اللجم بوصفه رئيسا للجنة الدفاع عن الحقوق الديمقراطية والتمثيل الشعبي». ثم عرفت الرجل في المؤتمر الرابع للاتحاد العام التونسي للشغل، وعبر ذاك الجدل حول الانضمام من عدمه إلى منظمة «السيزل» .. وكنت من ضمن الفريق الذي كان يرفض الدخول في الكنفدرالية الدولية للنقابات الحرّة CISL... وقد ذكرت القصّة كاملة، عبر ركن «مذكرات سياسي في الشروق». كيف كان يتعامل معكم حشّاد، كنقابيين، هل كان «دكتاتورا» مثلا، يفرض رأيه، على اعتبار أنه المسؤول الأوّل؟ (يضحك سي أحمد.. وهو غير مصدّق..) أبدا.. ليست هذه شيم الرّجل.. بل أعطيك مثالا، على رحابة صدره وديمقراطيته التي يتحلى بها.. عندما كنّا في المؤتمر الرابع للاتحاد، مجموعة غير محدودة العدد، وقد ظنّ العديدون أننا مجموعة من «أربعة أنفار»، يعني مجموعة قليلة جدّا.. حصل وأن وضع مشكل الدخول من عدمه إلى السيزل، قيد النقاش العام.. كلّفت أنا بأن أتكلّم باسم المجموعة الرافضة للانضمام إلى «السيزل»، وقع نقاش عميق وربما وصل حدّ تسجيل بعض التصادم الجسدي بين رافضين ومؤيدين.. ما يبهر هنا، وفي هذا الجوّ العنيف والمكهرب، كان حشاد متماسكا وهادئا ومسيطرا على نفسه وعلى القضية نفسها.. وكان عارفا أين هو ذاهب.. تكلّمت باسم المعارضين، إذن وبدا نوع من الهيجان.. ولكن حشاد أخذ الكلمة لينهي السجالات.. كنت أتهيؤ للكلام، وجلست بالصف الأمامي، حين أخذ حشاد الكلمة، وكانت لحظة هامة وفارقة، حين ألقى كلمته وضمّنها موقف قيادة المركزية النقابية (المساند للدخول في السيزل) وكنّا مستعدين للردّ على طرحه، وإذا به يعلن بهدوء وثبات وكانت المفاجأة، حين قال: نظرا إلى أن الأمر مصيري فإني أطلب التصويت السرّي.. فعمّ نوع من الانشراح، لأن هذه خطوة ديمقراطية وفاتحة لما كنّا نتصوّر أن يكون عليه ووفقه وضع تونس.. ومعلوم أن التصويت أعطى نتيجة، قرابة المائة رافض من أصل أربعمائة مؤتمر، وقبل الجميع الحلّ الديمقراطي.. هكذا هو حشاد، فقد أنهى المسألة بطريقة ديمقراطية لا يشقّ لها غبار.. حفظ حقوق الأقلية مع تنفيذ موقف الأغلبية.. ولكن حشاد هو من اختارك لمهمّة تمثيل تونس، لدى السيزل في بروكسيل؟ نعم، ولكن كانت له فلسفة في ذلك.. طلب منّي مرات ورفضت هذا التكليف، وعندما برّرت له كيف أذهب إلى «السيزل» وأنا من المجموعة الرافضة للدخول إليها، أفحمني الرّجل، بأن قال لي، من الأفضل أن يكون في هذه المهمّة، نقابي رافض للتعليمات أو القول «نعم» دون تفحّص.. فهل تريد أن نبعث «واحدا» يقبل كلّ ما يطلب منه.. عندما قال لي هذا الكلام قلت له بالفرنسية: أنا أذعن.. je craque.. ابتسم ابتسامته المعروفة وفرح.. حشاد رجل محترم جدا.. وهو جدّي.. ولكنه في بعض المفاصل، يفرح بانجاز أو بموقف فرح طفل.. ورافقته إلى صفاقس.. لاحياء ذكرى حوادث 05 أوت، كنت معه في السيارة، وعلى مشارف «اللّجم» أذكر أنه قال لي بالفرنسية متحدثا عن الطريق التي كانت تطويها عجلات سيارته «التركسيون» السوداء: La route de l‘infini، أي أنها طريق لا تنتهي.. بعد ذلك بعث لي مسودّة الرسالة التي رشّحني وفقها إلى السيزل.. كيف كنت ترى حشّاد الخطيب؟ حضرت له عدة اجتماعات كان مشاركا أو مشرفا عليها.. وفي المجلس الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل وكذلك في مؤتمر لجان الدفاع عن الحقوق الديمقراطية والتمثيل الشعبي، ما يمكن أن أقوله عنه، هو أنه إنسان واضح، وتشعر وهو يلقي كلمة أو خطابا، أنه ليس متردّدا، وهو إنسان ذو عقيدة وخطيب مقنع.. وكان دوما كذلك.. حشاد واضح ولا يتكلّم من أجل الكلام، دائما في كلامه رسالة يبلغها.. وهو لا يستعمل الكلام من أجل الحماس الفارغ الذي يثير التصفيق.. فحشاد له حرص كبير على التبليغ.. هو أشبه ما يكون بيداغوجيا بمعلّم ممتاز.. لقد عرفت حشاد، خاصة، في بروكسيل، وبعد حوادث تازركة، خاطبني عبر الهاتف، من أجل موقف من السيزل، وفعلا كان الموقف الذي تمكّنا منه من هذه المنظمة ضدّ الاستعمار، موقفا غير مسبوق. هل كان حشاد مغامرا ومقداما ؟ حشاد شخصية استثنائية من حيث اقدامه على النضال ومن أجل التحرير والحريات والديمقراطية ... اذكر احدى المرات، ولما احتدم الموقف بين الحركة الوطنية والمستعمر الفرنسي، وقبل اغتياله بأشهر قليلة جدا، قال لي : «يا أحمد ... تعرف؟ يلزم واحد منا يموت، من القيادة، أنا أو بورقيبة حتى تتحرّك الأمور» ... قالها لي بداية 1952، لم يكن معتزا بالجو العام ... الجو لم يكن متحركا كما يشاء حشاد .. أذكر انه في أحداث 18 جانفي 1952، كان يسمعني عبر الهاتف وأنا في «بروكسيل» الضرب والصراخ وصوت السلاح ... (القمع الفرنسي...) وعندما منع من الخروج الى برلين كلفني بأن أدفع باتجاه لائحة عن الوضع في تونس والممارسات القمعية الاستعمارية.. فقرأت على مسامعه نص اللائحة ضد الاستعمار فقال لي كلمته الشهيرة للتعبير عن فرحته : «أنا نشطح يا أحمد ... أنا نشطح» ... آخر مرة قابلت فيها حشاد ؟ كانت أسابيع ربما قبل استشهاده ... جاء الى بروكسيل، وهو متجه الى أمريكا، وقد سجلنا له الخطاب وحمله معه شرائط، للتعريف بالقضية التونسية، ولكي يسمعه الشعب في تونس، وذلك بعد ان أقمنا له ندوة صحفية في بروكسيل حضرها جمع غفير من الصحفيين .. كيف حاولت البحث في ملفات العدلية، حول عملية اغتياله ؟ كنت أنا فريد جمال، قد أمضينا الساعات الطويلة وعبر زيارات متكررة الى وزارة العدل، ولم نعثر على شيء ... ولكن الرسالة التي تحدّثنا عنها (في مذكرات سياسي ونشرتها الشروق) والتي بعثها لي دانيال قيران كان الاتهام فيها موجها الى هنري سماجا (لابراس) والكاتب العام للاقامة العامة الفرنسية. وقد أشار أنه يجب ان يحاكما ... ويضيف «سي أحمد» قبل أن اطرح السؤال الأخير : .. ولكن السؤال الذي لا أعرف له جوابا الى الآن يهم ذاك الخبر الذي نشر بالصفحة الأولى في 1952 ولما كان حشاد في أمريكا، بجريدة «لوفيغارو» وأعيد نشره في جريدة الاستعمار هنا في تونس «Tunisie France» ويقول الخبر ان حشاد ذهب الى أمريكا لاقتناء السلاح ... «للفلاقة» ... سي أحمد هل تقصد ان المخابرات على الخط ؟ لا أعرف ... هناك العديد من التخمينات التي تؤشر الى عمل مخابراتي فرنسي وآخر متعدد ايضا ؟ لا أعلم ... ولكن الثابت، بشريا هناك مساهمة تونسية (جنسية تونسية) ساهمت في عملية الاغتيال.. لأن حشاد كما هو معلوم لم يمت من الضربة الأولى ... لأن أحد «رجال البوليس» ويدعى بن عيّاد أصبح مسؤولا أمنيا في مرسيليا، بعث لي رسالة مع أخي (شفوية) د. محمد بن صالح، وكنت كاتبا عاما للاتحاد، وطلب مقابلتي وقال «عنده ما يقول لي» فرفضت طبعا ... لماذا رفضت مقابلته ... ربما كان معه الجديد ؟ أبدا .. في ذاك الوقت قيل لي انه متهم في القضية .. ففرحات حشاد ضربوه المرة الأولى .. ثم قتلوه في الثانية عبر سيارة جاءت «لتنقذه» ... بعد كل هذا الزمن ماذا تقول عن حشاد ؟ التساؤل حول اغتياله مازال موجودا، ولكن حشاد لا يزال بيننا .. لا يزال حيا .. اعتبر ان الاتحاد قام بواجبه تجاه الزعيم .. واذكر ان الضريح (في القصبة) أقيم في ساعات معدودات وجلبنا جثمانه، الذي رأيته بعيني بعد ثلاث سنوات من الاغتيال، سليما، لم يمسّ .. كان ذلك في 5 ديسمبر (مثل اليوم) من عام 1955 ... حشاد لا يزال بيننا كأخ .. وكصديق ... وكقائد ...
