مربّون لامجرمون: وقفة احتجاجية في كامل الإعداديات والمعاهد.    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    حزب الائتلاف الوطني التونسي يرشح رئيسه ناجي جلول للانتخابات الرئاسية القادمة    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة.    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    التحديث الجديد من Galaxy AI يدعم المزيد من اللغات    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    كرة اليد: المنتخب التونسي يدخل في تربص تحضيري من 6 إلى 8 ماي الجاري بالحمامات.    اختناق عائلة متكونة من 4 أفراد بالغاز المنزلي..    فيديو لأمني ملطّخ بالدماء ومُحاط بأفارقة: الحرس الوطني يُوضّح.    التيار الشعبي : تحديد موعد الانتخابات الرئاسية من شأنه إنهاء الجدل حول هذا الاستحقاق    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    الكاتب العام لجامعة التعليم الثانوي : حادثة إعتداء تلميذة على أستاذها بشفرة حلاقة تفضح فشل المنظومة التربوية    بداية من مساء الغد: وصول التقلّبات الجوّية الى تونس    جندوبة: تعرض عائلة الى الاختناق بالغاز والحماية المدنية تتدخل    تقلبات جوية منتظرة خلال اليومين القادمين (وثيقة)    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    سليانة: حريق يأتي على أكثر من 3 هكتارات من القمح    الرابطة الأولى: البرنامج الكامل لمواجهات الجولة الثالثة إيابا لمرحلة تفادي النزول    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    مصر تكشف حقيقة إغلاق معبر رفح..    العاصمة: القبض على قاصرتين استدرجتا سائق "تاكسي" وسلبتاه أمواله    عاجل/ حزب الله يشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا على مستوطنات ومواقع صهيونية    البرلمان: النظر في تنقيح قانون يتعلق بمراكز الاصطياف وترفيه الاطفال    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    اليوم: طقس بمواصفات صيفية    طولة ايطاليا : جوفنتوس يتعادل مع روما ويهدر فرصة تقليص الفارق مع المركز الثاني    جندوبة .. لتفادي النقص في مياه الري ..اتحاد الفلاحين يطالب بمنح تراخيص لحفر آبار عميقة دون تعطيلات    ثورة الحركة الطلابية الأممية في مواجهة الحكومة العالمية ..من معاناة شعب ينفجر الغضب (1/ 2)    إسرائيل وموعظة «بيلار»    «فكر أرحب من السماء» بقلم كتّاب ((شينخوا)) ني سي يي، شي شياو منغ، شانغ جيون «شي» والثقافة الفرنسية    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب هذه المنطقة..    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    منافسات الشطرنج تُنعش الأجواء في سليانة    طقس اليوم: ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    مصادقة على تمويل 100 مشروع فلاحي ببنزرت    عمر كمال يكشف أسرارا عن إنهاء علاقته بطليقة الفيشاوي    تونسي المولد و النشأة... ترك تراثا عالميا مشتركا .. مقدمة ابن خلدون على لائحة اليونسكو؟    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    قوافل قفصة مستقبل المرسى (1 0)... انتصار العزيمة والاصرار    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    اليوم: لجنة الحقوق والحرّيات تستمع لممثلي وزارة المالية    أهدى أول كأس عالم لبلاده.. وفاة مدرب الأرجنتين السابق مينوتي    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    فص ثوم واحد كل ليلة يكسبك 5 فوائد صحية    الاثنين : انطلاق الإكتتاب في القسط الثاني من القرض الرقاعي الوطني    حقيقة الترفيع في تعريفات الكهرباء و الغاز    مختصّة في أمراض الشيخوخة تنصح باستشارة أطباء الاختصاص بشأن أدوية علاجات كبار السن    ظهرت بالحجاب ....شيرين عبد الوهاب تثير الجدل في الكويت    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديث مع المؤرخ التونسي الدكتور الهادي التّيمومي:

الهادي التيمومي: جامعي ومؤرّخ تونسي من مواليد سنة 1949 بالكبّارة من ولاية القيروان. يشغل اليوم منصب أستاذ التاريخ المعاصر بالجامعة التونسية. في الحقيقة، عرفت الاسم من خلال ما وقع بين يدي من دراساته وبحوثه الجامعية، فشدّتني جدّيتها وأسئلتها الخاصة وخاصة ما خطّه حول نمط الانتاج المخامسي الذي هيمن في تونس لفترة ما من تاريخها . فعملت علي مزيد التعرّف علي هذا القلم وعلي ما يخطّ. فاكتشفت أن للهادي التيمومي كتبا كثيرة في نفس الاختصاص، التاريخ، منها: النشاط الصهيوني بتونس (1897 1948) (2001)، ونقابات الأعراف التونسيين (1932 1955) ( 1983) و انتفاضات الفلاحين في تاريخ تونس المعاصر : مثال 1966 ، بيت الحكمة تونس (1994) و الجدل حول الإمبريالية منذ بداياته إلي اليوم (1994) و تاريخ تونس الاجتماعي 1956 (1997) و الاستعمار الرأسمالي والتشكيلات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية: الكادحون الخمَّاسة في الأرياف التونسية (1861 1943) (1999) و في أصول الحركة القومية العربية (1839 1920) (2002) و مفهوم التاريخ وتاريخ المفهوم في العالم الغربي من النهضة إلي العولمة ، (2003) و مفهوم الامبريالية من عصر الاستعمار العسكري الي العولمة (2004)، و تونس 1956 1987 (2006) .
نظرة للتاريخ
في إطار محاولتك فهم المنطق الدّاخلي للتاريخ التونسي قبل الاستعمار الحديث، جئت بفرضية نمط الإنتاج المخامسي واعتبرت أنماط الإنتاج الأخري مثل نمط الإنتاج الإقطاعي أو نمط الإنتاج الآسيوي أو نمط الإنتاج الخراجي (سمير أمين)... غير ملائمة، فهل لك أن توضح لنا فرضيتك ؟
إشكاليتي هي التخلف والعجز العربي عن تبني الحداثة الغربية، أي تبني الرأسمالية والدّيمقراطية والدولة القومية والثقافة المتمحورة حول الإنسان لا حول الميتافيزيقيا. والمعروف أن المستشرقين قدموا تفسيرات لهذا التخلف مثل غياب العقلانية، والعزوف عن السيطرة علي الطبيعة، واستبداد الدولة واحتكارها للسياسة وللاقتصاد، وتبعيّة المدينة للدولة، وسيادة العوامل الفوقية مثل الدين والسحر والشعوذة... وهذه الأسباب وإن كنت لا أنفي صحّة الكثير منها هي أسباب متمحورة حول الذات الأوروبية ، أي مستمدّة من التاريخ الأوروبي فقط، فما به تقدم الأوروبيون اعتبر غيابه سبب تأخر العرب. ولقد حاولت أن أفهم الواقع النوعي الخاص للصيرورة التاريخية التونسيّة قبل الاستعمار الفرنسي، والجهاز المفاهيمي الذي اعتمدته هو الجهاز المفاهيمي للمادية التاريخية مع الاستئناس بالفرويديّة وبالبنيويّة، واعتبرت أن الماركسيّة التقليدية بحاجة إلي مراجعة لأنها عزت التخلف العربي إما إلي غياب برجوازيات علي غرار البرجوازيات الأوروبية، أو إلي غياب نمط الانتاج الإقطاعي، أو لوجود نمط إنتاج آسيوي... لقد كانت هذه الماركسيّة الكلاسيكية متمحورة هي أيضا حول الذات الأوروبية رغم إعلانها العكس. وقد قام المصري سمير أمين بقلب هذه الماركسيّة التقليديّة رأسا علي عقب، وبليّ العصا في الاتجاه المعاكس تماما، وصنع نظرية في التاريخ العربي الإسلامي يمكن اعتبارها متمحورة حول الذات الشرقية إذ رفض مقولة نمط الإنتاج الإقطاعي، وقال إن تخلف العرب راجع إلي هيمنة نمط الإنتاج الخراجي، وهو نمط إنتاج يشبه نمط الإنتاج الإقطاعي، لكنه نمط إنتاج صلب وغير مرن، ولا يمكن تجاوزه بسهولة، خلافا لنمط الإنتاج الإقطاعي الذي استطاعت البرجوازية الأوروبيّة تحطيمه بسهولة وبناء اقتصادها الرأسمالي.
إنني لم أقتنع لا بنمط الإنتاج الفيودالي، ولا بالخراجي، ولا بالآسيوي لمقاربة الواقع التونسي قبل الاستعمار، وقد شرحت ذلك في بعض كتبي بإسهاب. وقررت الانكباب علي دراسة القاعدة المادية للمجتمع التونسي دراسة ملموسة معمقة، وخاصة المنتجين المباشرين وعلي رأسهم العمال الخمّاسة (عمال ينالون خمس الإنتاج الحبوبي)، وتونس بلد فلاحي معروف منذ القديم (مطمورة روما). لقد اكتشفت أن الفقهاء المالكين استنكروا مؤسسة الخماسة لأنها في نظرهم عقد شغل ينطوي علي الرّبا والغرر وكراء الأرض بما تخرجه، واكتشفت أنهم نظروا إلي هذا العقد بمعايير التجارة ويوطوبيا المجتمع المساواتي ، وهذا ما يفسر أنهم لم يجدوا لهذا العقد إطارا شرعيا مناسبا، فاضطروا إلي الحيل الفقهية. ويمكن القول هنا إن العقل العربي ليس عقلا قياسيا (القياس) فقط كما يقول محمد عابد الجابري، إنما هوأيضا عقل مجبول علي النظر إلي المعاملات بمعايير التجارة ويوطوبيا المجتمع المساواتي (مدينة الفقهاء الفاضلة).
أعتقد أنني اكتشفت وجود نمط إنتاج خاص جدّا هيمن علي تونس منذ اندثار العبودية بها وحتي خضوعها للرأسمالية، سمّيته نمط الإنتاج المخامسي ، نسبة إلي العامل الخماس، لأن كل عقود الشغل في المجتمع (عقد الرعي، عقد المغارسة، عقد المساقاة، عقد تضمين الصناع في المدن...) تشتغل وفق الآليات التي تقوم عليها مؤسسة الخماسة. هذا لا يعني أني أخلط بين مفهوم نمط الإنتاج ومفهوم عقد الشغل كما اتهمني بذلك بعض الذين لم يقرؤوا ما كتبت، وما أكثرهم! لقد كان لا بدّ من اختيار تسمية لهذا النمط الانتاجي مستمدة من الواقع التونسي، ومن واقع الكادحين الفلاحين الذين كان لهم الفضل في صنع خيرات تونس علي امتداد قرون طويلة. ويمكن تعريف نمط الإنتاج المخامسي كما يلي: هو نمط إنتاج يتسم بالطابع التغيبي لملاكي وسائل الإنتاج، وبحصولهم بوسائل غير إقتصادية أهمها الرّبا علي الريع العقاري في شكل عمل من المنتجين المباشرين، علما بأن ذلك الريع لا يقتصر علي فائض العمال، وإنما يلتهم جزءا من العمل الضروري لإعادة إنتاج قوة العمل، الأمر الذي يؤدي بالمنتجين المباشرين عمليا إلي التخلي عن جزء هام من حريتهم الشخصية وذلك بالرغم من تمتعهم بحريتهم قانونيا، ورغم أن ميزان القوي الديمغرافي كان دائما لصالح هؤلاء الكادحين، فقد كانوا يعانون من استلاب ثقافي وديني ساحق. ونمط الإنتاج المخامسي نمط مغلق خلافا لنمط الإنتاج الفيودالي الذي كان الأقنان يتمتعون فيه ببعض الحوافز التشجيعية والمدن تتمتع فيه بكل حرّيتها. ونمط الإنتاج المخامسي وخلافا لما جاءت به الماركسية الكلاسيكية لم يشهد مرحلة صاعدة بأتم معني الكلمة، وإنما هو نمط إنتاج ولد شبه ميت (عدم تمتع العمال بأبسط الحوافز التشجيعية، تزييف وعيهم الطبقي من قبل الأولياء والطرق الدينيّة، الأوبئة، اختلال الأمن، تزامن ولادة هذا النمط مع ولادة الرأسمالية في أوروبا وبداية محاصرة هذه الرأسمالية لتونس). لقد كان نمط إنتاج شبه ميّت وليس ميّتا لأنّ تونس شهدت بعض الحيويّة اقتصاديّا وثقّافيّا في القرنين 14 و15.
إذن من الأسباب الرئيسية في رأيي لتخلف تونس هو نمط الإنتاج المخامسي الذي اخترعه المجتمع في فترة معينة، لكنه كان اختراعا باهتا وغير فعال ومغلقا إغلاقا محكما.
فيودالي وليس اقطاعيا
لماذا تتحدث عن نمط الإنتاج الفيودالي وليس الإقطاعي كما درج المؤرخون العرب علي ذلك؟
لقد عرّب المثقفون العرب الكثير من المفاهيم الغربيّة بطريقة خاطئة، فالإقطاع في التاريخ العربي الإسلامي مغاير تماما للفيودالية الأوروبية، وأغلب الإخوان المشارقة علي سبيل المثال لم يفهموا جيّدا كتابات سمير أمين وعرّبوا نمط الإنتاج Tributaire بالخراجي، في حين أن التعريب الصحيح هو إتاوي لأن الإتاوة فائض عمل وإنتاج بينما الخراج ضريبة حكومية، وسمير أمين يقصد الإتاوة وليس الخراج. أنظر كذلك كيف يطلق الكثير من الكتاب العرب كلمة استعمار علي حقائق مختلفة بعضها عن بعض، فالمعروف أن الاستعمار يمكن أن يكون كولونيالية ، كما يمكن أن يكون إمبريالية كما يمكن أن يكون عولمة ... إلخ.
أين مقولتك نمط الإنتاج المخامسي من الموضوعيّة التاريخيّة التي ينشدها كل مؤرخ؟
الموضوعية التاريخية حلم كل مؤرخ، وهي ليست سهلة المنال، لكنها ليست مستحيلة، وفي رأيي أن أقصي ما يمكن بلوغه هو جزء كبير من الحقيقة لا كلها، وهذا ما يفسر مشروعيّة ما يسمّي ب إعادة كتابة التاريخ الدائمة. وقد وضع المؤرخون والفلاسفة منذ القديم مناهج كثيرة تصوّروا أنها ستوصلهم إلي الموضوعية، لكن تبيّن لهم أن الواقع عنيد وأحيانا عنيد جدّا، وهذه المناهج كثيرة، فقد ظهرت منذ عصر النهضة الأوروبية الإنسانوية والرومنطيقية والوضعية والتاريخانية والماركسية والبنيوية والفرويدية و ما بعد الحداثة (انظر كتابي : مفهوم التاريخ وتاريخ المفهوم في العالم الغربي منذ عصر النهضة إلي اليوم). إن الرأي عندي هو أن المؤرخ عليه أن يستوعب جيدا هذه المناهج ويختار ما يريد منها، ولا يكتفي بهوس تجميع المعلومات من الأرشيفات، وعليه أن يكون جسورا ويتقدم بأطروحات ونظريات جديدة، ولا يهمّ إن أخطأ، لأن مسيرة العلم كما قال الفيلسوف انقلز هي الانتقال من خطأ فادح إلي خطأ أقل فداحة.
لماذا تتمسّك بالماركسيّة رغم كل النقد الموجّه لها الآن؟
أعتقد أن الماركسيّة هي الآن أفضل نظرية معرفة موجودة علي السّاحة الفكرية رغم كل نقائصها، فمفاهيم مثل نمط الإنتاج والتشكيلة الاجتماعية والدور الرئيسي للعامل الاقتصادي والصراع الطبقي... مفاهيم وجيهة جدّا، فمن ينكر اليوم أن الاقتصاد هو محرك التاريخ؟ ومن ينكر الصراع بين العمال ورأس المال؟...
إن الماركسيّة كمنهج للدراسة شيء وكبناء مجتمعي شيء آخر، ولا ينبغي الخلط بين المستويين. ما فشل في الاتحاد السوفييتي هو تطبيق معيّن للماركسيّة، لكن هناك تطبيقات أخري ممكنة. هل يمكن أن نخلط بين مجتمع طالبان في أفغانستان والإسلام؟ إن أغلب الذين ينقدون الماركسيّة من المثقفين العرب لا يعرفون عن الماركسيّة شيئا، وفاقد الشيء لا يعطيه. نقاد الماركسيّة في العالم العربي مثل نقاد الأدب، فكم هم نقاد الأدب في العالم العربي الذين يستحقون هذه التسمية؟ إن الأكيد أنه سيأتي يوم ينتج فيه العلماء نظرية أحسن من الماركسيّة، لكن إلي أن يأتي ذلك اليوم، فأنا متمسّك بالماركسيّة رغم أن لها نقائص هامة في ميادين مثل الدولة والفن والأدب واللّغة والدين، وأنا متفتح علي المناهج الأخري مثل البنيوية والفرويدية، لأن الانغلاق علي نظرية واحدة هو عين الضلالة.
البحث التاريخي العربي
ما تقييمك لواقع البحث التاريخي في العالم العربي اليوم؟
لقد حقق المؤرخون العرب قفزة كمية كبيرة في مجال البحث التاريخي، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن مدرسة أو مدارس تاريخية عربية رغم بعض المحاولات الرائدة مثل محاولات عبد العزيز الدوري (العراق) أو عبد الله العروي (المغرب) أو هشام جعيط (تونس)... إنه ليس من السهل بعث مدرسة تاريخية جديدة، أي اختراع منهج جديد، والمناهج السائدة في العالم العربي اليوم هي مناهج صاغها علماء غربيون. نحن لا نستورد البضائع فقط من العالم الغربي وإنما نستورد كذلك الأفكار. أما القول بأنه علينا أن نعود إلي ابن خلدون مثلا، فهذا وهم جميل لأن نظريات ابن خلدون رغم أهميتها العالمية ليست صالحة لفهم العالم العربي اليوم، وإنما هي صالحة جزئيا لفهم جوانب معينة من الواقع المغاربي في القرن الرابع عشر، ومن العبث كذلك اعتبار ابن خلدون مكتشف الماركسية. إن ابن خلدون عبقري، ما في ذلك شك، لكن لا ننسي أنه ابن القرن الرابع عشر، وعلماء الغرب قرؤوه وتجاوزوه مثلما فعلوا ذلك مع ابن رشد وابن النفيس والرازي... إلخ. كفانا عبادة للماضي لأن الإفراط في استهلاك التاريخ مضر بالأحياء كما قال الفيلسوف الألماني نيتشة.
أعتقد أن معوقات البحث التاريخي في العالم العربي اليوم هي ضعف التكوين النظري للكثير من المؤرخين، وتدخل الدولة في تدريس التاريخ، والخلط بين التاريخ والتربية المدنية، ومحدودية الإلمام باللغات الأجنبية، وضعف التكوين البيداغوجي للكثير من مدرسي التاريخ في مختلف مراحل التعليم، وقلة الاهتمام بترجمة أمهات الكتب الغربية، وسباق المؤرخين ضد الساعة للحصول علي لقب دكتور وذلك علي حساب التأني الذي يتطلبه البحث التاريخي الجاد.
هل يمكن الحديث بالنسبة إلي التاريخ العربي عن تاريخ قديم وتاريخ وسيط وتاريخ حديث وتاريخ معاصر علي غرار ما يفعل الأوروبيون؟
تحقيب التاريخ الأوروبي (قديم، وسيط، حديث، ومعاصر) صالح لأوروبا فقط، ولا يصلح للتاريخ العربي الإسلامي رغم أن الجامعة التونسية وجامعات عربية أخري تصر علي تطبيق هذا التحقيب الأوروبي علي تاريخنا، فكلمة وسيط علي سبيل المثال تعني بالنسبة إلي الأوروبيين الفيودالية والتخلف الحضاري بينما تمثل هذه الفترة الوسيطة بالنسبة إلي العرب أزهي عصورهم.
أعتقد أن هناك ثلاثة أحداث لا يمكن الاختلاف حولها بالنسبة إلي المنطقة العربية: الانخراط في الفعل الحضاري ظهور الإسلام، والاندماج في المنظومة الرأسمالية العالمية، والرأي عندي أن علي مؤرخي كل بلد أن يبحثوا داخل هذا التاريخ الطويل عن التحقيب الملائم لبلادهم، وربما المعيار الذي يمكن أن يعتمدوه هو نمط الإنتاج (المعيار الاقتصادي)، أما اعتماد معيار السلالات الحاكمة، فرغم أنه معمول به كثيرا في الجامعات العربية، إلا أنه معيار غير سليم لأنه يمكن لمجتمع أن يشهد تعاقب الكثير من السلالات الحاكمة لكن دون أن يطرأ علي قاعدته المادية أو هياكله الفوقية (الدين، الثقافة،...) أي تغيير يذكر.
كيف تري مستقبل علم التاريخ في عصر المعلوماتية؟
لا مجال لإنكار عظمة الثورة المعلوماتية، فهي ثالث ثورة تقنية في التاريخ الإنساني بعد الفلاحة والصناعة، وما توفره ثورة المعلومات والاتصال من وسائل للمؤرخ مفيدة جدا، لكن لا يمكن أن نتصور أن الحاسوب سيعوض الذكاء البشري. لقد كانت البوصلة اختراعا رائعا، لكن الذي اكتشف أمريكا هو كريستوف كولمبوس وليس البوصلة.
ما رأيك في ما يسمي اليوم في العالم الغربي ب تاريخ الحاضر أو التاريخ الآني ؟
قرأت بعض كتابات المتحمسين لهذا الإتجاه، فوجدت أنها مجرد تحاليل صحافية لا أكثر ولا أقل. يجب في رأيي أن تتوفر للمؤرخ مسافة زمنية تفصله عن الأحداث وتكون كفيلة بتزويده بحد أدني من الصفاء الذهني والرصانة.
انهيار الشيوعية وتحولات الصين
تحدثت منذ حين عن الماركسية كبناء مجتمعي. ما رأيك كمؤرخ في التاريخ المعاصر في أسباب الانهيار المذهل والمفاجئ للاتحاد السوفييتي؟
الأسباب كثيرة وهي:
إصرار البلاشفة علي قطع المراحل التاريخية بسرعة.
غياب الديمقراطية السياسيّة.
تجمد الفكر الماركسي.
العجز عن تطوير قوي الإنتاج لتحسين حياة الناس..
محاولة استئصال الدين.
اعتبار التقنية محايدة اجتماعيّا.
إيمان أصحاب القرار بالانهيار النهائي الحتمي للرأسمالية في أوروبا وأمريكا.
عدم حلّ مسألة القوميات غير الروسيّة حلاّ سليما.
تحول الأحزاب الشيوعية خارج الاتحاد السوفييتي إلي مجرد أبواق دعاية للسوفييت
الخلافات داخل المعسكر الاشتراكي.
الترهل البيروقراطي.
تحمل الدولة السوفيتيية لأعباء ثقيلة جدّا (التسلّح، إعانة حركات التحرر وبلدان كثيرة في العالم الثالث...)
الأخطاء القاتلة لميخائيل غورباتشوف.
وأهم سبب في رأيي هو تحول الحزب الشيوعي إلي أقلية برجوازية منفصلة عن المجتمع ومتمسكة بامتيازاتها ورافضة لأي تجديد في المجتمع.
وما يجري في الصين الشيوعيّة اليوم؟
حققت الصين منذ 1992 نموا اقتصاديا وعلميّا لافتا للانتباه، وأنا لا أعتبر بدعة إدخال جرعات من الرأسمالية في الاقتصاد الاشتراكي الصيني لتحسين أدائه، ألم تتدخل الدولة الرأسمالية بفضل عالم الاقتصاد كينز جرعات من الاشتراكية في صلب الرأسمالية لإنقاذها من أزمتها الكبري عام 1929؟ إن السؤال هو: هل ما يجري في الصين هو تحول بطيء نحو الاشتراكية أم هو تحول مستتر نحو الرأسمالية؟ لا أحد يستطيع الإجابة الآن.
العولمة والامبريالية
لماذ اعتبرت العولمة شكلا جديدا من أشكال الإمبريالية؟ كيف ذلك؟
لقد حل مصطلح العولمة منذ أواخر القرن العشرين محل مصطلحات مثل المجتمع الصناعي أو اقتصاد السوق. ومفهوم الامبريالية بالمعني اللينيني للكلمة (لينين) اختفي من خطاب اليسار العالمي، ومرد ذلك بدون أدني شك الي الهيمنة الساحقة علي العالم لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. والرأي عندي أنه يمكن تحقيق تاريخ الإمبريالية كالتالي: الفترة من أواخر القرن التاسع عشر إلي 1917 (الثورة البلشفية)، الفترة من 1917 إلي 1991 (انهيار الاتحاد السوفييتي) وأخيرا فترة العولمة وهي الفترة التي لا تزال متواصلة إلي اليوم، وهي المرحلة التي شهدت الأحداث التالية:
انهيار الاتحاد السوفييتي وتحول الهيمنة الأمريكية علي العالم إلي هيمنة ساحقة.
تحول الصين الاشتراكية إلي قطب عالمي.
تشكل الاتحاد الأوروبي.
نجاح الدول الامبريالية في إنشاء الخطط التنموية للأنظمة الراديكالية في العالم الثالث .
استنفاد السياسة الفوردية، الكينيزية في البلدان الرأسمالية لطاقتها القصوي.
ظهور ثورة المعلوماتية.
تحكم الشركات المتعددة الجنسيات (وأغلبها أمريكية) في غالبية النشاط الاقتصادي العالمي.
بروز مؤسسات عالمية لخدمة رأس المال (صندوق النقد الدولي، المنظمة العالمية للتجارة...).
تراجع نضال العمال والشرائح الوسطي ضد رأس المال في العالم الرأسمالي.
ولادة عالم رابع مهمش.
تثبيت قوة العمل علي تخوم النظام الرأسمالي العالمي (منع الهجرة العالمية إلي البلدان الرأسمالية).
اكتساح الثقافة الرأسمالية في صيغتها الأمريكية لكل العالم.
مستقبل القومية العربية
لقد أصدرت منذ ثلاث سنوات كتابا عن الحركة القومية العربية. ألا تزال مصرا علي أن لهذه الحركة مستقبلا؟
تعيش الحركة القومية العربية انحسارا متواصلا منذ هزيمة 1967، ولا أدل علي ذلك من ظهور حزب مصر الأم (2003) في مصر قلعة العروبة ، وهو الحزب الذي يطالب جهارا بتحرير مصر من العروبة وجعلها مصرية خالصة!
ويعود هذا الانحسار في رأيي إلي الأسباب التالية:
معارضة التحالف الإمبريالي، الصهيوني لأية وحدة عربية مهما كان نوعها وشكلها.
رسوخ الكيانات القطرية (مصر، تونس، المغرب الأقصي...).
التباين في التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الأقطار العربية.
غياب الديمقراطية.
الذوبان التدريجي للشرائح الوسطي بفعل سياسات الانفتاح (مثال مصر).
عدم حل مسألة المجموعات غير العربية حلا ديمقراطيا (الأكراد، البربر، الأقباط،...).
غياب النظرية والبرامج الواضحة.
التسرع والارتجال (الوحدات الكثيرة بين ليبيا وجاراتها).
محدودية الثقافة السياسية لأصحاب القرار.
الصراع علي الزعامة بين الحكام العرب.
ازدهار حركات الإسلام السياسي.
الويلات التي جرتها علي العراق وعلي العالم العربي محاربة النظام البعثي العراقي لايران واحتلاله للكويت.
إن قدر العرب هو أن يتحدوا لأنهم مهددون بالخروج نهائيا من التاريخ، وربما بالانقراض كما حصل للهنود الحمر أوللأزتاك. إن الوحدة العربية ليست يوطوبيا في عصر التكتلات الكبري. ليتعظ العرب بما فعله الأوروبيون الذين اتحدوا رغم أن مقومات الوحدة بينهم ضعيفة جدا مقارنة بمقومات الوحدة العربية.
لقد كان أول كتبك عام 1981 النشاط الصهيوني بتونس بين 1897 و1948 الذي كتب لك توطئته الشاعر الكبير محمود درويش، فما رأيك في ما آل إليه الصراع الفلسطيني العربي الصهيوني؟
إن من نافل القول إن قضية الشرق الأوسط ليست صراعا بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإنما هي صراع وجود بين الأمة العربية والتحالف الإمبريالي الصهيوني.
لقد عملت الدول الرأسمالية العظمي علي زرع إسرائيل في قلب المنطقة العربية، وذلك منذ محاولة محمد علي قبيل أواسط القرن التاسع عشر خلق كيان عربي مصنع وموحد وقوي حول مصر، والأسباب هي:
العداوة التاريخية الحضارية بين العرب وأوروبا منذ ازدهار الإسلام وتحوله إلي إمبراطورية عظمي.
الموقع الاستراتيجي للوطن العربي.
الثروات العربية وعلي رأسها النفط.
ولقد عملت الدول الامبريالية في الفترة الأخيرة علي منع العرب من امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وفي اعتقادي أن احتلال العراق حاليا هدفه حماية اسرائيل وليس الحصول علي النفط، لأن الأمريكيين قادرون علي الاستحواذ علي هذا النفط بالوسائل الاقتصادية التي يتقنونها جيدا.
إن الصعوبات الكبري التي تمر بها القضية الفلسطينية راجعة إلي التردي السياسي الذي سقط فيه العرب، وان المرء ليصاب بالدوار عندما يعلم أن العرب أتيحت لهم ثروة (النفط) لم تتح لأمة في التاريخ، لكنهم بذروا تلك الثروة وحولوها من نعمة إلي نقمة. صحيح أن الأنظمة السياسية العربية حسنت كثيرا من مستوي عيش السكان، وحاضر العرب ماديا هو اليوم أفضل مما كان عليه في أي عصر مضي، لكن العرب قادرون علي الدخول من جديد في التاريخ لو تخلي أصحاب القرار عن الأخطاء القاتلة التي يواصلون ممارستها وهي الاستبداد واضطهاد المثقفين والتبذير والأنانية القطرية والتطبيع مع إسرائيل والاحتماء بالدول العظمي "الصديقة"، والتفسيرات الماضوية للإسلام، وعدم الوعي بأنهم ورثاء أمة عظيمة.
المثقفون العرب
كيف تري دور المثقف العربي اليوم؟
لنعتبر من باب التبسيط أن المثقف هو كل متعلم من طراز رفيع نسبيا ومنتج للمعرفة ومهتم بصفة نشيطة بمشاكل بلده وأمته وعصره، ونترك جانبا الجدل المعروف حول ماهية المثقف (تعريفات غرامشي ومانهايم).
لقد أدي إدماج العرب في المنظومة الرأسمالية العالمية بالطريقة التي نعرف (الاستعمار المباشر وغير المباشر) إلي ميلاد صنفين من المثقفين: صنف متمكن من التراث لكنه جاهل للعالم الراهن أو رافض له، وصنف عارف بالعالم الراهن ومبهور به لكنه رافض للتراث أو معرفته له محدودة، وهذان الصنفان من المثقفين عاجزان عن القيام بدور إيجابي حقيقي، وما هو مطروح في جدول التاريخ العربي الراهن هو إيجاد صنف جديد من المثقفين، صنف عارف بماضيه معرفة نقدية وعارف بالعالم المعاصر، وعامل علي أن يتوحد العرب ويتحولوا إلي منتجين للحضارة لا مجرد مستهلكين لما ينتجه الغير؛ علي أن يكون الطريق إلي ذلك تنمية وطنية ديمقراطية ومعتمدة علي الذات ولصالح أغلب طبقات الأمة.
أصبح الحديث يدور عن الديمقراطية وكأنها مصباح علاء الدين السحري الذي سيحول العالم العربي لو طبقت إلي جنات عدن، فما رأيك؟
الديمقراطية شرط ضروري وحاسم لكنه غير كاف لحل مشاكل العالم العربي، لكن لا بد من الاعتراف بأن الديمقراطية لا تزال مع الأسف مطلب النخبة لا مطلب الجماهير العربية، والأسباب كثيرة أذكر من بينها:
الموروث الإسلامي القائم علي باراديغم طاعة الأمير، والمعروف أنه لا يوجد أثر لكلمة حرية في التراث العربي الإسلامي (انظر علي سبيل المثال لسان العرب وهو أعظم قاموس لغوي عربي). الحرية الوحيدة الموجودة في الجهاز المفاهيمي الإسلامي هي حرية الإنسان الحر مقابل الإنسان العبد. وأسوق هنا حادثة طريفة، فعندما وصل الملك الفرنسي لويز فيليب إلي الحكم عام 1830، نزلت جموع من الجزائريين تهتف بحياة الري فيليب. (الري تحريف لكلمة Roi الفرنسية أي الملك)، وعندما سقط النظام الملكي عام 1840 وقامت الجمهورية في فرنسا، نزلت نفس الجموع تهتف بحياة الري بيبليك ظنا منها أن كلمة rebuplique جمهورية تعني ملكا (ري) اسمه بيبليك. إن هذه الجموع مثلها مثل أغلب الجماهير العربية اليوم لا تتصور إمكانية أن يعيش شعب دون ملك! والملك في نظر هذه الشعوب معناه الشخص الذي له الحق أن يفعل ما يريد برعيته.
عدم ارتباط الديمقراطية في العالم العربي بتحول مجتمعي حاسم ومصيري علي غرار ما جري في أوروبا إبان الصراع الضاري بين الإقطاع والبرجوازية حيث كانت الديمقراطية مسألة حياة أو موت بالنسبة إلي البرجوازية.
قدم مؤسسة الدولة المركزية وعراقة تقاليد الانصياع لها في بعض البلدان العربية (مصر، تونس، المغرب الأقصي).
المفعول الهدام للعصبيات الضيقة (القبيلة والجهوية) وخاصة التعصب الديني الذي شوه صورة الإسلام في العالم قاطبة.
الاستبداد الذي يمارسه الحكام.
التطور الكمي والنوعي الهائل للأجهزة الإدارية والبوليسية وأجهزة الأحزاب الحاكمة والتداخل فيما بينها .
إنّ المستبد اليوم في العالم العربي ليس الحاكم فقط وإنّما كذلك الأب والأم والمعلّم والأستاذ والدّكتور في الجامعة: هذه الحقيقة المرّة، ولا بدّ من عمل توعويّ طويل النّفس لكي تصبح الديمقراطيّة ضرورة حياتيّة كالدّين أو الخبز أو الصحةّ، لكنّ هذا لا يعني أبدا أنّ الحكام العرب ليسوا مطالبين اليوم بممارسة الدّيمقراطيّة. يجب أن نبدأ بممارستها رغم ما ستعترضنا من صعوبات.
ہ كاتب وصحافي من تونس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.