* سؤال قد يصعب الإجابة عليه إذا أردنا الإستعانة بالمنهج التحليلي في قراءة خطاب سيف لأن ذلك يتطلب البحث عن الشروط الموضوعية والعلاقات البنيوية "والقوانين" التي تحكم "نظام" القذافي وهذا يعتبر ضرباَ من الخيال في الحالة الهلامية التي تعيشها ليبيا. يبقى أمامنا المنهج التأويلي الذي يعتمد على قراءة التاريخ وتجربة "نظام القذافي" عبر ثلاث عقود مضت فضلا عن الإستعانة بالمعلومات والأخبار المتوفرة عن الوقع في البلاد. علينا في البداية أن نطرح سؤالاَ مهما حول مفهومي التغيير والإصلاح، أي مدى إمكانية تفكيك العلاقة بين عمليتي التغيير والإصلاح، وهل يمكن أن يحصل إصلاح قبل أن تسبقه عملية التغيير سواء كان التغيير كبيراَ أم صغيراَ؟ قي الواقع هناك صعوبة في تعيين مواضع الفصل بينهما، وتبدو المشكلة أكثر أهمية وصعوبة إذا تعلق الأمر "بإصلاح" أوضاع دولة أو بلد، فالإصلاح يستدعي القيام بالتغيير في الأفكار والأشخاص والسلوك والممارسة، فعلى سبيل المثال إصلاح السياسات والبرامج يقتضى تغييراَ فيما تطرحه هذه السياسات والبرامج من توجهات وأفكار، فضلاَ عن تغيير القائمين على التنفيذ وأدوات وأساليب التنفيذ نفسها. هذا الأمر يعني أنه كلما تطلب الأمر إصلاحاَ ما، تطلب بالضرورة تغييراَ قد يكون جذرياَ أو جزئياَ تبعاَ لمتطلبات ومقتضيات عملية الإصلاح نفسها، أى لن يحدث الإصلاح إلا في ظل التغيير. في هذا السياق نرى أن القراءة الأولوية لخطاب سيف القذافي - في ظل حالة إنعدام الثقة وفقدان الأمل من قبل أغلبية الليبيين – ترسم حلقة مفرغة من التبرير والاجترار الذي يتلازم فيه حرص ابن القذافي على التمسك بدور أبيه (القذافي) من ناحية، وعدم الإشارة إلى تحميله أية مسؤولية عن كل ما حدث في ليبيا على امتداد ثلاث عقود من ناحية أخرى. أيضا هذه القراءة توضح - وفي أكثر من موضع - نقدا من قبل سيف القذافي لممارسات "تجربة" جاء بها القذافي الأب نفسه ووضع خطوطها نظرياَ وعملياَ، وفرضها على الشعب الليبي، وهذا الأمر بدوره يطرح الكثير من علامات الإستفهام حول توقيت ودوافع واحتمالات هذا الخطاب. أولاَ: بالنسبة للتوقيت : هل يأتي هذا الخطاب كمثيله في العام السابق، حيث أطلق سيف تصريحات بدأت شبه متفائلة حول عملية التغيير والإصلاح، وذلك قبيل ذكرى الإنقلاب، بقصد رفع درجة التوقعات والتفاؤل لدى الشعب الليبي الذي تزداد معاناته واستلابه يوما بعد يوم، ثم بمجرد مرور هذه الذكرى ينتهى كل شيء دون تحقق تغيير أو إصلاح على الإطلاق. ثانياَ: من ناحية الدوافع : السؤال يتمحور حول استمرار سيف في نقد الأوضاع الليبية التي أوجدها القذافي. هل هو محاولة لامتصاص حالة الغضب والتذمر التي عمّت كل القطاعات والمجالات، وكل فئات الشعب الليبي في مختلف أنحاء، ومن هنا هل يأتي خطاب سيف القذافي كمحاولة لتفريغ هذه الشحنات المكبوتة لدى الشعب الليبي؟ ثالثاَ: على مستوى الاحتمالات : هل هذا الخطاب جاء لإيقاف احتمالات انتشار العنف، أو حتى اندلاع الفوضى بصور مختلفة نتيجة استشراء الفساد والاحتقان السياسي والاقتصادى والتدهور الاجتماعي. ولعل أحداث 17 فبراير الماضي قد كشفت مدى ضخامة الاحتقان الداخلي القابل للانفجار. وفي ضوء ما أشرنا إليه يمكن أن نورد بعض الملاحظات، وهى أن سيف القذافي يريد من الشعب الليبي أن يقبل "الوعود" المطروحة بدون نقاش. أى يريد من هذا الشعب أن يقف عند حدود التلقي المباشر، وفي نفس الوقت أن يجتهد في أن يكون هذا التلقي بأكبر قدر من التفاؤل، وبدون تساؤل وشك في الوعود. ومن هنا المطلوب من الشعب الليبي قراءة خطاب سيف قراءة استسلامية ذات بعد واحد، وبعيداَ جداَ عن أي قراءة تشخيصية بأبعاد هذا الخطاب ومضمونه وأهدافه الحقيقية. وفي هذا المجال علينا أن نطرح الأسئلة التالية : - أين تقع مسؤلية القذافي عن كل ماجرى في ليبيا ولشعبها، حتى لوصدقنا أكذوبة بأنه ليس رئيس دولة أو حاكم، بل "قائد ثورة"، أو "قائد أممى"، أو "مفكر وزعيم" يخطط ويرسم السياسات ويوجه فقط؟ فإذا كان "السيد الوالد" غير مسؤول، فإذن من هو المسؤول؟ أو من هم المسؤولون؟ إذا افترضنا أن معمر القذافي ليس بحاكم أو رئيس دولة، ومع ذلك فإنه يتمتع بصلاحيات تفوق صلاحيات أى رئيس دولة أو ملك في هذا الكون، فهو يجتمع برؤساء الدول، ويلتقي بسفرائهم ومبعوثيهم، ويبعث بأبنائه لتمثيله في المحافل الدولية، وفي المحصلة النهائية هو يبت في كل كبيرة وصغيرة تخص ليبيا وشعبها، ومع ذلك يدعي بأنه ليس برئيس دولة ولا حاكم. هو "قائد" لا يتحمل أي مسؤولية، ولا تقع عليه أي مسؤلية. بمعنى أنه لا اختصاصات، ولا صلاحيات محددة ، ولا حدود ولا ضوابط عليه، هو شخص مطلق. إذا "صدقنا" خطاب سيف القذافي في مرجعية دستورية – صحافة حرة .. إلى آخر المقولات، فماذا سيكون وضع "القائد" معمر القذافي في المستقبل؟ هل سيبقى في دائرة المطلق؟ ثم إذا افترضنا أن الشعب الليبي على استعداد أن ينسى كل المآسي والنكبات والقتل والذل والقمع وإهدار ثروته ومقدارته، فهل يمتلك القذافي الشجاعة والمقدرة في أن يتحمل أي مسؤلية في المستقبل؟ الشعب الليبي حتى هذه اللحظة لا يدري ولا يعرف بأي صفة قانونية أو سياسية أو حتى "ثورية" تعطي لسيف القذافي الحق وتخوله أن يطرح ما يطرح؟ وهل بحكم كونه ابن القذافي يستمد "شرعيته ومشروعيته" في طرح ما يريد متخطياَ ما يسمى بالمؤتمرات واللجان الشعبية وكل الأجهزة التابعة للسلطة؟ مما يعني أن "سلطة الشعب" برمتها هي أكبر كذبة في تاريخ وحياة الليبيين، وهي عبارة عن مؤسسات شكلية كرتونية، وأشخاص بدون صلاحيات في كل المواقع والأجهزة. إن الحديث عن الانتقال من "الثورة / الإنقلاب" إلى الدولة لن يكون مجدياَ، إذ لم يتحقق الفهم الحقيقي الواقعي للمشكلة الليبية من جذورها، وهذا يتطلب إيجاد آليات صحيحه للتغيير وليس التطوير لنظام فاسد، فالأزمة الليبية تطال التكوين السياسي العام لنظام القذافي ككل، فما أكثر ما تغيرت الشعارات والأطروحات دون أن تتغير طبيعة الأزمة السياسية ومسبباتها، فحالة ليبيا تحت سلطة القذافي حالة مزمنة ومكوناتها تعيد إنتاج نفسها مرة بعد أخرى. أما التحليق ب "الوعود" فوق السحاب، فلن تغير من الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي السيء شيئاَ بالنسبة لليبيين ما لم نتعامل واقعياَ مع الفساد من جذوره، ومع الفاسدين والمفسدين في مواقعهم، بما يقتضيه التغيير - إن لم يكن الاستئصال - قبل أن نصل إلى مرحلة الإصلاح. إن غالبية الشعب الليبي - بسبب طول المعاناة والظلم وفقدان الثقة في "النظام" وفي كل ما يأتي منه – لا ترى في إعادة رسم الواقع الليبي بصورة وردية حسب "رؤية خطاب" سيف أي آلية لخلق واقع جديد يمكن أن يتحقق في القريب المنظور. لعل سيف قد عبر في خطابه عن مفاهيم "إصلاح" أنتجها حاضر قد أصبح هو الآخر بالنسبة لليبيين ماضياَ، يحاول به دغدغة مشاعر الشباب وكل الليبيين المتعطشين بشدة وبأي طريقة للتغيير. الشعب الليبي اليوم يدرك أكثر من أى وقت مضى أن"المطامح" التي غازلها أو ادعى تبنيها "السيد" سيف، وكل العبارات المنمقة والألفاظ التي تبدو جديدة للبعض، لا تعدو سوى امتداد لنفس الوعود السابقة التي لم يتحقق منها أي شيء. كما أن الشعب الليبي يعرف تمام المعرفة أن هناك فارق كبير وشاسع بين الحديث عن "التغييرفي تركيبة السلطة"، ومسألة بناء الدولة كما يعد يها سيف. فالأولى ليست سوى تغيير شكلي لا يتجاوز تبادل أدوار المسيطرين على السلطة والثروة والسلاح. في حين أن الثانية تحتاج - إلى جانب الرؤية الثاقبة لواقع ليبيا - إلى إرادة سياسية حقيقية صلبة صادقة وشجاعة، يمكنها أن تفرض التغيير والإصلاح، فتنحي القذافي باعتباره أساس المشكلة ومصدر الإعاقة يقرأ عندئذ بوصفه علاجاَ إصلاحياَ لأزمة ليبيا ومأساتها. ------------------------ * مدير إذاعة صوت الأمل – دار الإذاعة الليبية بالمهجر