كان بودي أن لا أعود لأكتب في موضوع يتعلق بالحجاب باعتباره شأنا شخصيا يعبر عن جانب من الحريات الدينية التي هي جزء لا يتجزأ من الإسلام و الديمقراطية ولكن ما حيلتي و بعض القوى في تونس وخارجها تأبى إلا أن ترمي به في حلبة الصراع السياسي لتصبح المتحجبة من وجهة نظرهم تعبيرا عن مشروع سياسي يريد أن يفرض نفسه بهدوء و لكنه ينبئ بحلول أخطر الشرور على مكاسب المرأة التي تحققت على مدى القرنين الماضيين؟؟ . الحديث عن الحجاب باعتباره رمزا أو وشما كما يقول البعض ، وخطوة أولى ستتلوها لا محالة خطوات أكثر خطورة على مكاسب المرأة التونسية ، كما يؤكد البعض الآخر ليس حديثا خاليا من كل مصداقية ، وبالتالي قد يكون من الأفضل أن يتواصل حوله الحوار الهادئ الذي يراد به الوصول إلى التقارب وليس التنافر و التحارب ، و لعل ذلك يحتاج أولا و أخيرا إلى التوافق على أرضية مشتركة يكون أساسها أولا احترام الحريات الفردية التي يجب أن تبقى فوق كل الاعتبارات لعلاقتها بكرامة الإنسان التي يجب صيانتها و ثانيا الإيمان بحق الرأي المخالف في التعبير عن نفسه مهما كان موقعه ومهما كانت مؤاخذاتنا عليه . القضية كما نراها تتبلور بالتدريج قد تجاوزت الشأن الشخصي لتصير معبرة عن النمط المجتمعي التي نريده في بلادنا ، و ان اتخذ شكل الحوار الفقهي و الجدل المعرفي و الممارسة الأمنية و ردود الفعل النضالية. فلا بد أن تتحدد المواقف بجرأة و شجاعة حتى يكون حديثنا في جوهر الموضوع وليس على هوامشه لأن كلا منا يريد على عجل تسجيل أكثر ما يمكن من النقاط على حساب خصومه السياسيين والأيديولوجيين وهو لا يدري أنه يحفر شروخا قد تؤدي فعلا إلى إرساء الطائفية . فالذين يقولون اليوم أن الحجاب يمثل وشما سياسيا لطرف سياسي "مهزوم "يحاول أن يلتقط أنفاسه و يأخذ مكانه في الحلبة من جديد لا يتحدثون من فراغ بل هم يدركون جيدا ما يقولون و يعبرون عن موقف سياسي واضح وهو أنهم سيستميتون في المقاومة حتى لا تتحقق أهداف الإسلاميين التونسيين وسيستخدمون في حربهم تلك أجهزة الدولة التي تقع اليوم تحت تصرفهم ، فهي معركة سياسية يجدر أن يخوضها الفريقان بما لديهما من إمكانيات وهذا موضوع لا يهمنا في هذا المقال.. أما الذين يزيدون على ذلك قولهم أن الأمر هو بمثابة البداية التي ستنتهي إلى فرض التراجع عن مكاسب المرأة التونسية بدءا بحقها في التعليم والشغل وانتهاء بفرض تعدد الزوجات فيجب أن يكون ردنا عليهم ليس فقط بإلقاء التهم المضادة جزافا ولكن بشرح وجهة نظرنا ومآلات تفكيرنا بالقدر الذي يرفع كل التباس حتى يعرف الشعب حدود مشروعنا في هذه القضايا ويحرم الخصم من فرصة العبث في مناطق الظل التي نتركها و الاستفادة من الالتباس الذي من شأنه أن يمنع الرؤية الواضحة وبالتالي يفرض موقف التريث و التثاقل و التباطؤ في الانخراط في معركة الحريات لدى قطاعات واسعة من الشعب وهو موقف لا يخدم إلا قوى الاستبداد في بلادنا, بل انني أكاد أجزم أن القوم في سعيهم الدؤوب من أجل المحافظة على التوازن السياسي القائم يهدفون في الحد الأدنى إلى الحفاظ على موقف الشعب متريثا ممتنعا عن الانخراط في فعاليات المقاومة السلمية ،متمثلا المثل الشعبي " شد مشومك ليجيك ما أشوم"... لا شك أن هذا الزي الذي أخذ اليوم تسمية الحجاب قد ظهر في بلادنا مع ظهور التيار الإسلامي في بداية السبعينات من القرن الماضي وكان بحق يعبر عن مدى انتشار فكر هذا التيار في أوساط المرأة التونسية ، وقد خلّت السلطة بتشديد اللام بينه و بين الناس فقبله البعض ورفضه البعض الآخر وكان يشق طريقه بصعوبة بالغة بينهم لأن النساء التونسيات بشكل عام اعتبرن الملتزمات به يزايدن عليهن في انتمائهن للإسلام و أنه سيمنعهن مما يعتبرنه طبيعة في المرأة وهو" إظهار الزينة للرواج في سوق الزواج" ولعلها في الحقيقة ليست إلا عادة انتشرت بين النسوة بعد أن قطع الاختلاط بين الجنسين أشواطا كبيرة ، كان ذلك بلا شك نتيجة الاستجابة التي لقيها المشروع البورقيبي من المواطنين سواء جبرا أو اختيارا و لكن المسألة بدت و كأن هناك نمطا عاما للباس المرأة التونسية يتمثل في السفور للمرأة المتعلمة و الحجاب التقليدي الذي تتمسك به المنتميات للجيل المتقدم ، وجاء هذا الزي الجديد ليعكس تصورا للمرأة يختلف عن مشروع المرأة الذي يبشر به الخطاب الرسمي خاصة و أنه يهم فتيات المعاهد و الجامعات وبدأ ينتشر بين الموظفات و العاملات في مختلف مؤسسات الدولة ... ثم ساهمت سياسة تشجيع الكفاءات التونسية على التعاقد للعمل في أقطار المشرق العربي ثم كثافة رحلات العمرة على انتشار هذا الزي بعد أن قبلت به الأمهات المعتمرات بديلا عن لباسهن التقليدي ورأت فيه غيرهن من التونسيات شكلا مناسبا يسمح لهن بالحركة في الشارع و يلبي رغبتهن في الاحتشام ... و لم يلبث هذا الزي الذي كان في البداية معبرا كما أشرت على درجة توسع قاعدة الحركة السياسية الإسلامية بين الناس أن صار عنوانا انتشار الصحوة الإسلامية بين التونسيين و ذلك منذ منتصف الثمانينات عندما تعددت التنظيمات الإسلامية وصار كل منها " يغني على ليلاه" و ظهر بينها من هو المتشدد و من هو المعتدل وبدأنا نشهد ظاهرة النقاب ... وظهور النقاب هو بيت القصيد في هذا المقال لأن هناك من يروج اليوم أن الحركة الإسلامية التونسية تدعو إلى الحجاب في المرحلة الأولى ثم لن تلبث أن تصبح دعوتها إلى النقاب وما يتبعه من فرض العزلة على المرأة موضوعيا ومحاصرتها في البيت بما يقضي عمليا على مبدأ تكافؤ الفرص بين الجنسين وينتهي إلى النظرة الدونية للمرأة و يحول دون مساواتها بأخيها الرجل . فنحن بدأنا بالدعوة إلى وضع الخمار الذي يغطي الجيوب و اللباس الذي يستر كامل الجسم بصرف النظر عن الشكل وانتهينا إلى ظهور النقاب الذي يعني الجلباب الأسود و الخمار و النقاب الذي يغطي كامل الوجه و لا يترك إلا ثقبين في مستوى العينين وهو قريب من اللباس التقليدي الذي جاءت كل هذه المشاريع البورقيبية منها و الإسلامية من أجل تجاوزه بما يسمح للمرأة من تحقيق شروط مساواتها بالرجل و ينسف نتائج كل النضال الذي خاضه دعاة تحرير المرأة منذ الطاهر الحداد إلى ذلك اليوم ... و أزعم أن التصور الذي كانت تحمله حركة الاتجاه الإسلامي للمرأة هو أقرب لتصور الطاهر الحداد منه إلى النظرة التقليدية التي لا زالت سائدة في أقطار الجزيرة العربية و أنه كان يحترم اللباس التقليدي التونسي و لكنه يرفضه كشكل مناسب للمرأة المسلمة التي يريدها متعلمة تقوم بأدوارها الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية و التربوية دون أن يعيقها عائق مادي أو معنوي ومن هنا جاء الاختيار على هذا الشكل الذي يمنعه المنشور السيئ الذكر 108 منذ 25 عاما . علما بأن الحركة لم تتبنى مطلقا الدعوة لفرض هذا الشكل على التونسيات وظلت تعترف لهن بحرية اختيار لباسهن حتى وإن قدر لها أن تصبح شريكا في الحكم . أحسب أن المرأة التونسية لها ما يميزها عن المرأة في المشرق العربي من هذه الناحية نتيجة لحرص دولة الاستقلال بصفة مبكرة على تمتيعها بحقوقها وأزعم كذلك أن الحركة الإسلامية لم تكن لتعارض جوهر سياسة تحرر المرأة ولكنها كانت تدعو التونسية لما تراه أوامر الشرع في تحديد شكل اللباس . و الدليل على ذلك أن الإشكاليات التي حدثت للمرأة المحجبة في تونس منذ ربع قرن كانت كلها بسبب تمسكها بوظيفتها و حرصها على مواصلة تعليمها وحقها في المشاركة في الشأن العام وليس بسبب إكراهها على البقاء في البيت و الانقطاع عن التعليم أو منع مشاركتها في الحياة العامة كما يتغنى بذلك دون دليل خطاب السلطة ومن يساندها. و لعله من المفيد في هذا الصدد أن أسرد حادثة عايشتها سنة 1986م عندما بدأت بمسقط رأسي مدينة المهدية ظاهرة النقاب و أحسب أن الأمر ليس ببعيد بالجهات الأخرى ، كانت الظاهرة بسبب تأثر بعض الفتيات المتحجبات بقراءة فقهية حاول نشرها بينهن أحد الطلبة الذين يزاولون تعليمهم الديني في السعودية.و يدعوهن إلى التجاوب مع فكر يتلخص بإيجاز في مبدأ " وقرن في بيوتكن " كان الحدث بالنسبة إلينا أبناء حركة الاتجاه الإسلامي غير مقبول بالمرة و كان شعورنا أن ما نعتقد أنه مكاسب للمرأة التونسية أصبحت مهددة إذا انتشرت هذه القراءة التي تزعم أنها أكثر التزاما بما يقرره الشرع الإسلامي بحكم أنها تنهل من منابع أرض الحجاز لكن ذلك لم يقنعنا بذلك و اعتبرنا أنفسنا في حقل تدافع مع هذا الفكر الدخيل الذي لا نرضى عنه لبناتنا وأخواتنا ، لم نقبل منذ عشرين سنة أن يكون الحجاب بداية والنقاب نهاية و أظن أننا لو كنا قريبين من سلطة القرار لشجعنا على اتخاذ الإجراءات التي ستحاصر ظاهرة النقاب وتمنع انتشارها حتى إن كنا ستحترم خيار المنقبات وحقوقهن وسنعمل على حفظ كرامتهن .ولعل ذلك من سمات الاعتدال الذي يوصف به التونسيون عموما و الإسلاميون منهم خصوصا ... و عندما أسمع اليوم أن هناك امرأة مسلمة في بريطانيا تصر على النقاب وهي تزاول مهنة التربية و التعليم في البلد الذي قبل بالمتحجبات موظفات في مختلف أجهزة الدولة واحترم معتقدهن الديني وحريتهن الشخصية في لبس الحجاب ، ولما أقرأ عن الضجة التي أحدثها قرارها بالاستعانة برئيس مجلس العموم البريطاني جاك سترو ثم رفع قضية ضد إدارة التعليم التي فصلتها عن الشغل ، أجد أن نفسي تميل إلى موافقة النائب البريطاني في موقفه ودعوة المنقبات هناك إلى التخلي عن خرقة القماش هذه التي قد ترمز إلى خيار المفاصلة و التميز وتعتمد دليلا على أن المسلمين في أوروبا يرفضون الاندماج وإن اعترف الأوروبيون بحقوقهم واحترموا معتقداتهم وشعائرهم الدينية . ذلك أراه من سمات الوسطية والاعتدال و قد يراه غيري تسيبا وانحلالا ، لكنه حقي المشروع في الاختلاف ووجه من وجوه المشروع الإسلامي الذي أدافع عنه من أجل مستقبل مشرق لبلدي ... *