وقع انتصار حماس الانتخابي مازال يدفعني إلى الحديث عن الكثير مما أخفيته بين دفتي صدري يوم أن تيقنت بأن هزيمة بعض الحركات الاسلامية في مواجهة السلطان العربي ، لم تكن وليدة تعنت الأنظمة العربية في استيعاب تجربة الرأي الاخر فقط ، وانما مالم يدركه كثير من قادة هذه الأخيرة هو أن سياساتهم وطبيعة خطابهم وتعجلهم في الهرولة باتجاه السلطة أضف إلى ذلك حرص البعض على عدم التجديد والتشبيب كان وراء تواصل الكثير من الكوارث والمصاب في الجسم السياسي العربي والاسلامي. الواقعية والاعتدال الذين تحدثت عنهما كمطلب ملح لابد أن يحكم سياسة حماس في المقبل من المراحل ولاسيما بعد أن وجدت نفسها اليوم في مواجهة اكراهات مدريد وأوسلو وحزمة أخرى من الاتفاقات السرية ذات الطابع الدولي الثقيل ، هذه الواقعية لاتطلب اليوم فقط ممن أصبح على أعتاب ادارة الحكم والسلطة كما هو حال حماس في أيامنا هاته ، بل انها مطلب ملح يمضي على كل الحركات الاسلامية التي تنشد تغيير واقع مجتمعاتها باتجاه الأفضل ، سواء تموقعت هذه الحركات داخل قبة البرلمان كما هو شأن اخوان مصر والأردن وتجمع الاصلاح باليمن والعدالة والتنمية المغربية... ، أو تموقعت داخل أجهزة الحكم قيادة وتوجيها كما هو شأن عدالة وتنمية تركيا أو المؤتمر الوطني السوداني أو حتى التجربة الايرانية. واذا كانت هذه الصفات مطلوبة بالحاح اليوم ممن هو في سدة الحكم أو ممن هو في محل الشراكة فيها ، فانه أحرى وأجدر بمن هو في حالة الاقصاء والاضطهاد والمعارضة الاجتماعية التي لم تأخذ شكل المعارضة السياسية القانونية والشرعية ، أن يعرف بأن هذا الاعتدال وهذه الواقعية صمام أمان للخروج بالمنطقة العربية من حالة الاحتراب الداخلي المستمر ، سواء تعلق الأمر بالعلاقة مع السلطة أو تعلق الأمر بالعلاقة مع مكونات الفضاء السياسي المعارض. ومن البديهي بمكان أنه لاينبغي على الحركة الاسلامية اليوم أن تشعر بالحرج عندما يزايد عليها خصومها يمينا أو شمالا بتهم التفريط في الثوابت ، وكأن المقصود بالأمر أن يكون أصحاب الصفة الاسلامية أصحاب غلو وتشدد حتى يكتب لهم التمتع بالصفة الاسلامية النقية ، ولعلني أكون واضحا عندما أقصد بذلك بعض دعاة التيارات الاسلامية المأزومة والمغالية تعسفا في فهم النصوص واطلاق الأحكام الجاهزة ، كأن يدعو بعضهم من باب الجهل بثوابت الاسلام إلى حرمة عدم تطبيق أحكام الشريعة السمحاء في شكل متدرج ومرحلي يراعي أقضية الناس وحاجاتهم ، ولربمايشعر البعض بالحرج العظيم أمام هول الخطاب الكارثي الذي تقدمه القاعدة كنموذج للاسلام وتحاول أن تسوق من خلاله العالم والمنطقة إلى حالة غليان عام تنهار على اثره دول كاملة تحت اصر ووزر الاحتلال ، وهو الذي حدث فعليا على اثر غزواتها المزعومة حيث انهارت دول عربية واسلامية أمام وقع عساكر التكنولوجيا الفضائية في مواجهة جيوش عربية واسلامية تفتقد إلى أبجديات سلاح الطيران. إننا بلا شك أمام إحراجات مرحلة جديدة وحساسة يمكن أن يقودنا البعض فيها من أنصار الغلو اليساري أو الجنوح اليميني إلى حالات انهيار جديدة تقود المنطقة العربية والاسلامية إلى حالة مواجهة مفتوحة مع الغرب والقوى المتوغلة فيه ، أو ربما إلى حالات مواجهة داخلية تستنزف قدرات مجتمعاتنا وطاقات بلداننا في واد غير ذي زرع أو ثمر مفيد ، ولعلني احذر في هذا السياق من تداعيات ردة الفعل غير المحسوبة على استفزازات اعلامية تحركها بعض اللوبيات في الغرب قصد تأليبه بكل قواه ضد كل ماهو عربي واسلامي. وإذا كنا جميعا نغار على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونرفض المساس بكرامته ودعوته وشخصه وجوهر العقيدة التي دعى لها ، فانه حري بنا أن نكون من الحكمة بمكان عند التعاطي مع هذا الفخ الذي وضعه البعض على صفحات الاعلام الاسكيندينافي وهاهو اليوم ينتقل إلى إحدى الدوريات الاعلامية الفرنسية. ومن الواقعية والاعتدال المطلوبين من الأمة والشعوب المسلمة ومن يمثلها في الحكم والمعارضة وعلى وجه الخصوص الحركات الاسلامية التي هي محل دراسة هذا المبحث أن تلتزم بأقدار عالية من الرؤية النافذة والبصيرة الثاقبة بحيث لاتؤسس سياساتها على ردود الأفعال والانسياق العاطفي امام ضغط شرائح معتبرة من الجماهير ، فكما هو معلوم أن القيادة لابد أن تكون على درجة عالية من العلم والحكمة والاتزان بحيث أنها ترشد مسارات الناس وتطلعاتهم ولاتتركها للشعاراتية والمناسباتية وروح الثأر والانتقام أو غيرها من أشكال الأحكام الجاهزة على كل من اعتلى السلطة وسير الشأن العام. إنه من الثابت والثوابت أن من أسباب فشل الجماعات والهيئات والأحزاب في تحقيق مرادها الخيري ، هو انسياقها غير المدروس أمام قدرات غيرها وليس أمام قدراتها الذاتية والموضوعية وقبل كل ذلك ماتتحمله البلدان والمجتمعات والأوطان ، ولعلني أذكر أن تجربة الانقاذ الجزائرية شكلت اغراء جماهيريا انساقت وراءه بعض حركات الاسلام بمنطقة المغرب العربي ، حتى الت الأمور إلى حالة فشل ذريع سواء لأصحاب هذه التجربة في الجزائر او لشقيقات لها من دول الجوار. إنه من الواقعية بمكان ومن الاعتدال والوسطية في الطرح ألا تكلف نفس الا وسعها ، وهو مايمضي أيضا على الهيئات والجماعات كما البلدان ، حيث أنه لايطلب على سبيل المثال من قادة الشأن الاسلامي من القائمين على شؤون حركات الاحتجاج الاسلامي أن يحاكوا تجربة حماس في الانتخابات كما لمح إلى ذلك الأستاذ عزام الهنيدي زعيم كتلة الاخوان في البرلمان الأردني ، لمجرد أن هذه الأخيرة فازت في الانتخابات بأغلبية مريحة تخول لها تشكيل حكومة مازلنا لانعلم إلى حد الان حجم مايحيط بها من مؤامرات ومحاصرات ، كما أنه لايطلب من قادة الشأن الحركي الاسلامي معانقة تجربة العدالة والتنمية في تركيا دون اكتناز مكامن الاقتدار الاقتصادي والمالي والخبرة السياسية التي أتيحت لمثل هذا التيار. إنه محكوم على أصحاب الشأن في اتخاذ القرار لدى هذه الحركات بأن يسايروا الطموح بحسب القدرات والامكانات ، ولعله ان الأوان بأن تراجع بعض الحركات الاسلامية المعاصرة التي تعثرت مسيرتها وتخلفت عن مسار تصاعدي مليء بالانجازات لدى حركات أخرى أخطاءها وليس اخطاء واثام حكوماتها في حق الحرية فقط.. إذ أنه من السهل أن نتهم بعض حكوماتنا بالتخلف والتسلط وقد يكون شأن معظمها كذلك ، ولكن من الصعب أن تراجع هذه الأحزاب والحركات خطابها على ضوء خصوصيات ومتطلبات الواقع العربي والاسلامي العام ، فمثل هذا الواقع لابد أن يخرج بلا رجعة من حالة الاحتراب والصراع الداخلي إلى حالة البناء الجماعي والوطني الشامل الذي يتعاون فيه الجميع على النهوض بالأوطان والمجتمعات. فالسياسات الحركية الاسلامية لابد أن تعدل باتجاه خطاب طمأنة الجماهير والحكومات وعدم اشعار ذوي الشأن بالاستهداف الذي يحملها على غلق الباب أمام ارادة الاصلاح التي يحملها جمهور الحركات الوسطية المعتدلة ، كما أن هذا الاعتدال وهاته الواقعية لابد أن تتجه صوب القوى الوطنية المؤثرة سواء كانت من اليسار أو اليمين وكذلك تجاه النخب النافذة في الوظيف العام ، اذ أن هذه النخبة تعتبر تيارا صامتا لكنه يمثل عصب الدولة الهادئ الذي يستحيل دونه سير الشأن العام ، ولعله من الغفلة بمكان أن يعزف الخطاب السياسي والحركي عن الاهتمام برأس المال وذوي الوجاهات الاقتصادية حيث يشكل هؤلاء فيتو قوي على كل الحكومات سواء تشكلت باتجاه المحافظة أو باتجاه الحراك الاصلاحي العام. ومن مقتضيات المرحلة التي أود أن أكون قاسيا فيها إلى حد العظم مع من يمثل قادة الحركات الاسلامية الوسطية في بلاد العرب ، قضايا تجديد الدماء وتشبيب الهياكل والأطر ، حيث أن من أسرار نجاح عدالتي وتنميتي تركيا والمغرب في التعاطي مع الشأن العام وجود وجوه شابة من الجيل الثاني على رأس هذه الحركات ، ولعل أسماء أوردوغان وغول وسعد الدين العثماني خير دليل على ذلك. إن الحركات الاسلامية يوم أن أوكلت أمرها للأسماء الكبيرة بحجم حسن الترابي سنا وميراثا وتاريخا دون أن تجدد دمها القيادي وجدت نفسها أمام حالة صدام مع سنن الله في الكون ، حيث ان التداول غلاب ومن عطله عطل ارادة الله في الجماعات والمجتمعات. ولذلك فإن رجلا بحجم اربكان يجد نفسه اليوم بعيدا عن الأضواء ولكن مشروع الاسلام المتدرج والعقلاني يسير في تركيا على انغام العضوية الكاملة في الاتحاد الأوربي ، وكذلكم شأن الطبيب الجراح الخطابي الذي غادر رئاسة حزبه في العدالة والتنمية المغربية ليسلم المشعل للدكتور العثماني وهو رجل في اواسط العقد الخامس. ومحصلة الأمر عندئذ أن الحركة الاسلامية العربية المعتدلة والتي تحرص على وسطية المنهج وتدرجه في تلبية حاجات الشعوب وأقضيتها ، تجد اليوم نفسها اذا أرادت فعلا النجاح في مسار الاصلاح الداخلي والوطني وفي النهوض بواقع الأمة ملزمة ولامناص من ذلك بتغيير خطابها وسياساتها وووجوهها اذا أرادت أن تختزل على أبنائها وشبابها مسيرة العذابات والالام التي لم تتحملها المعارضات العربية الأخرى ، ولكن حان لنا التساؤل عن حقيقة هذه العذابات وجوهرها فيما اذا كانت فعلا مجرد ابتلاءات اقتضتها الارادة الالهية ، أم أنها أكبر من ذلك تعود إلى حيث اتجه الخطاب الالهي "قل هو من عند أنفسكم" فهلا وقعت المراجعة بل قل المراجعات؟ * كاتب وإعلامي تونسي ومدير صحيفة الوسط التونسية [email protected]